X

بحث في التراث الأرثوذكسي

رُهْبَان ورَاهِبَات: جوهرُ الحَيَاة الرّهبَانيَّة المَسيحيَّة

محادثة أجرتها جينيفر شوارتز مع جون فرنسوا كولوزيمو


نقلها إلى العربية أيهم نقولا سعد

مقدِّمة

لا ترجع الأزمة التي نعيشها اليوم إلى أزمة اقـتصاديَّـة وماليَّـة، وإنـَّما إلى ما يُسمَّى بأزمةِ التمدُّن والتي يُـطرَح حولها تـَّساؤلات كثيرة فلسفيـَّة ورُّوحية. يُعرِبُ رهبانٌ وراهباتٌ، منذ أكثر من /2500/ سنة في البوذيّة وما يقارب /17/ قرن من الزَّمن في المسيحيّة، عن زهدٍ في هذه الحياة الدنيويَّة وجمع للتـَّبرعات والصَّدقات ممَّا هو أساسيّ وضروريّ، الأمر الذي يُعطي مفهوما ً نسبيـَّا ً للمعايير والقيم الاجتماعيَّة : كالغنى، الشَّرف أو الكرامة، السُّلطة، النـَّجاح الاجتماعي. يستمرُّ اليوم هؤلاء الرُّهبان والرَّاهبات بمحادثـتنا وطرح الأسئلة والاستفسارات علينا مِن قـَبيل :

-لماذا نحن نعيش؟
-ما الذي يُعطي قيمة ً للوجود؟
-هل يوجد حياة بعد الموت، ما يستحقّ بدوره أن نتخلـَّى عن مُـتع ومَلذات هذا العالم الدنيويّ ؟

يموت من أجل العالم و من أجل نفسه أيضا ً: إنَّ الخطوة الأولى للحياة الرُّهبانية هي انفراد وتوحُّد يخلق ظروفا ً مواتية تماما ً لحلول النـِّعمة الإلهيَّة.

ما هوَ الرَّاهب ؟

نبحثُ دوما ً عن إعطاءِ مدلولٍ وفائدةٍ للحياة الرُّهبانيَّـة، لكنَّ الرَّاهب بشكلٍ أساسيٍّ لا يُبدي نفعا ً لشيء، فكلمة monacos تتضمَّن كلمة monos التي تـُعطي فكرة َ عن الوحدانيَّـة ؛ ولبُلوغ ِ هذه الوحدانية، على الرَّاهب أنْ يمرَّ باختبار إزالة البرمجة لديه، حيث يجب عليه أن يختفي من على وجه الأرض. لذلك فإنَّ الخطوة الأولى للحياة الرُّهبانية هي إذا ً البداية، هي النـُّسك والتوحُّد. تحتاج هذه المؤسَّسةٍ القياميَّـةٍ أولاً لأنْ يموت الراهب من أجل الآخرين، من أجل العالم ومن أجل نفسه أيضا ً، هذا يعني أن يموت لاحتياجاته النـَّفسية، لأفـُـقِهِ التخيـُّـليّ، لمحفـِّزاتهِ ودوافعه النـَّفسية ومن أجل حياته الشَّخصية أيضا ً. إنَّ هذا النـُّسك هو من أجل تفعيل الظـُّروف الملائمة تماما ً لحلول النعمة : أيْ تقبـُّـل الإله من برنامج ٍ أو منهج ٍ واحد، من تعزيةٍ وحيدة مستقرَّة بالاتـِّجاه الشَّاقولي البحت، حتى الموت, الموت عـينه. إنـَّها الحياة الملائكيـَّة، الحياة الأخرويـَّة، التي تنقلبُ وتـترجَّحُ على الفور في الملكوت.

ما الذي، في حيَاة يَسوع المسيح أو في الكتابات، يُمكن أنْ يُـثبت جذرية هذه الفكرة ؟

ترجع هذه الفكرة الجذرية إلى كل الرموز النبوية الكبيرة في العهد القديم، بدايةً مع موسى في جبل سيناء : ″ لا تراني إلا وتموت ″ ثم إيليا الذي يجد الإله ″ في قمة الصمت ″، ويُعتبر الرسول يوحنـَّا مثالا ً كبيرا ً آخر في الإنجيل (العهد الجديد) : حيث يرتاح رأسه في العشاء السري على قلب السيد المسيح، وهكذا فإن نفـَسََه يتناغم مع نـَفـَس الإله المتجسد. فالصلاة إذا ً هي بالضبط هذا الانسجام والتناغم بين نـَفـَس الإنسان ونـَفـَس الله. إنَّ عدمَ النشاط يصنعُ من الرَّاهب مسافرا ً غير متحرِّك، يصبح جسده وروحه مخبره الخاصّ، هذا هو الوعد بالسعادة المُمْتـَحنـَة منذ هذه الحياة الدنيوية. يوجد في التـَّجربة الرُّهبانية تأمُّـل ديني كامل لحياة السيِّد المسيح : في ما يُقارب الأربعين سنة في الصحراء، في الجلجثة وفي الفصح، لكنْ وبشكل خاص في التـَّجلي الذي يُعتبر ملء الظـُّهور للألوهة في الطـَّبيعة البشريَّة وهو المنَـفذ إلى النور الأبدي ″غير الزائل″ بحسب ما يُسمى في التـَّـقليد الرُّهباني وهو الإشارة لوحدة بدون انقطاع مع الآب الأبديّ الحيّ.

يستبق الرَّاهب الحياة المُقبلة …

يعيشُ الرَّاهبُ الحياة المقبلة ويجعـل منها حياته الخاصَّة، وبهذا الشـَّكل تكون الحياة الرُّهبانية هي الإثبات العمليُّ لصحَّـة العقيدة الدينيـَّة. إنَّ هذا النـَّمط من الحياة المسيحيَّة ليس مخصَّصا ً من أجل مسيحيِّـين خارقين! بل على العكس هي جوهر الحياة المسيحيَّـة، فالرَّاهب لا يقوم إلا بإحياءٍ كاملٍ للوعد بالمعموديـَّة أيْ اكتسابُ مواهب الرُّوح القدس. ″ أصبح الإله إنسانا ً لكي يصبح الإنسان إلها ً ″ : إذا ً فإنَّ الحياة الرُّهبانية هي الهجرة باتـِّجاه هذه الحالة، هذا يعني بأنَّ الحياة الرهبانيـَّة تكون موجَّهة ً تماما ً وواضحة المعالم والإحداثيـَّات لبلوغ هذا الهدف، هدف إدراك الملكوت وعيشه في هذه الحياة الدنيوية، من بين البشرية المتبقــِّية كاملة، كحالة من الحياة المقبلة. لا يبحث الرَّاهب إذاً لأنْ يُحسِّن نفسه خُلـُقيـّا ً وإنـَّما يبحث عن الله في السَّلام، في الصَّمت وفي الصَّلاة.

ما هي أشراك (تجارب) الحياة الرُّهبانية ؟

لا يمكننا أن نقول بأنـَّنا ربحنا طالما أنـَّنا لم نصل للنهاية، حيث تزخر كتابات آباء الصَّحراء بسير حياةٍ لرهبان ٍ ضلـُّوا عن الطـَّريق لأكثر من 70 سنة. إنَّ الحياة الرُّهبانية هي سباقٌ حتى المَوت، وواحدةٌ من أكثر مخاطرها الكبرى هي الوَهم، لأنَّ الرَّاهب سينجز رحلة ً إنسانيـَّة مبنيـَّة على أساسات العقل الباطن الجَّماعيّ، سوف يقابل ملائكة وشياطين، سوف يشعر بالرُّعب، بالنـِّعَم، وبالنـَّشوة الرُّوحية، فإذا كنـَّا بالتـَّجربة نتثبـَّت من حقيقة العقيدة، فإنَّ ذلك لا يكون من تلقاء ذواتنا، بل من الضَّروري وجود موجِّهٍ ومرشدٍ لتعلـُّم جغرافيَّة هذه المناطق المكتشفة. تكمن طبيعة الخطر، في هذا البحث عن التـَّأليه، باعتقادنا بأنـَّنا نصلـِّي لله لكنْ في الواقع نحن نصلـِّي لأنفسنا، إنَّ هذا الوهم الرُّوحي هو الأكثر مأساويـَّة، ذلك لأنـَّنا، ضمن هذا العالم، نكون دائما مُستدركين بالغيريـَّة، بالعلاقة مع الآخر، وأيضا ً بالحياة الرُّهبانية، وبذلك سوف نجد أنفسنا ثانية بمواجهة الحماس والضَّلال والوَهم. إنْ لمْ يكنْ هنالك إله، فلنْ يبق هنالك إذا ً شيءٌ سيء في هذا العالم إلا الحياة الرُّهبانية، فتلك الحياة التي لم تجد الإله ولم تدركه لماذا تضع نفسها محطّ السُّخرية وتصبح مُضْحِكة أو أنْ تصبح أسوأ من حيوان متوحِّش وشرس. يُعتبر الضَّجر والاكتئاب الرُّوحي خطرا ً آخر يترقب الرَّاهب، إنـَّه شيطان نصف النـَّهار، فعندما نقول في أنفسنا أن نصف النـَّهار قد قارب على الانتهاء، وأيضا ً مرَّة أخرى، لم يحصل شيء … فإنَّ هذا الشـَّيطان يحثُّ الرَّاهب على الخروج، يتمتم له بأنَّ معركته لا قيمة لها وعديمة الجَّدوى، وبأنـَّه فشل في حياته، في هذه اللحظة بالتـَّحديد، فإنَّ الأسلوب الوحيد للمجابهة يكمن في الاسترخاء بانتظار ساعات أقلُّ سوداويَّة فالذي يقاوم مثل هذه الأزمات الاكتئابيـَّة الهَوَسِيـَّة يشعر بعدها بسعادة وفرح فائق الوصف، لذلك فإنـَّه من المتوجَّب أولا ً على الرَّاهب أنْ يقضي على كلِّ ما يسمح بتكوين هذه الظـُّلمة التي مكانها يمكن أنْ يُسَجـَّلَ النـُّور.

هل هم كثر مَن يبلغونها ؟

إنَّ الأمر ليس خطير على الرَّغم من فشل أغلبيـَّة الرُّهبان، حيث يبقى، على سبيل المثال، الفشل في الوصول إلى النـُّور أمر أساسيّ ومهمّ لأنَّ الفشل نفسه هو اقتراب من الله بشكل أو بآخر. إنَّ الدَّرس الكبير الذي نستقيه من الحياة الرُّهبانية يكمن بعجز البشريـَّة خارج النـِّعمة فالرَّاهب ليس بطل نيتشي، ولا يبلغ بإرادته الخاصَّة نهايته، لكنْ ضمن الفكرة نفسها القائلة بالتـَّسليم بعمل الله. يقدِّم الرُّهبان كلّ حياتهم لله ويبيـِّنون لنا بأنَّ هنالك غبطة حقيقيـَّة بالانتصار على عزلتنا الشخصيـَّة، لخلق فسحةٍ لعمل الله فينا.

هل تتطلب هذه الدعوة الإلهية ترتيبات خاصة ؟

لا يوجد جانبيـَّة نفسيـَّة محدَّدة لنصبح رهبان، حيث نلاحظ من أجل 1800 راهب في جبل آثوس تنوُّع كبير في السِّـيَر الشَّخصيَّة، الحساسيَّات والثـَّـقافات، فالحياة الرُّهبانيـَّة هي تأمـُّل في الصَّمت وفي النـُّسك تجاه الله لكلِّ ما تتألـَّف منه، بشكل ٍ فعليّ، السَّريرة البشريَّة، سوف يكتشف الرَّاهب بنفسه السَّريرة الثـَّـائرة للطـَّبيعة البشريَّة عندما تنقضُّ عليه الأفكار بعنف، سوف يعاين السَّرقة، الاغتصاب، الزِّنى والقتـل. لا تحمي الحالة الرُّهبانية من شيء، فعدم اختبار الرَّاهب لهذه الحقائق يعود لـكونه ضمن مؤسَّسة لتسويق بضائع للسـَّفر الرُّوحي. يتألـَّف التـَّرتيب الخاصّ لهذا النـَّمط من الحياة كما يبدو لي، بشكل أساسيّ، من امتلاك حساسيَّة فنيـَّة، بحيث يكون الرَّاهب هو النـَّحات لحياته الخاصَّة، فلا وجود للحياة الرُّهبانية دون فكرة أنَّ الوجود هو عملنا الأول، فلاهوت الرَّاهب هو إذا ً لاهوت الجَّمال، الذي يتميـَّز بدوره عن لاهوت الفلسفة والمحبَّة والحكمة.

على النقيض، إنَّ الحياة الرُّهبانية غير نافعة، لكنْ بما أنها تسبر الأجزاء الأكثر عمقا ً في الإنسان ألا يمكنها أن ترفع معها البشريَّة أجمع ؟

ينجلي التـَّأثير المدمِّر من الحياة الرُّهبانية، وهذا التـَّأثير هو دليل مضادّ دائم. يقول الرُّهبان لنا، لا، فالإنسانيـَّة سوف تنتهي ولا يُمكن أنْ تـُحدِّد نفسها بنفسها. إذا ً، أيّ فسحة من محبتنا نترك للإله السَّرمدي أو حتـَّى في أساليب طعامنا، شربنا، وعملنا ؟ إنـَّه الثـُّلث المستبعد من حياتنا، وبالتـَّالي فإنَّ عالم الخيرات، عالم الصَّخب والتـَّسلية بحاجة إذا ً لأديرة تلعب دور المراقب ودور المنارة في ظلمات الليل، لهذا السَّبب بعينه يقصد النـَّاس الرُّهبان، فهمْ وحدهم القابعون في هذه الواقعيـَّة الحدِّية من الحياة المسيحيَّة، دون أي ثمن محدَّد.

جون فرنسوا كولوزيمو هو كاتب، ناشر ومدرِّس لمادة مؤلفات آباء الكنيسة في معهد القدِّيس سيرجيوس اللاهوتي الأرثوذكسي في باريس. آخر أصداراته : الفكر الرؤيوي الروسي، الله في بلد دوستويفسكي (فايارد، 2008)

REFERENCE

Colosimo, J.F, 2009. “L’essence du monachisme chrétien”, Adresse URL : ‹ http://www.le-monde-des-religions.fr/articles/l-essence-du-monachisme-chretien.html ›.

admin:
Related Post