X

بحث في التراث الأرثوذكسي

نحن والنبوءة والتعليم

الأرشمندريت توما بيطار




باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

الرّبّ يسوع المسيح يعطي الويل لليهود، لأنّهم يشيّدون قبورَ الأنبياء، فيما آباؤهم قتلوهم. علاقتهم بالأنبياء هي علاقة شكليّة. تكريمهم، بالدّرجة الأولى، هو لآبائهم. والرّبّ يسوع، لأنّه يعرف ذلك، أعطاهم الويل. لو كان اليهود على دين الأنبياء، لتنكّروا لآبائهم، لأنّ الّذي يتمسّك بتعليم الأنبياء، يعتبرهم آباء له. “إذًا، تشهدون وترضون بأعمال آبائكم، لأنّهم هم قتلوهم، وأنتم تشيّدون قبورهم”. في أيّة حال، عادة تشييد القبور تبدو كأنّها تكريس لموت الأنبياء، فيما المهمّ أن نشيّد، في نفوسنا، صرحًا لتعليم الأنبياء؛ وتاليًا، لكلمة الله الّتي لا تموت. النّاس، في هذا العالم، يفتخرون بعلامات الموت، فيما كلّ إنسان سماويّ لا يفتخر إلاّ بعلامات الحياة الأبديّة. لذلك، لا قيمة، في الحقيقة، لإقامة الأضرحة، إلاّ إذا كنّا نعتبرها مواضع تنضح بالحياة، لا بالموت. نحن لا نتعاطى رفات القدّيسين، ولا أمكنة الشّهداء، لأنّهم ماتوا، بل لأنّهم أضحوا، بموتهم، مطارح للحضرة الإلهيّة، وصاروا، بمعنى، قرابين. لذلك، نحن نتبرّك برفاتهم، ولا نهتمّ بأن نتّبع أصولاً تؤكّد موتهم، وتقف عند حدود ما عملوه على الأرض. الأنبياء، عندنا، رجال لله، وهم يشدّوننا أبدًا إلى فوق، لأنّهم، في الحقيقة، شدّوا، بأجسادهم، السّماء إلى تحت، وجعلوها عشيرة النّاس.

إذًا، الرّبّ الإله، بإزاء اليهود، هنا، يكشف بواطنهم. “قالت حكمة الله: أرسل إليهم أنبياء ورسلاً، فمنهم مَن يقتلون ويطردون، لكي يُطلَب من هذا الجيل دم جميع الأنبياء الّذي سُفك منذ إنشاء العالم”. إذًا، أوّلاً، الشكليّة مرفوضة. وثانيًا، رجال الله لا يموتون لأنّ الله حيّ فيهم، ونحن نستطلع مواطن الحياة فيهم، أوّلاً وأخيرًا، في أجسادهم، وتعليمهم، وكلّ ما يختصّ بهم. في أيّة حال، نحن لا نقف عند حدود اللّحم والدّم، ولا عند حدود ترابيّة هذه الأرض. نحن نستطلع، دائمًا، الضّياء الّذي سُرّ الرّبّ الإله وارتضى أن يقيمه في ترابيّتنا. “الويل لكم، أيّها النّاموسيّون [الّذين يُفترَض بهم أن يكونوا معلّمي النّاموس]، لأنّكم أخذتم مفتاح المعرفة؛ فلم تدخلوا، والّذين أرادوا أن يدخلوا منعتموهم”! تجربة المعلّمين، بعامّة، هي أنّهم يظنّون أنّ ما يعرفونه من الكتاب هو لهم. وبالتّالي، هم يتصرّفون وكأنّ لهم ملء الحرّيّة في التّعليم ساعة يشاؤون، وفي الامتناع عن التّعليم ساعة يرون ذلك مناسبًا. والرّبّ، بصفيّه بولس، قال لتيموثاوس أن يعلّم في وقت موافق، وفي وقت غير موافق. ليس للمعلّم أن يُمسك عن الكلام ساعة يشاء هو، بل ساعة يشاء الرّبّ الإله الّذي يعطي الكلمة، والمعلّم يعلّمها. لكن، متى أوحي للمعلّم أن يصمت، لئلاّ يُلقي درره السّماويّة أمام الخنازير، فإنّه، حينئذٍ، يتوقّف عن الكلام. في ما عدا ذلك، عليه أن يتكلّم، بخاصّة، حين لا ترغب نفسه في ذلك، وحين لا يرغب الآخرون أيضًا. ينبغي أن تُسمَع الكلمة، في كلّ حال، لأنّها تعزّينا في آلامنا وأحزاننا وضيقاتنا. كذلك، إذا كانت الكلمة الإلهيّة لا توافق أهواءنا، فإنّنا نتفوّه بها، من باب أولى، لكي نتأدّب، ونعين الآخرين على التّأدّب بها. إذًا، الكلمة تأتينا، دائمًا، إمّا بعزاء، وإمّا بتأديب. لهذا، كان لا بدّ للكلمة من أن يُتَفَوَّه بها، في كلّ حال، إلاّ متى وضع الرّبّ الإله يده على فاه المتكلّم. الكتبة والفرّيسيّون كانوا منشغلين برصد يسوع، لأنّهم كانوا يطلبون “أن يصطادوا من فمه شيئًا لكي يشكوه”! حدّة الكلام، لديهم، وإلحاحهم إنّما كانا بقصد الإيقاع به. والإنسان، في مثل هذه الحال، متى حفر حفرة لغيره، وقع فيها. الكتبة والفرّيسيّون كانوا يجمعون على رؤوسهم كلّ إدانة بسبب عدم نقاوة طويّتهم. الرّبّ يسوع يعرف تمامًا كيف يقرأ ظواهر الأمور، لأنّه يعرف بواطنها تمامًا. لذلك، قال لتلاميذه: “احزروا لأنفسكم من خمير الفرّيسيّين” الّذي هو الرّياء. الفرّيسيّون يصنعون الخبز، الّذي هو التّعليم، ويستعملون خمير الرّياء. لذلك، حين يعلّمون، لا يرومون، في الحقيقة، ما هو لخير النّاس، ولا يشاؤون أن يتأدّبوا. وعلى الرّغم من ذلك، يقول الرّبّ، في شأنهم، أن يُسمَع كلامهم، ولا تُفعَل أفعالهم. لكنّ خميرهم، في كلّ حال، فيه رياء. المرائيّ هو الإنسان الباطنيّ الّذي يُظهِر شيئًا، ويضمر شيئًا آخر في باطنه، يمتدّ إلى النّاس، ويشاء أن يكون له المجد! المراؤون دائمًا يريدون غير ما يقولون، ويُضمرون غير ما يُظهرون. وعلى الرّغم من ذلك، نتعاطى تعليمهم، لما فيه من شذراتٍ إلهيّة.
من الأهمّيّة بمكان أن نميّز، في ذواتنا، بين التّعليم والمعلّمين. إذا استبان لنا أنّ المعلّمين على عدم نقاوة، نبقى مُجدّين في سعينا لالتقاط الكلمة من بين نجاساتهم. طبعًا هذه حال مؤلمة ومُعثرة للكثيرين. ولكن، هكذا ينبغي لنا أن نتصرّف. أمّا الحالة المُثلى، فأن يكون المعلّمون على نقاوة مُستَمَدَّة من التّعليم الّذي استمدّوه من فوق، ومدّوه ويمدّونه للنّاس. عندئذٍ، يفرح القلب، وتتعزّى النّفس، ويُبنى الضّعيف بخاصّة، ويجتمع الشّمل، ويتمجّد اسم الله. لهذا، إذا حاذرنا بعض المعلّمين، في كنيسة المسيح، فنحن لا نحاذر الكلمة. ولكن، علينا دائمًا أن ننتبه، لأنّ مَن حاد عن الكلمة، ينبغي أن يوقف عند حدّه. هو يجيب عن سلوكه وبواطن نفسه، أمام الله. المهمّ أن يبقى التّعليم نقيًّا، وأن تبقى القوانين سليمة، وإلاّ كان على كلّ واحد منّا أن ينتصب واقفًا، ويعترض، ويُبدي ما لله. نحن لسنا عبّاد ناس، بل عبّاد الله، وعبّاد حقّ الله، وحقّ الإنجيل. وبهذا، كلّ واحد منّا، إذ كان قد جُعل في المعموديّة نبيًّا، كان عليه أن يقول النّبوءة ساعة يلزم الأمر، وأن يحيا في النّبوءة في كلّ حال. آمين.

عظة حول لو11: 47- 54، 12: 1، في الخميس 5 تشرين الثّاني 2009

admin:
Related Post