X

بحث في التراث الأرثوذكسي

حكمة المجانين الجدد!

الأرشمندريت توما بيطار



باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

“ها أنا أرسلكم مثل خراف بين ذئاب، فكونوا حكماء كالحيّات، وودعاء كالحمام”. يا إخوة، هذه موهبة المؤمنين بالرّبّ يسوع المسيح، أنّهم خراف. والخراف تُساق إلى الذّبح كما سيق المعلّم إلى الذّبح. في العالم، هناك خراف، وهناك ذئاب. الرّبّ يسوع لا يشاؤنا أن نكون من بين الذّئاب، بل أن نكون، على مثاله، حملانًا للآب السّماويّ. وطبعًا، هذا الأمر يعني أنّ الإنسان ينبغي، كلّ يوم، أن يُعِدّ نفسه للموت من أجل يسوع. هذا، بشريًّا، مستحيل، لأنّ البشريّة “مضروبة” بالخطيئة؛ إذًا، “مضروبة” بـ”الذّئبيّة”! ومستحيل على الإنسان، بقوّة ذاته، أن يكون “خرافيًّا”. ولكن، هذا بعينه هو ما يشاؤه الرّبّ الإله للإنسان، لأنّ “الذّئبيّة”، في هذا العالم، نهايتها الهلاك. الذّئاب يفترس بعضها بعضًا، وتظهر قويّة وعنيفة، في هذا الدّهر. ولكن، القوّة والسّلطة والعظمة، في هذا الدّهر، لا تنفع. اختار الله لنا النّصيب الصّالح، أن نكون خرافًا. الخراف تبدو كأنّها تموت، كلّ يوم. ولكن، عند الله، الخراف تحيا، كلّ يوم؛ وتنمو، كلّ يوم. إذًا، هي تسير، في كلّ حين، من الموت إلى الحياة الّتي يعطيها إيّاها الرّبّ الإله من عنده، من فوق.

هكذا، يكون الرّبّ الإله قد أبطل حكمة هذا الدّهر. لذلك، يقول الرّبّ يسوع لتلاميذه: “كونوا حكماء كالحيّات، وودعاء كالحمام”. هو، في الحقيقة، لا يطلب منهم ذلك من باب التّمنّي، أو من باب الأمر. ولكن، هو يعطيهم أن يكونوا حكماء كالحيّات، ويعطيهم أن يكونوا ودعاء كالحمام. الكلام، هنا، هو بمثابة نفخة لروح الرّبّ القدّوس في وجوه التّلاميذ. إذًا، هو يحييهم بنعمة من عنده. هو يعطيهم حكمة من عنده. هو يصيّرهم ودعاء كالحمام. طبعًا، لا الحكمة، ولا الوداعة تفعل فينا، بصورة تلقائيّة. لكنّهما ينبثّان فينا، حتّى إذا ما انفتح كياننا، إراديًّا، على كلمة الله، تزوّدنا بالحكمة الّتي فينا. بكلام آخر، تفعّلت الحكمة الّتي فينا، وكذلك الوداعة. الإنسان لا يمكنه، في هذا الدّهر، أن يكون حكيمًا بقوّة ذاته. بإمكانه أن يكون حكيمًا بقوّة ذاته في الخطيئة. ولكن، لا يمكنه أن يكون حكيمًا في البِرّ. وكذلك الأمر، بالنّسبة إلى الوداعة. الإنسان، في هذا الدّهر، بسبب الخطيئة الّتي فيه، يميل إلى العنف والشّراسة، ولا يمكنه أن يكون وديعًا. لذلك، إذا ما طلب الإنسان هذه الحكمة الإلهيّة الّتي من فوق، وهذه الوداعة؛ فإنّه، عمليًّا، لا يكون سالكًا في حكمة هذا الدّهر؛ وتاليًا، يكون غبيًّا في ما هو لهذا الدّهر. لهذا، ليس غريبًا أبدًا أن يُعتَبَر الّذين يؤمنون بالرّبّ يسوع جماعةً من المجانين. المؤمنون بالرّبّ يسوع، إن لم يتبنّوا هذا الجنون العاقل، فإنّهم لا يصيرون على مثال معلّمهم؛ وتاليًّا، لا تستقرّ نعمة الله فيهم، ولا يُعطَون حياة أبديّة. الإنسان المؤمن بالرّبّ يسوع، في الظّاهر، هو إنسان ضعيف. ومع ذلك، ثمّة قوّة قائمة في ضعفه، وتفعل من خلال ضعفه، وتؤثّر في النّاس من خلال ضعفه. هذه القوّة جذّابة بين النّاس. هناك ضعف بحسب هذا الدّهر، لا يشتهي الإنسان أن يكون عليه. بالعكس، يتألّم، يتمرمر، إذا ما كان ضعيفًا، بحسب هذا الدّهر. أمّا هذا الضّعف الّذي يُبديه الّذين يؤمنون بالرّبّ يسوع، فإنّ فيه قوّة ممغنَطَة بقوّة الله. وهذه القوّة الممغنطة تجتذب النّاس، ولا يعرفون كيف، ولا يعرفون لماذا، لكنّهم ينجذبون إلى الإنسان الضّعيف القويّ، إلى الإنسان الهادئ الوديع، الّذي يبدو، في الحقيقة، كأنّه ليس أسهل من التّخلّص منه. ومع ذلك، يا إخوة، هذا الإنسان الضّعيف بالضّعف الإلهيّ يأسر النّاس، يأسر قلوب النّاس. هو كحبّة الحنطة الّتي تسقط في الأرض، وتبدو كأنّها تهترئ وتموت. ولكن، فجأة، تقذف حياة جديدة؛ فنرى الحبّة الواحدة تنتش خضرةً، وحياة جديدة لا حدّ لها. المسيحيّون الأوائل كانوا يردّدون إنّ دماء الشّهداء هي بذار الكنيسة، لأنّ الشّهداء، إذ كانوا يبذلون دمهم، كانوا يبثّون الحياة في ما حولهم، ويحرّكون النّفوس بصورة سرّيّة. كلّ شهيد كان يقضي، كان يُخرج أفواجًا جديدة من المقبلين على الإيمان بالرّبّ يسوع المسيح. المعادلة الخفيّة كانت أنّه كلّما ازداد العنف الّذي يقع على المسيحيّين، في الأوان الأوّل، كان الرّوح يتحرّك بقوّة أكبر، في نفوس النّاس. وبما أنّ الإنسان مطبوع على صورة الله لكي يصير على مثاله، فإنّ روح الرّبّ كان يغيّر الكثيرين بدماء الشّهداء. الحقيقة أنّنا نرى، في حركة التّاريخ، من الزّمن الأوّل للمسيحيّين إلى الزّمن الّذي نحن فيه، أنّ شهادة الدّم كانت في أساس انتعاش الكنيسة، ونهضتها، وتدفّق الحياة الإلهيّة فيها. في الزّمن الأوّل، مثلاً، في السّنوات الثّلاثمئة الأولى بخاصّة، كان يُفترَض، وفق الإحصاءات البشريّـة، أن يكون المسيحيّون قد زالوا، لأنّهم كانوا يعيشون في وسطٍ معادٍ لهم، وكانوا يُضطَهَدون معنويًّا وجسديًّا حتّى الموت! ومعروف أنّ المسيحيّين كابدوا، في الزّمن الرّوماني، حوالَي عشر اضطهادات، كانت كبيرة. ومع ذلك، كان المسيحيّون يزدادون عددًا. المسيحيّون لم يقاوموا بقوّة السّلاح لأنّ معلّمهم لم يشأ لهم أن يكونوا ذئابًا، بل أرادهم أن يكونوا خرافًا. لذلك، كانوا يقدّمون أنفسهم إلى الموت وهم يشهدون لاسم الرّبّ يسوع. كثيرون منهم كان يقول كلّ واحد منهم، عندما يُسأل عن اسمه: “أنا مسيحيّ. هذا هو اسمي”. كان يعتبر أنّ اسمه القديم لم يعد في الحسبان، وأنّه اقتنى اسمًا جديدًا، أي شخصيّة جديدة، أي حياة جديدة، واسمه الآن “مسيحيّ”. لذلك، الكنيسة قدّمت العديد من الشّهداء، في الزّمن الأوّل، كما اقتنت العديد من المؤمنين. من حفنةٍ من المؤمنين دخلت في كنيسة المسيح جموع كبيرة جدًّا، حتّى إنّ العالم الوثنيّ، في ذلك الحين، تحوّل كلّه إلى المسيحيّة بحلول القرن الخامس للميلاد. إذًا، المسيحيّون اقتحموا العالم، لا بقوّة السّلاح، ولا بالرّوح “الذّئبيّة”، بل بهذه الحكمة الجديدة الّتي منّ عليهم بها الرّبّ يسوع. اقتحموا العالم بالوداعة!
بعد ذلك، بخاصّة بعد قسطنطين الكبير، أو في زمانه، بدءًا من العام 312 م، شعر العديد من المسيحيّين بأنّ حركة الاضطهاد بدأت تخفّ، والكنيسة لم تعد تقدّم شهداء. لذلك، شعر العديدون بأنّ الرّوح أخذ يخفت. هناك، في تلك الفترة، بصورة خاصّة، اخترع روح الرّبّ، في أنفس عباد الله، ما يسمّونه، اليوم، “الحياة الرّهبانيّة”. الحياة الرّهبانيّة، بمعنى من المعاني، هي صيغة جديدة لحياة الشّهادة في المسيح. بعد شهادة الدّم، جاءت الشّهادة الرّهبانيّة، أو ما يسمّونه بـ”الشّهادة البيضاء”، وانتعشت الكنيسة، أو، بالأحرى، تابعت الكنيسة انتعاشها، بعد السّنوات الثّلاثمئة الأولى، لسنوات طويلة، وازدهرت الحياة الرّهبانيّة ازدهارًا كبيرًا. نظرة المؤمنين إلى الحياة الرّهبانيّة كانت استمرارًا لنظرتها إلى حياة الشّهادة الّتي بذلها المؤمنون الأوائل. لذلك، نحن نرى، بصورة خاصّة، في الفترة الممتدّة بين القرن الرّابع والقرن السّابع للميلاد، أنّ الحياة الرّهبانيّة انتعشت بشكل مدهش. أتتصوّرون، مثلاً، أنّ الإسكندريّة، الّتي كانت ثاني أﮐبر مدينة في العالم البيزنطيّ، في ذلك الحين، أي بين القرن الرّابع والقرن السّابع للميلاد، كانت نسبة الرّهبان فيها في حدود الـ 15%؟! طبعًا، هذا شيء مدهش، لكنّه واقع. الحياة الرّهبانيّة صارت هي المُرتجى والمُبتغى، وصارت هي النّموذج. وتكرّس، في الحقيقة، هذا النّموذج، بصورة خاصّة، بعد حرب الأيقونات، أي بدءًا من القرن التّاسع للميلاد. الرّهبان، في الكنيسة، صاروا هم المنارة، والنّاس صاروا يتعلّمون التُّقى والشّهادة والصّلاة والصّوم والفضائل من الرّهبان. لهذا السّبب، في وجدان الكنيسة أنّ الحياة في الرّوح لا تسري في كنيسة ما، في مكان ما، ما لم يكن فيها رهبان وراهبات. قيل، مثلاً، عن أحد الأساقفة إنّه انطلق إلى الشّرق الأقصى ليكرز بإنجيل المسيح بين الّذين لا يعرفون المسيح؛ فعمل طويلاً، لكنّ عمله لم يُثمر؛ فطلب أن يُرسَل إليه رهبان حتّى يُقيموا هناك، وحتّى ينصرفوا إلى حياة الشّهادة البيضاء، الّتي هي صوم، وصلاة، وسهر، وتعب، ومحبّة، وبذل، وبكاء من أجل العالم، استنزالاً لروح الرّبّ. وبعدما أُرسل إليه رهبان بفترة، أخذ العمل، الّذي كان قد بدأ به، يُثمر. لماذا أخبركم بكلّ هذا؟! – أخبركم بكلّ هذا لأقول إنّ الكنيسة الّتي ليس فيها شهداء تنتهي كنيسة دهريّة، من هذا الدّهر. وامتدادًا لهذا القول أقول: الكنيسة الّتي لا تُفرع رهبانًا، أي أصحاب شهادة بيضاء، تتحوّل إلى كنيسة اجتماعيّة، أي إلى كنيسة دهريّة. لهذا السّبب، إذا كنّا نعاني، اليوم، كما عانينا في الأمس، من أنّ ثمّة انحطاطًا في الحياة الكنسيّة، وبلادة في قلوب النّاس، والنّفوس منصرفة عن الرّبّ الإله إلى شؤون هذا الدّهر؛ فهذا كلّه لأنّه ليس هناك شهداء. الّذين يُقبلون، اليوم، على الحياة الرّهبانيّة هم أصحاب روح شهاديّة. ليس أيّ إنسان بقادر على أن يصير راهبًا، لا لأنّ الرّهبانيّة دعوة خاصّة، بل لأنّه لا يريد أن يموت! نحن مدعوّون إلى أن نموت عن هذا العالم لنحيا لملكوت السّموات! فالّذين لا يريدون أن يموتوا من أجل يسوع، هؤلاء ينتهي بهم الأمر بأنّهم يموتون لأجل هذا العالم!
إذًا، اليوم، يا إخوة، إذ نذكر القدّيس يوسف الدّمشقيّ، وهو نسبيًّا شهيد جديد، قضى في العام 1860، نذكره لنقول إنّ الكنيسة لا يمكن أن تستعيد نضارتها، ولا يمكن أن تستعيد رونقها وزخمها وقوّتها في ضعفها، في الرّوح، إلاّ في إطار روح الشّهادة. وحيث لا تكون شهادة بيضاء، تُمسي الحاجة، في الكنيسة، إلى الشّهادة الحمراء، إلى شهادة الدّم، حتّى تعود الكنيسة لتمتلئ من نور الله، ومن حضوره. إذًا، حاجتنا، اليوم، ليست إلى العلم الكثير، وإلى الأبحاث الكثيرة، وإلى الإدارات العظيمة… هذا ينفع قليلاً. لكنّ الحاجة، الآن وغدًا وإلى الأبد، هي إلى مَن يبذلون أنفسهم، أحياء أو أمواتًا، من أجل يسوع. هؤلاء لا يحيون في ذاتهم وحسب، بل الله يعطيهم حياته. ولكن، بحياتهم، تحيا الكنيسة، ونحيا نحن أيضًا. هكذا، ينوصل الحديث بالقديم. وهكذا، تستمرّ الكنيسة إلى المجيء الثّاني للسّيّد. آمين.

عظة في السّبت 10 تمّوز 2010 حول متّى10: 16- 22.

admin:
Related Post