X

بحث في التراث الأرثوذكسي

موقف المسيحيّ إزاء الموت*

نقلتها عن الفرنسية راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطع، دده – الكورة

لقد نالت كنيسة المسيح في قرطاجة نصيباً يُعتدّ به في حمل الصليب، فهي قد عاصرت اضطهاد داكيوس، وعانت الأمرّين من جرّاء ما أنزله بها الفرس في العام 252م من خسائر وأضرار جمّة، وكذلك من الرعب الذي ساد الموقف في كلّ مكان. ولم تكد هذه الاضطهادات التي أرهقت الشعب تكفّ حتّى تفشّى وباء الطاعون في كلّ البلاد، حاصداً الكثير الكثير من نفوس العباد، فأصبح الموت رفيق الناس الوفيّ الذي يأبى أن ينأى بظلّه عنهم. لذا هبّ الأسقف القدّيس كبريانوس الشهيد (258م) ليضمّد كلوم أولاده الأليمة، فكتب لهم مشدّداً مقالات تناول فيها الموت ومعناه من منظار مسيحيّ إيمانيّ قائلاً: “إنّ المؤمن لا يُعفى من التجربة الواقعة، بل يجب أن يخوضها بشجاعة وينتصر عليها. فالمؤمن ينظر إلى الموت نظرته إلى الراحة بعد الصراع، من خلال نداء المسيح له”.

يفتح الموت للمسيحيّ أبواب الأبديّة، ويساعده لجني المكافأة النهائيّة. لذا لا يخشى المسيحيّ المؤمن من الانطلاق إلى عالم أفضل حيث الغبطة الدائمة الموعود بها في الكتب الإلهيّة. وبهذا المعنى يقول القدّيس كبريانوس: “دعونا نفكّر، أيّها الإخوة الأعزّاء، بأنّنا منذ الآن قد زهدنا في العالم، وتخلّينا عن مسرّاته، وبأنّنا نعيش على هذه الأرض كضيوف وغرباء، لا بل كنزلاء وقتيّين. لا بدّ لكم، يا إخوتي، أن تقتنوا فكراً حازماً، وإيماناً ثابتاً أكيداً غير عابئين بالخيرات الزائلة الفانية، إيماناً شجاعاً يتصدّى لاضطرابات هذا العالم، و يتحدّى أوهامه الكاذبة، لأنّه بإيمان كهذا يصون المؤمن ذاته من الغرق في صعاب هذه الحياة. لنتقْ إلى اليوم الذي فيه سيُحدَّد لكلّ منّا مسكنه الخاصّ، إلى اليوم الذي نعود فيه إلى الفردوس وإلى ملكوت السماوات، وقد حُرِّرنا من قيود هذه الدينا.

إنّ أهميّة الإيمان وقيمته تكمنان في مقاومة التجارب. إنّي ألاحظ البعض بينكم لا يشهدون بجدّية وحزم لعمل الروح القدس الكائن في داخلهم، ربّما بسبب ضعف إيمانهم، أو بسبب تعلّقهم بمباهج هذه الحياة وملذّاتها، أو بسبب جهلهم للحقّ الإلهيّ. لن أتوانى عن تحذيركم فأقول: ثقوا بوعود الله، وارهبوا فتور الهمّة والانقياد للأفكار الباطلة. وطننا الحقيقيّ هو السماء حيث ينتظرنا عدد لا يحصى من الأحبّاء والإخوة والآباء والأمّهات والأبناء، الذين يشتاقون إلى حضورنا بينهم، مترجّين خلاصنا. فلنسرع، إذاً، في الوصول إليهم والالتحاق بهم، متطلّعين بحرارة نفس أن نكون في أقصر وقت عندهم مع المسيح.

لا يليق بمن تجنّد لله أن يبدي أيّ اضطراب أو قلق تجاه العواصف التي تعكّر عالمنا، بل بالأحرى أن يتمسّك بالله، واضعاً رجاءه عليه. لقد سبق المسيح وأنبأنا عن الحروب والمجاعات والزلازل هنا وثمّة، وعن كلّ الحوادث الأخرى التي سوف تطالعنا في مسيرة حياتنا، مشجّعاً ومثبّتاً إيّانا، نحن أعضاء كنيسته، لكيما نكون قادرين على مواجهة ما سوف يحدث في نهاية العالم. إنّ إعلانه عن الكوارث التي ستظهر كعلامات لنهاية الزمان الحاضر، والتي تتحقّق تدريجيّاً، تظهر لنا أنّ إعلاناته ليست بكاذبة، وكذلك وعوده للمؤمنين به الذين ينتظرون مجيئه الثاني مع ملائكته القدّيسين لكي يحاكم كافّة أجناس البشر من كلّ أطراف الأرض، وها هو يدعونا لنسمع قوله: “إذا رأيتم هذه الأحداث وقعت، فاعلموا أنّ ملكوت الله قريب” (لوقا 31:21).

أيّها الإخوة الأحبّاء، لقد أُعدّت لنا الأبديّات عوضاً عن الفانيات، والسماويّات عوضاً عن الأرضيّات، والأمور الجليلة عوضاً عن الباطلة. إنّ الأشياء التي فقدناها، بخضوعنا للخطيئة، كالفرح بالخلاص الأبديّ كمكافأة عن جهادنا في هذه الحياة الحاضرة، والرجوع إلى الفردوس، والغبطة الدائمة، سوف تعود إلينا مع انتهاء العالم. كلّ من لا يقدّر قيمة هذا الميراث، يرتعب من الموت وهو عديم الرجاء وقليل الإيمان. فالذي يخاف من الموت لا يرغب في المضيّ إلى المسيح. ومن يا تُرى لا يريد ذلك؟ هو ذاك الذي لا يؤمن بأنّه سوف يملك مع المسيح إلى الأبد.

وكما نعم البارّ سمعان الشيخ بالراحة الأبديّة، هكذا أيضاً سيتذوّقها كلّ رجل صدّيق، لأنّه مكتوب إنّ “البارّ بالإيمان يحيا” (رو 17:1). فالإنسان البارّ يحيا بالإيمان إن كان حقّاً يؤمن بالله. لماذا لا تثق بوعود الله الغير الكاذبة يا من أنت مدعوّ لكي تكون مع المسيح؟ إنّ وعوده ما هي إلاّ دعوة صادقة للقائه، ونوال الحريّة من قبضة الشيطان، أفلا يفرّحك هذا؟!

لقد حفظ سمعان الشيخ الصدّيق والبارّ ومثال الشوق للانطلاق، وصايا الله، وأيقن بوعده بإيمان كلّيّ، وبوحي إلهيّ عرف بالروح بأنّه لن يرى الموت قبل أن يعاين المسيح الربّ، فما إن أتى بالطفل يسوع أبواه إلى الهيكل، وعرفه الشيخ، حتّى أدرك أنّه لا بدّ له أن ينطلق من هذا العالم. لقد ترقّب الموت وانتظره بفرح. لم ينزعج، بل احتضن الطفل بذراعيه، وهتف مبارِكاً السيّد: “الآن تطلق عبدك يا سيّد حسب قولك بسلام لأنّ عينيّ قد أبصرتا خلاصك” (لو 29:2). شهد سمعان بأنّ خادم الله، عندما يتحرّر من عواصف هذه الحياة، يفلت من عذابات هذا العالم المريرة، ويدركه السلام والحريّة والهدوء والطمأنينة. إنّنا بالموت نبلغ الميناء الخلاصيّ حيث تجد النفس راحتها الدائمة وسلامها الحقيقيّ وأمانها الأبديّ.

فالحياة هي كفاح مستمرّ ضدّ الأهواء والشيطان والعالم. المؤمن، على هذه الأرض، هو في حرب لا هوادة فيها ضدّ الشهوات الجسديّة وإغراءات هذا العالم، وهو في جهاد دائم ضدّ سهام إبليس الذي يحاصر فكر الإنسان من كلّ جانب، وبالجهد يستطيع هذا المجاهد الأمين أن يقاومها. فإن استهان مثلاً بحبّ المال، أثار عليه الشهوات الأخرى، وإن انتصر على الشهوات، أسره بحبّ الظهور، وإن ازدرى بحبّ الظهور والشهرة، حاربه بالغضب والكبرياء، وأغراه بالسكر بالخمر، وطعنه بالحسد، ومزّق وفاقه مع الآخرين، وأفسد صداقاته بغيرة مرّة، وجعل اللعن والحلف قرين لسانه، فيصبح متعدّياً الناموس الإلهيّ لا عاملاً به.

كم من الاضطرابات تجابهها النفس كلّ يوم، وما أكثر الأخطار التي تحدق بالقلب من جرّاء ضغط الملمّات وحروب الشياطين، ورغم ذلك نفرح ببقائنا طويلاً على الأرض بينما كان الأجدر بنا أن نوجّه كلّ اشتياقاتنا ورغباتنا في الإسراع للالتقاء بالمسيح. فالربّ علّمنا قائلاً: “الحقّ الحقّ أقول لكم إنّكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح. أنتم ستحزنون ولكنّ حزنكم يتحوّل إلى فرح” (يو 20:16). فمن منّا لا يشتاق أن يتحرّر من هذا الحزن؟ ومن منّا لا يتطلّع لنوال هذا الفرح؟ ومتى يتحوّل حزننا إلى فرح؟ هذا ما أعلنه لنا الربّ بقوله: “ولكنّني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم” (يو 22:16). ما دام فرحنا هو في رؤية المسيح، فأيّ غمّ يصيب أذهاننا، وأيّ جنون ينتابنا حتّى نحبّ أحزان العالم وضيقاته ودموعه أكثر من الغبطة التي لا يمكن لأحد أن ينتزعها منّا؟ إنّ مصدر المتناقضات والمضادّات التي تعوقنا عن لقاء المسيح يكمن في نقص إيماننا. وكما ذكرت سابقاً إنّ سبب ارتباطنا بالعالم ومحبّتنا له يعود، يا إخوتي الأحبّاء، إلى ضعف إيماننا، وعدم ثقتنا بوعود الله لنا.

الله صادق، وكلمته ثابتة لمن يؤمن به، لا بل هي حقيقيّة أبديّة. فإذا وعدكم إنسان ذو مكانة مهمّة وشأن عظيم بأمر ما، ألا تثقون بوعده من دون أن تشكّوا في إمكانيّة خداعه لكم؟ طبعاً الجواب نعم، لأنّكم تعرفون أنّه صادق في كلامه، ويفي بوعده. فكم بالأحرى يجدر بنا ألاّ نشكّ إطلاقاً في وعد الله لنا بالحياة الأبديّة؟ فإن ساورنا الشكّ وعدم الإيمان، نكون قد أظهرنا جحودنا وأخطأنا إلى المسيح، وأثبتنا عدم معرفتنا العميقة به، وهذا ما يثير سخط الله علينا، وأعني بهذا خطيئة الشكّ والكفر بالمسيح معلّمنا وسيّدنا. أيعقل أن نكون أبناء الكنيسة والإيمان ونحن لا نملك الإيمان؟ السعادة الحقيقيّة، يا إخوتي، هي خارج هذا العالم.

يا لها من فائدة جليلة ننعم بها بانطلاقنا من هذا العالم!! لقد رأى السيّد المسيح ما فيه خير نفوسنا إذ عندما لاحظ، مثلاً، مدى حزن تلاميذه عندما أزمع أن يمضي إلى الآب قال لهم: “لو كنتم تحبّوني لكنتم تفرحون لأنّي قلت أمضي إلى الآب” (يو 28:14). يعلّمنا السيّد بهذا القول كم ينبغي أن نفرح عند رحيل أحد أحبّائنا من هذا العالم، وألاّ نحزن متذكّرين قول الرسول بولس: “لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح” (في 21:1). هنا يعتبر الرسول الموت ربح أعظم من الحياة، ولا يستطيع أن نناله في هذا العالم. بالموت نلبّي دعوة المسيح لنا ونفرح بالخلاص الأبديّ. بالموت ننعتق من خطايا الجسد ورذائله، ونتخلّص من ضغط العالم المحزن، ونتحرّر من أنياب الشيطان السامّة.

هناك من يعتقد بأن المرض لا يصيب إلاّ غير المؤمنين. ومن هذا المنظار، فالمسيحيّ معفى منه كما لو كانت غاية إيمان المسيحيّ هي اتّقاء الأمراض والأخطار، والتمتّع بسعادة هذا العالم، ناجياً من كلّ أذى، وارثاً الغبطة الأبديّة من دون أن يتعرّض لهموم هذا العمر وضيقاته وآلامه. والبعض يتعجّب كوننا معرّضين للموت كالوثنيّين وغير المؤمنين ويتساءلون قائلين: ما الفرق إذاً بيننا وبينهم ما دام جسدنا خاضعاً للموت نظيرهم؟ نجيب هؤلاء بقولنا إنّنا نشترك مع كافّة البشر في كلّ خصائص هذا الجسد طالما نحن في هذا العالم. إلاّ أنّنا نتميّز عنهم في الروح، أي بلبس هذا الفاسد عدم الفساد وهذا المائت عدم الموت “حتّى يُبتلع المائت بالحياة” (2كو 4:5)، ثمّ يقودنا الروح القدس بعد ذلك إلى الآب.

فنحن نشترك إذاً مع غير المؤمنين في كلّ شيء. فإذا حصلت مجاعة، أو أصاب الأرض قحط وما عادت تنتج إلاّ المحاصيل الضعيفة، فإنّ هذه الظواهر تشمل الجميع. وإن غزا العدوّ مدينة، وسبا سكّانها أو شرّدهم، فهذا يطال الكلّ أيضاً من دون أيّ تمييز بين مؤمن وغير مؤمن. كذلك عندما يحتبس المطر ويتهدّدنا الجفاف. أو إذا تحطّمت سفينة فإنّ الغرق يهدّد كلّ من على متنها من دون فرق. وهكذا يعاني الجميع من أمراض العيون والحمّى وغيرها… طالما نحمل كلّنا هذا الجسد الفاني الواحد بصفاته وضعفاته.

التجربة تطهّر الإنسان المؤمن. فإذا عرف المسيحيّ بأيّ ناموس هو يؤمن، لأدرك حتماً بأنّ عليه أن يتألّم ويتحمّل أكثر من غير المؤمنين طالما هو عرضة لحروب الشيطان بالأكثر، لذلك يقول الكتاب المقدّس: “يا ابني إن أقبلت لخدمة الربّ الإله، أعدد نفسك للتجربة” (بن سيراخ 1:2-2) وأيضاً “كلّ ما أتاك فاقبله واصبر على الألم في اتضاعك. كن صبوراً، لأنّ الذهب يجرَّب بالنار والناس المقبولون يجرَّبون في أتون التواضع” (بن سيراخ 4:12-5). هاك أيّوب مثالاً إذ لم تخر عزيمته ولم ينهزم بعد أن فقد كلّ ممتلكاته وأبنائه الأعزّاء إلى جانب قروحه ودوده، إنّما على العكس، أظهر صبراً وسط بلاياه وأتعابه فقال: “عرياناً خرجت من بطن أمّي وعرياناً أعود إلى هناك. الربّ أعطى والربّ أخذ، فليكن اسم الربّ مباركاً” (أي 21:1). وعندما استفزّته زوجته، لجهلها، لكي يخطئ إلى الله ويجدّف قال لها: “تتكلّمين كلاماً كإحدى الجاهلات. أنقبل الخير من الله ولا نقبل الشرّ؟ في كلّ هذا لم يخطئ أيّوب ولا بشفتيه” (أي 10:2)، ولذلك شهد له الربّ قائلاً لإبليس: “هل جعلت قلبك على عبدي أيّوب؟ فإنّه ليس له مثيل في الأرض، رجل كامل ومستقيم يتّقي الله ويحيد عن الشرّ” (أي 8:1).

أمّا طوبيّا بعد أن عمل الخير والرحمة بنبل وإخلاص، احتمل فقدان بصره، ثابتاً في مخافة الله، ومبارِكاً إيّاه في خضمّ آلامه: “وبالرغم من جسده المتألّم كان يزداد شكراً لله” (طو 14:2). وإذ بدأت زوجته تعيّره أيضاً قائلة: أين هو ربّك؟ فليأت وينظر ما تتحمّله من آلام، أمّا هو فكان يتشدّد ويتقوّى بخوف الله متسلّحاً بإيمانه، ومحتملاً الآلام غير مستسلم لضعف زوجته. وهكذا تزكّى طوبيّا أيضاً بالأكثر ومدحه الملاك رافائيل بعد ذلك: “أمّا أنا، فأعلن لكما الحقّ وما أكتم عنكما أمراً مستوراً، إنّك حين كنت تصلّي بدموع، وتدفن الموتى، وتترك طعامك، وتخبّئ الموتى في بيتك نهاراً وتدفنهم ليلاً، كنت أرفع صلاتك إلى الربّ. وإذ كنت مقبولاً أمام الله كان لا بدّ أن تُمتحن بتجربة. والآن فإنّ الربّ قد أرسلني لأشفيك وأخلّص سارة كنّتك من الشيطان. فإنّي أنا رافائيل الملاك أحد السبعة الواقفين أمام الربّ” (طو 11:12-15).

كذلك لم يتذمّر أيضاً الرسل الأبرار بسبب الضيق الذي لحق بهم، بل كانوا يتقبّلون كلّ ما يأتي عليهم بشجاعة وصبر كبيرين بخلاف الشعب اليهوديّ الذي أسخط الله في البريّة بتذمّره الدائم كما يشهد عليهم سفر العدد بقوله: “فتكفّ تذمّراتهم عنّي لكي لا يموتوا” (عد 10:17). احفظوا ذواتكم من كلّ تذمّر، أيّها الإخوة الأحبّاء، واحتملوا بصبر وشجاعة كلّ ما يحدث لكم إذ إنّه مكتوب: “القلب المتخشّع والمتواضع لا يرذله الله” (مز 17:50)، والروح القدس يحذّرنا على فم موسى النبيّ في سفر التثنية فيقول: “تذكّر كلّ الطريق التي فيها سار بك الربّ إلهك هذه الأربعين سنة في القفر لكي يذلّك ويجر       ّبك ليعرف ما في قلبك: أتحفظ وصاياه أم لا” (تث 2:8). وأيضاً: “الربّ إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبّون الربّ إلهكم من كلّ قلوبكم ومن كلّ نفوسكم” (تث 4:13).

وكذلك أيضاً تجربة إيمان إبراهيم أتت صورة واضحة على رضى الله عليه لعدم تذمّره عندما أمره أن يقدّم اسحق ابنه ذبيحة. إنّ إبراهيم لم يتردّد، ولم يخش فقدان وحيده. فإن كان الإنسان بحالته الطبيعيّة المقترنة بالضعف البشريّ لا يستطيع أن يحتمل فقدان ابنه عندما يأتي موته طبيعيّاً، فكيف يكون حاله إذاً إن أُمر أن يقوم هو بذبحه؟ يحتاج الإنسان، في كلّ وقت، إلى مخافة الله والإيمان القويّ حتّى يكون مستعدّاً لقبول كلّ طارئ محزن سواء كان خسارة ماديّة كفقدان الممتلكات، أو خسارة في الأرواح كموت زوجته أو أولاده أو أحد أحبّائه. على المؤمن الحقيقيّ أن يجاهد ولا يدع إيمانه يضعف أو يخور أويُسحق، بل، بالحري، فليظهرْ إيمانُه قوةَ نضاله ومدى ثقته بالخيرات المنتظرة التي تجعله يزدري بأحزان هذا الزمان الحاضر. وعلينا أن نعلم بأنّه إن لم تكن هناك معركة، فلن يكون هناك انتصار، وبالتالي لن تكون هناك أكاليل للظافرين. إنّ الربّان الماهر يُعرف وسط العاصفة، والجنديّ يُختبر في ميدان القتال. وهكذا أيضاً، فاجتياز الضيقات هو اختبار للفضيلة وإظهار للشجاعة الحقيقيّة. إنّ الشجرة ذات الجذور الضخمة لا تتزعزع مهما عنفت العاصفة، والسفينة التي يقودها طاقم ماهر لا تترنّح متى لطمتها الأمواج ولا تتكسّر. وهكذا أيضاً عندما يدرس الفلاّح القمح في الأجران لا يترسّب منها في الأسفل سوى الحبّات الثقيلة، أمّا التبن فيتطاير بعيداً عند أوّل نفخة ريح.

كم من مرّة تعرّض القدّيس بولس للغرق ولانكسار السفينة إلاّ أنّه بقي راسخاً لم ينله حزن ولا تأسّف، بل حملت له الجلدات والعذابات القاسية جزيل الفائدة، إذ بقدر ما احتمل من أحزان بقدر ما نال من تزكية وتعزية وشجاعة لذلك يقول: “ولئلاّ أرتفع بفرط الإعلانات، أُعطيت شوكة في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمني ولهذا تضرّعت إلى الربّ ثلاث مرّات أن يفارقني فقال لي: تكفيك نعمتي لأنّ قوّتي في الضعف تكمل” (2كو7:12-9). فمتى كنّا ضعفاء وعاجزين عندئذ تكمل قوّتنا، وإن جاهدنا يتثبت إيماننا ونتكلّل، كما هو مكتوب: “كما أنّ الأتون يمتحن أواني الخزف هكذا امتحان الإنسان في تفكيره” (بن سيراخ 5:27).

إنّ الفرق شاسع بيننا وبين من لا يعرفون الله إذ نراهم دائمي التشكّي والتذمّر إبّان الضيقات، أمّا نحن المؤمنين، فالضيق لا يثنينا عن حياة الجهاد لبلوغ الفضيلة وعن الإيمان بالحقّ. بمكابدتنا الآلام يقوى إيماننا ونزداد صلابة وقوّة على الاحتمال. فالمؤمن بثباته في الاحتمال ينال المكافأة على الضيق والأمراض التي تستنفذ كلّ قواه الجسديّة. كلّ هذه الإصابات والخسائر الجسديّة تساهم في تزكية الإيمان، وتعطي مجداً وبركة للروح التي تحتمل بقوّة وهدوء الهجمات المتعدّدة والمتكرّرة. فيا لسموّ لتلك النفس التي تنتصب ثابتة وسط هذه الأمراض ولا تسقط مع الذين لا رجاء لهم في المسيح، بل تفرح منتهزة الفرصة التي وهبها لها الله لكي تتقدّم وتسير في الطريق الضيّق الذي سار فيه الربّ، وتنال المكافأة على أتعابها التي كابدتها بإيمان وطيد. فمن يخاف من الموت يبرهن أنّه لم يولد بعد من الماء والروح ولم يختبر صليب المسيح وآلامه. إنّه يخاف الموت لأنّه ينتظر بعد الموت موتاً آخر أي النار الأبديّة والعقاب الدائم. من يخاف الموت يفرح بعمره المديد إذ يُتاح له تأجيل تنهّداته وتأوّهاته. الإنسان البارّ لا يخشى الموت أبداً. المسيحيّ المؤمن حقّاً يعتبر الموت انتقالاً وتحرّراً من رباطات هذا العالم. إذا كان الموت هو كارثة بالنسبة لليهود وللوثنيّين ولمن لا يعرفون المسيح، فهو على العكس بالنسبة لخدّام الله إذ إنّه سبب نياح وراحة وخلاص. من الواضح أنّ الموت يصيب الجميع الأبرار والأشرار، وكلّهم يخضعون لجسد الموت هذا الصالحون والطالحون على السواء، إلاّ أنّ الأبرار يذهبون إلى الراحة الأبديّة أمّا الأشرار فإلى العذاب الأبديّ. لقد استفاد الصالحون الذين أرضوا الله من مناسبات عديدة في هذه الدنيا لكي يربحوا الملكوت. فالعذارى انتقلن من هذا العالم بسلام داخليّ مكلّلات بإكليل المجد بلا وجل من تهديدات أعداء المسيح، وبلا خوف من شرّ الحكّام واضطهادهم، ولا من إفساد عفّتهنّ. بالموت ينجو الأولاد من تحمّل الضيقات التي تفوق قدرة عمرهم البريء وعودهم الطري إذ يتخلّصون من التجارب الصعبة، وينالون السعادة والغبطة بفضل نقاوتهم. بالموت لا تعود الفتاة المدلّلة تهاب مضطهديها ومعذّبيها. إنّ الخوف الذي يُحدثه الموت الحتميّ في النفوس وبخاصة في الأوقات العصيبة (كالتي تفرضها علينا الحروب أو الأمراض وما شابهها…) يمد النفوس اللامبالية أو ربّما الخائرة بالحميّة والقوّة، ويحفز الغير المؤمن لكي يعود إلى إيمانه، ويدعو الكفّار إلى التوبة، ويدعو الشباب إلى دخول المعركة، والشعب المؤمن إلى طلب الراحة الأبديّة. أعداد وافرة من فئات مختلفة من الناس تستعدّ لمواجهة الموت في كلّ وقت وساعة طالما تحمل هذا الجسد القابل الموت والفساد.

أيّها الإخوة الأحبّاء، ما المغزى من تردادنا هذا لذكر الموت؟ نعم، قد يكون الموت وباء مرعباً يفتك بالناس ولا ينجو منه أحد. بيد أنّه في الوقت ذاته يُختبر فيه برّ كلّ إنسان، وتُمتحن أفكار الناس، ويُكشف مدى اهتمام الأصحّاء بالمرضى، وترفّق الإنسان بقريبه، وعطف السادة على الخدّام، واستجابة الأطبّاء لصرخات المصابين. نعم، إنّ هذا الوباء يحثّ القساة لكي يتخلّوا عن قساوة قلوبهم، ويوحي للجشعين بالابتعاد عن محبّة المال، وينبّه المتشامخين ليحنوا رقابهم وداعة واتّضاعاً، ويأمر الأشرار أن ينزعوا عنهم شرّهم وفسادهم. إنّ هذا الوباء يعلّم المسيحيّين ألاّ يخافوا إذ يجعلهم يشتاقون للاستشهاد، فيمسي ذكره تدريباً لهم على الثبات في الإيمان والتأمّل في ساعة خروج النفس من الجسد استعداداً لربح الإكليل.

ربّما يعترض البعض قائلين: إنّ المرض الذي حلّ بنا سبّب لنا الكدر الكبير إذ حرمنا من نعمة الاستشهاد واحتمال الآلام، وبهذا يضيّع علينا فرصة ثمينة. يجب أن تعلم، أوّلاً، بأنّ الاستشهاد هو هبة من الله فاحص القلوب والكلى، والعارف الخفيّات، وهو سوف يكافئك على هذا الشوق الذي يعتمر في قلبك، وإن كنت لم تحققه بالفعل. هل قتل قايين أخيه عندما كان يقوم بتقديم الذبيحة؟ إنّ الله، بسابق علمه ومعرفته، أدان القتل الذي رآه داخل قايين. فكما رأى الله هذا الفكر الشرّير والنيّة السيّئة، هكذا أيضاً يرى هذا الاشتياق للاستشهاد داخل من يشتهيه. فالله الديّان يكلّل القصد والنيّة في عمل الفضيلة. من الثابت أنّ هناك فرقاً بين أن تكون لديك هذه النيّة أو لاتكون، أو إن لم تسمح لك الظروف بتحقيقها رغم ترقّبك لها، واعلم أنّ دينونة الله ستكون على حسب ما في قلبك. فالله نفسه شهد قائلاً: “ستعرف جميع الكنائس أنّي أنا هو الفاحص الكلى والقلوب” (رؤ 23:2). إنّ الله لا يطلب منك الدم بل الإيمان. فإبراهيم واسحق ويعقوب لم يستشهدوا بسفك الدم، ولكنّهم، رغم ذلك، كُرّموا لعظيم إيمانهم وبرّهم، فاستحقّوا أن ينالوا المجد والإكرام. وسوف يجتمع على مائدتهم السماويّة كلّ من كان أميناً وباراً وجديراً بالمديح. لنكن منطقيّين مع ذواتنا إذ كيف نطلب في صلاتنا أن يمنّ الله علينا بالخضوع لمشيئته تحقيقاً للصلاة التي علّمنا إيّاها (لتكن مشيئتك)، بينما نعصى أمر الموت كالعبيد المتكبّرين المتصلّبي الرأي، فيكون رحيلنا كرهاً وليس طاعة لإرادة الله، وبعدها ننتظر المكافأة السماويّة في السماء من الذي أتينا إليه رغماً عنّا وبعكس رغبتنا؟!! فلماذا نطلب بحرارة أن يأتي ملكوته إذا كانت تأسرنا لهذا الحدّ الأمور الأرضيّة؟ وهل نرغب حقّاً في البقاء هنا على هذه الأرض مستعبدين للشيطان عوضاً أن نملك مع المسيح؟ إن كان الجواب لا، فلماذا التأجيل إذاً؟

أن يتفجّع الإنسان أمام الموت، هذا يعني أنّه ناقص الإيمان. لقد طلب الربّ منّا تكراراً، نحن الضعفاء وآخر الناس، بأن ننبّه إخوتنا بألاّ ينتحبوا على أحبّائهم الذين نقلتهم دعوة الربّ من هذا العالم، عالمين أنّهم لم يذهبوا للهلاك، بل هم سبقونا، فقط، في الرحيل، وغادرونا كمسافرين، وأسرعوا في الإبحار قبلنا. فلا ينبغي إذاً أن نبكيهم بل أن نغار منهم ونحسدهم، ولا أن نتّشح بالسواد فيما هم يتلألأون بثياب الفرح البيضاء اللامعة البهيّة! لا يليق بنا أن نعطي فرصة لغير المؤمنين كي يسخروا بنا بسبب حزننا المفرط على أولئك الذين ندّعي بأنّهم كانوا يحيون مع الله، كما لو كانوا هالكين. إنّنا بهذا التصرّف ننكر إيماننا، ونخون رجاءنا، ويبدو ما ننادي به وكأنّه وهم وإدعاء كاذب. لا يصحّ أن نظهر الشجاعة في الكلام فقط، ثمّ ننقض بأفعالنا ما نقول. يوبّخ الرسول بولس ويعنّف بشدّة أولئك الذين يغالون في الحزن على ارتحال ذويهم قائلاً: “لا أريد أن تجهلوا أيّها الإخوة من جهة الراقدين، لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم، لأنّه إن كنّا نؤمن أن يسوع مات وقام، فكذلك الراقدون بيسوع، سيُحضرهم الله أيضاً معه” (1تسا 13:4-14)، فهو يصف الذين يحزنون على أحبّائهم حزناً شديداً “بالذين لا رجاء لهم”. أمّا نحن الذين نحيا بالرجاء، ونؤمن بأنّ المسيح تألّم لأجلنا وقام من بين الأموات، وإنّنا نقيم فيه، ونحيا به، فيجب إذاً أن نؤمن، أيضاً، أنّنا سنقوم معه ثانية. “من يحيا ويؤمن بي لن يرى الموت أبداً”. قولوا لي، يا إخوتي، لماذا لا نودّ الانتقال من هذا العالم إن كنّا فعلاً نقيم في المسيح ونحيا به ومعه؟ ولماذا نبكي ونكتئب على فراق أحبّائنا كما لو كنّا قد خسرناهم إلى الأبد؟ إنّ المسيح ربّنا وإلهنا يشدّدنا بقوله: “أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي وإن مات فسيحيا. وكلّ من كان حيّاً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد (يو 25:11-26). فإن كنّا نؤمن بالمسيح، وإن كانت لنا ثقة في كلامه وفي مواعيده، وإن كنّا أناساً خالدين، فلنتقدّم، إذاً، إليه بفرح وثقة، لكي نحيا ونملك معه إلى الأبد، لأنّه هو الذي وعدنا بذلك، ووعده صادق.

بالواقع نحن نعبر بالموت إلى الحياة، ولا يمكن أن نحظى بالحياة الخالدة إن لم نخرج أوّلاً من العالم. فالموت إذاً ليس محطّة نهائيّة لحياتنا على الأرض، إنّما هو انتقال ونقطة إنطلاق من حياة مؤقّتة إلى أخرى أبديّة. فمن لا يحثّ الخطى، إذاً، نحو هذا الخير الأعظم؟ ومن لا يشتاق لأن يتغيّر ويتحوّل إلى صورة المسيح، ويتمتّع بشرف المجد السماويّ؟ لقد أعلن لنا الرسول بولس قائلاً: “إنّ سيرتنا نحن هي في السماويّات التي فيها أيضاً ننتظر مخلّصاً هو الربّ يسوع المسيح الذي سيغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده” (في 20:3-21). وهذا أيضاً ما وعدنا به السيّد عندما وجّه صلاته للآب لكيما نكون معه في المساكن الأبديّة، ونشاركه الفرح في ملكوته حيث قال: “أيّها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني أن يكونوا معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنّك أحببتني منذ إنشاء العالم” (يو 24:17). فمن ينعم بمجد الملكوت السماويّ صحبة المسيح لا يليق به أن يحزن وينوح إذ إنّ الموت يُعتق المختارين من فساد هذا الدهر وانحلاله. أنّ الله نقل أخنوخ لأنّه أرضاه “وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأنّ الله أخذه” (تك 24:5). فالله، إذاً، يؤهّل كلّ من يسرّ به للانتقال من تأثير هذا الدهر ومغرياته. ويعلّمنا الروح القدس بفم سليمان الحكيم بأنّ الذين أرضوا الله يؤخذون باكراً حتّى لا تغيّر الرذيلة عقولهم ولا تدنّسها بتلبّثهم أكثر في هذا العالم فيقول: “إنّه كان مرضيّاً لله فأحبّه، وكان يعيش بين الخطأة فنقله. خطفه لكي لا يغيّر الشرّ عقله، ولا يطغي الغشّ نفسه” (حك 10:4-11). ونقرأ أيضاً في سفر المزامير: “ما أحبّ مساكنك يا ربّ القوّات تشتاق وتتوق نفسي إلى ديار الربّ” (مز 1:84-2)، فالنفس المرضيّة لإلهها تسارع نحو السيّد بلهفة وشوق.    فلنتغرّب، إذاً، عن العالم، لأنّ كلّ شيء فيه باطل!!

إنّ من يرغب البقاء طويلاً في هذه الدنيا، يثبت أنّه يجد فيها بهجته، وتستهويه ملذّاتها وتغريه. إذا كان العالم يبغض المسيحيّ، فلماذا إذاً يؤثر هذا المسيحيّ البقاء في أرض الشقاء على اتّباع المسيح الذي افتداه وأحبّه؟!! إنّ يوحنّا الحبيب في رسالته يحثّنا على أن لا نسعى إلى محبّة العالم إذ يقول: “لا تحبّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحبّ أحد العالم، فليست فيه محبّة الآب، لأنّ كلّ ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العين وتعظّم المعيشة ليس من الآب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته معه وأمّا الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد” (1يو 15:2-17). فلنكن، إذاً، يا إخوتي الأحبّاء، ذوي نفوس مستقيمة وإيمان غير متزعزع وشجاعة صلبة، سريعين في الخضوع لإرادة الله، ولنقصي عنّا كلّ خوف من الموت، ومتأمّلين بالخلود الذي يتبعه، بما يتوافق مع إيماننا، غير متألّمين بمرارة على موت أحبائنا. وعندما يحين وقت خروجنا من هذا الجسد الفاني تلبية لدعوة الله لنا، فلنسر نحوه من دون تردّد أو تلكؤ. فلنتحرّر، يا إخوتي، من القيود الأرضيّة، ولا ننس بأنّنا غرباء، ولنبارك اليوم الذي سيعود فيه كلّ واحد منّا إلى منزله الحقيقيّ في فردوس النعيم وفي ملكوت السماوات. فها هوذا العالم يعلن بذاته عن زواله إذ سيفنى بدوره. يا لغبطة أبناء الله المنتقلين عنّا، لأنّهم تخلّصوا من تيّارات الهجمات الشرّيرة وعواصفها سيّما ونحن نترقّب أموراً أكثر أسىً مزمعة أن تأتي علينا، لذلك، ومن هذه الحيثيّة، يُحسب لنا الانطلاق مكسباً كبيراً. لو كانت جدران بيتك تهتزّ أما كنت تغادره بسرعة؟ ولو كنت تبحر في سفينة، وداهمتها العواصف والأمواج أما كنت تطلب العودة إلى الميناء؟ هوذا العالم يترنّح ويتداعى ليس بفعل الزمن إنّما بسبب النهاية التي لا بدّ منها، أفلا تفرح لأنّ الخلاص أتاك بهذا الرحيل المبكّر؟ ألا تشكر الله لأنّك تحرّرت من المتاعب والكوارث التي كانت تتهدّدك؟

علينا إذاً، أيّها الإخوة الأحبّاء، أن نفكّر دائماً، نحن الذين جحدنا ملذّات العالم، أنّنا نقيم زمناً قصيراً في مكان العبور هذا، فأيّ مسافر لا يبادر بالعودة إلى وطنه تاركاً بلاد الاغتراب البعيدة؟ وأيّ ملاّح لا يسرع لرؤية أهل بيته؟ بل كم يتمنّى بحرارة لو تهبّ ريح قويّة تمكّنه سريعاً من معانقة أحبّائه؟ وطننا هو الفردوس حيث يرتع آباؤنا البطاركة القدّيسون، فلماذا لا نهرع لملاقاتهم وإلقاء التحيّة على الأهل والأقارب الذين سبقونا؟ جماعات وجماعات من أحبّائنا وذوينا ينتظروننا هناك، يترقّبون رؤيتنا ومشاطرتهم الفرح. ما أحلى أن يموت الإنسان من دون جزع، وما أهنأ العيش في الأبديّة حيث أجواق الرسل وجماعة الأنبياء وقوافل لا تحصى من الشهداء المكلَّلين بالمجد لانتصارهم على الأعداء وعلى الآلام التي كابدوها محبّة بمسيحهم. هناك تتلألأ بالنور الإلهيّ العذارى اللواتي دفعن ثمن جهاداتهنّ ضدّ الشهوات. هناك نال الصالحون المكافآت على إحساناتهم وبرّهم. فلنسرع إذاً، نحن أيضاً، لكي نجتمع بهم ونظهر ظافرين أمام المسيح الناظر إلى شوقنا ورغبة نفوسنا وتوقّد إيماننا، هو الذي يجازي بالمجد ويكرّم من يتوقون إليه بحرارة وشوق.

* Le chretien devant la mort (Cyprien et Ambroise) collection: Les peres dans la foi. 1980 Edition: Desclee de Brouwer

admin:
Related Post