X

بحث في التراث الأرثوذكسي

غنى النعمة*

الأرشمندريت إميليانوس رئيس دير سيمونس بترس في الجبل المقدّس

نقلها إلى العربية راهبات دير مار يعقوب المقطع، دده – الكورة


نعيّد في هذا الأحد المقدّس المشعّ لرفع الصليب الكريم. يذكّرنا هذا العود الجزيل الثمن بالآلام الموقَّرة التي كابدها المسيح على الصليب من أجل غفران خطايانا. كان آدم متعرّيًا في الفردوس ظاهريًّا، ولكنّه بالحقيقة كان يتوشّح بنور الألوهيّة، متنعّمًا بمجد الخالق. كان يأكل من ثمار أشجار الفردوس، ويتغذّى، بالوقت نفسه، بإشعاعات الطاقة الغير المخلوقة التي لإلهنا. بالخطيئة انتُزع اللباس النورانيّ عن الإنسان، وحُرم من أطايب الفردوس، مذاك صار غذاؤه الخرنوب، وأصبح شرابه ممزوجًا بعرق الكدّ والتعب، ومصائب الحياة والدموع اليوميّة، والخطايا التي يسقط فيها نهارًا وليلاً.

لا يعني تكريم الصليب أن نتذكّر آلام السيّد وحسب، وإنّما هو باعثُ للفرح والبهجة والسرور، هو إنعاش للنفس، مائدة وافرة، وليمة روحية. خدمة هذا اليوم مفعَمة بالفرح، وألحان قانون السحر ألحان فصحيّة مشبعة بالحيويّة وبهجة العيد وبريق القيامة المجيد. تخبرنا الطروباريّة عن تجديد الحياة، فآدم القائم يطرب فرحًا، وينشد نشيد ظفر السيّد، لأنّ الصليب صار سببًا لحياة جديدة بالروح القدس.

ينتصب الصليب في منتصف فترة الصوم الكبير كأنّه شجرة غُرست في درب التقشّف الشاقّ والطويل. تحت ظلّها يلقى الحجّاج راحتهم ليتابعوا طريقهم، بعد ذلك، بحماس متجدّد. الصليب طريق الفردوس الذي أغلقته الخطيئة، وفتحه لنا المسيح من جديد، ومذاك صار نوال غنى نعمة المسيح سهلاً متيسّرًا.

ما هي النعمة؟ إنّها أحشاء رحمة إلهنا ورأفته ومحبّته للبشر، ففي الفردوس أغنتنا النعمة الإلهيّة بكنوز الروح القدس ومواهبه. كلمة “غنى” أي ploutos باليونانيّة مؤلَّفة من مقطعين: الأوّل، ويعني التفضيل أو الأكثر(polys) أي إنّنا ننال مسبَقًا أكثر ممّا كنّا ننتظر. والثاني هو كلمة etos)) الآتية من فعل الكينونة (être) ،(existe) يوجد (Eimi) وتعني أنا هنا حقيقة، أو أنا أوجد فعلاً. كلمة غنى، إذًا، تعني الخيرات المُعَدَّة، الخيرات الحقيقيّة التي تخصّنا نحن، كما تعبّر عن الحصاد الوافر أو الغلاّت الوافرة.

الصليب الجزيل الثمن هو الهيكل الذي ضُحّي عليه المسيح من أجل خلاصنا، وبه خُوِّلنا الاقتراب من الله. إنّه قوّتنا وملجأنا، هو الذي يملؤنا بالنعمة الإلهيّة؛ هو السلاح الذي أمدّنا المسيح به لدخول ملكوته، ولهذا ننشد بأنّ الصليب هو”باب الفردوس” أو “الفردوس الحلو”، الذي يضيء القلوب بشعاع نعمته. هو “ينبوع المواهب”، مواهب الروح القدس التي تغذّينا وتدسمنا لننمو” بنعمة معرفة ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح” (2بط 3: 18). لقد أعاد لنا الصليب اللباس الإلهيّ الذي فقدناه، “فشجرة الصليب تحمل للعالم لباس الحياة”، ولهذا نقول بأنّنا قد “لبسنا المسيح” (غلا 3: 27).

النعمة هي محبّة المسيح التي دعانا إليها “وصيّة جديدة أعطيكم…”( يوحنّا 4 : 13-34 )، هذه المحبّة التي ترسّخ العلاقة بينه وبين الإنسان، وقد انسكبت علينا بفيض أثناء تجسّده، بيد أنّ النعمة غمرت المسكونة حتّى قبل مجيء المسيح، إذ تجلّت في خلق الكون والإنسان. اتّضحت النعمة عبر الخيرات التي أُغدقت على البشريّة، وأيضًا عبر القصاصات التي وُضعت لردع البشر عن الاستمرار في الخطيئة، واستبانت، كذلك، من خلال محادثة الله مع الأبرار والعجائب والنبؤات. علّم الله الشعب الإسرائيليّ بواسطة موسى والشريعة إلاّ أنّ العبرانيّين عجزوا عن تطبيق الشريعة، لأنّ النعمة لم تكن قد حلّت بعد فيهم، وما زال مغلقًا عليهم كلّهم في ظلمات الخطيئة والموت.

تبرز النعمة في كلّ أعمال الله، وهي التي آلت إلى تجسّد الكلمة، وتدفّقت بغزارة من المسيح المتجسّد لتشمل العالم كلّه. قال سليمان الحكيم، وذلك قبل آلاف السنين من مجيء المسيح: “أولئك الذين يطلبونني سيجدون نعمة” (أم 8: 17). لم يقل الذين يطلبون الله وجدوا نعمة إنّما “سوف يجدون نعمة”. أشار سليمان هنا نبويًّا إلى صلب السيّد، وكأنّه يقول: “يا شعب العهد القديم، إنّكم تطلبونني أنا الله، وسوف تنالون نعمتي عندما يولد كلمتي المسيح، وينزل إلى الجحيم، ثمّ يقوم من بين الأموات”.

النعمة هي، إذًا، التعبير عن رأفة الله ومحبّته تجاه الإنسان بالمسيح يسوع في الروح القدس. وهي، أيضًا، مجموعة إشعاعات الله الغير المخلوقة المنبعثة على الخليقة كلّها وبخاصّة على الإنسان حتّى يصل إلى درجة التألّه بالنعمة. هي، أيضًا، قوّة الله للخلاص، والعاضدة لنا، والتي تجعلنا من عداد مواطني السماء بدءًا من هذه الحياة الحاضرة. تُظهر لنا النعمة محبّة الله الكلّيّة لنا والمستمرّة منذ إنشاء العالم، كما تشهد على تدبيره الخلاصيّ الذي حدّده لنا منذ البدء لكي ننال وعوده الإلهيّة.

وتبيّن لنا النعمة، كذلك، بأنّ إله إبراهيم وإسحق ويعقوب وداوود، والأنبياء والأبرار، والرسل والشهداء، والرهبان والمعترفين وكلّ القدّيسين، الذي صنع الآيات الباهرة من أجلهم هو ذاته إلهنا نحن أيضًا، الذي كان منذ البدء، والذي سيأتي والذي هو هو دائمًا وأبدًا، كما نرتّل “أظهر لنا يا رحيم محبّتك كما أظهرتها قديمًا للشعوب لكي يعرفوك أنّك أنت هو بالحقيقة الله وبأنّ نصرتنا هي من لدنك وحدك”. أظهر لنا يا الله قوّتك كما أظهرتها في القديم لكي نصل إلى اليقين الذي به سنغلب نحن، أيضًا، كمؤمنين وككنيسة. قد نعاني من صعوبات، أو تمرّ كنيستنا  باضطهاد، فنظنّ أن ّالله نسينا ولا يحبّنا لأنّه لا يبادر إلى معونتنا. نشتكي ونضيّع إيماننا إلاّ أنّ الله يظلّ عادلاً وأمينًا لا يمسك نعمته عنّا، ولا يحجبها.

ولنرَ، الآن، ما هي مواهب الله التي يغدقها علينا، مبتدئين بالأمور الأساس:

العطية الكبرى التي منحنا إيّاها الله تنكشف في سرّ تجسّد المسيح على الأرض، وفي تجلّي الكنيسة وانتشارها في العالم، وفي الدهشة البالغة التي سوف تشملنا ونحن نهتف هتاف الفرح والابتهاج حين تتّضح بنوّتنا الحقيقيّة لله قدّام الملائكة والبشر لدى وقوفنا أمام منبره العادل في اليوم الأخير. مرارًا كثيرة نطرح على ذواتنا هذا السؤال: هل أبناء الله هم قليلون؟ في المجيء الثاني سوف نرى أبناء الله، وسنتهلّل لمعاينتنا أعدادًا لا تحصى منهم في أحضان إبراهيم.

هناك، أيضًا، مواهب وعطايا طبيعيّة وفائقة الطبيعة. فالمواهب الطبيعيّة تتجلّى في قدرة الله الفاعلة في كلّ الخليقة المحسوسة وهي: الحياة، الحركة، الجمال، الانسجام، الإنجاب، وسائر وظائف المخلوقات وأحوالها. لذا ما إن تأمّل الإنسان في هذه البدائع حتّى شدا يسبّح الله: “أيّها الربّ ربّنا ما أعجب اسمك في الأرض كلّها لأنّ جلالك تسامى على السماوات” (مز 8:1).

هناك، أيضًا، ما منحه الله للإنسان حين جعل كلّ الأشياء في خدمته وتحت تصرّفه، وما أضفاه من عظمة على تركيبه العضويّ، وعلى الشرارة الإلهيّة الغير المائتة المحيية العاملة فيه، في حساسيّته وسرعة تأثّره، في الحكمة، في المحبّة والمعرفة، في الإدراك السليم، في العدالة والحماية الأبويّة، في الأمومة، في علاقته العاموديّة مع الله والأفقيّة مع البشر، في اللغة والعلم والفهم، في الاكتشافات وسيادته على الأرض وسبره غور المحيطات، في غزو الفضاء والميل الى الله والإيمان به بالإضافة إلى النجاحات والخيبات التي تصادفنا. كلّ هذه تساهم في نوال الغبطة الأبديّة وبلوغها. هناك، أيضًا، الصحّة التي تسرّ الإنسان، والأمراض التي تهذّبه، الغنى وتعلّقه به، الفقر الذي يجعله إنسانًا غنيًّا بالله. وخلاصة القول إنّ الإنسان يتسلّط على خيرات الأرض، ويتدرّب على فهم الحقائق الإلهيّة، لأنّه الابن الذي خلقه الله وأحبّه وأخذ يعتني به.

أمّا العطايا التي تفوق الطبيعة فهي كثيرة تخدم حياة الإنسان الروحيّة، وتتعلّق بأبديّته وخلاصه، وتساهم في بناء علاقة مع الله تفضي إلى تأليهه، وهي على أنواع :

أوّلاً: الاعمال التي أعطاها الله للإنسان لكي يعملها: العجائب، الشفاء، الرعاية، السلطة، اللغات، النبوءة، البصيرة، الحذاقة، الإيحاءات. فأنا لا أستطيع من ذاتي أن أجترح العجائب، ولا أن أتكلّم بالألسنة، ولا أن أتنبّأ أو أستوحي عمّا يحدث في أقاصي الأرض أو في أعلى السماء، كما أعجز عن قيادة قطيعي فيما لو كنت كاهنًا أو أسقفًا إن لم أحصل أوّلاً على النعمة الإلهيّة.

ثانيًا: أسرار الكنيسة السبعة مع كافّة الأسرار الظاهرة منها وغير الظاهرة. السرّ يعني شيئًا غير منظور يختفي وراء المنظور. أليست الرهبنة سرّ هي، وكذلك الطاعة؟ فالله يختبئ، مثلاً، في شخص الأب الروحيّ أو الأسقف اللذين نقدّم لهما الطاعة. ما هي الصلاة؟ إنّها المسيح، العنصر الغير المنظور الذي يدخل في قلوبنا بالروح القدس، من خلال كلماتنا وتنفّسنا التي هي عناصر منظورة.

ثالثًا: ثمار الروح القدس التسعة التي تكلّم عنها القدّيس بولس في رسالته إلى غلاطية، التي تتناول الحياة الاجتماعيّة داخل الكنيسة، فمن البيّن أنّنا من دون هذه المواهب لا نستطيع الحصول على حياة اجتماعيّة. وأمّا هذه الثمار، فهي: المحبّة، الفرح، السلام، طول أناة، الخدمة، التعفّف، الإيمان، اللطف، الانضباط.

رابعًا: الفضائل اللاّهوتيّة الثلاثة التي ذكرها الرسول بولس في رسالته الأولى إلى كورنثوس: الإيمان، الرجاء، المحبّة الموجَّهة نحو الله.

خامسًا: المواهب المسيانيّة الثمانية التي تناولها النبيّ إشعيا معلنًا عن مجيء المسيح فيقول: “عليه يرتكز روح الله، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقدرة، روح المعرفة والتقوى، روح المخافة” (إش 11: 2). ونحن المؤمنين، الذين مُسحنا بالروح القدس، علينا أن نكتسب هذه المواهب بعيش الفضيلة والإيمان، إذ لكلّ منها معناه وأهمّيّته في حياتنا. الفضائل الثلاث اللاّهوتيّة تمثّل الثالوث القدّوس ومجده. الثمار التسعة التي للروح القدس تكشف عن توزيع المواهب وتنوّعها. العطايا المسيانيّة الثمانية تذكّرنا بالأوقات الأخيرة، واليوم الثامن أو الدهر الآتي.

سادسًا: المواهب الأربعة التالية: الصوم، السهر، الصلاة، الإحسان، وتخصّ هذه المواهب المسيحيّين الذين يجاهدون باستقامة. تتحوّل الحروب الروحيّة إلى أعمال باهرة تتخطّى حدود الطبيعة البشريّة عندما تتدخّل النعمة وتشدّد المؤمن في جهاده.

سابعًا: المواهب التي تملأ العالم وتسنده وتشدّده بحضور الروح القدس وقدرته: موهبة الكرازة والاستشهاد، وعطيّة القداسة، وموهبة الحياة الرهبانيّة – والتي تتولّد منها مواهب كثيرة – وموهبة الدموع والابتهاج، وموهبة الهدوئيّة والطاعة التي ترفعنا إلى مستوى الكمال الروحيّ، فنصل إلى الحكمة الروحيّة والتأمّل والمشاهدة المغبوطة لله بحسب القول النبويّ: “جعلت الربّ دائمًا أمام عينيّ لأنّه هو عن يميني لكي لا أتزعزع” (مز 16: 8).

ثامنًا: توجد مواهب للروح القدس نرفضها نحن أحيانًا، أو بالأحرى لا نفهمها ولا نؤمن بها. نقاوم الله، مثلاً، عندما تنالنا الأحزان أو الأمراض، أو نعاني الفقر والظلم والجور. نقاوم الله عندما نرفض البتوليّة، العقم، المرض الساري، الجوع، الزلازل الأرضيّة، الكوارث الطبيعيّة وما ينتج عنها، الموت الفجائي لشخص عزيز، التجارب، الهجمات الشيطانيّة ….الخ.

أولى المواهب التي منحها الله للإنسان كما ورد في سفر التكوين هي المرض والموت: فبواسطة المرض تشملنا الصحّة الروحيّة متى تقبّلناه برضى وشكر. وبالموت ننتقل إلى حياة خالدة، فنصير خالدين. هذه المساوئ والصعوبات تطال حياتنا بسماح إلهيّ من أجل خيرنا، إلاّ أنّه حذار من أن نسبّبها لأنفسنا بأنفسنا. خلوًّا من هذه التجارب تصبح قلوبنا صخريّة، جافّة، عاجزة عن امتصاص قطرة من ندى المحبّة، أو إعطائها إلى آخرين. يتصلّب قلب الإنسان إن لم يتألّم البتّة ولم يختبر الصعوبات.

المجاهد الحقيقيّ هو الذي يخرج بعد كلّ تجربة أكثر تواضعًا ونبلاً وعذوبة وطيبة، ويتلقّى التعزية الإلهيّة التي تحفظه كجنين في رحم أمّه، فتنضج روحه، ويبتهج بالله ويحبّه أكثر، ويدرك، تاليًا، محبّة الله له. ولنأخذ مثلاً على ذلك: إنسان يجهل طريق الكنيسة جهلاً تامًّا، ولا تهمّه الحياة الروحيّة، ولا يفطن لخلاصه الأبديّ. هذا ما إن يعتريه المرض، ويدرك مدى خطورته على استمرار حياته، حتّى يلجأ إلى الصلاة والتردّد على الكنيسة، مقدّمًا قربانًا عن صحّته، ومستصرخًا الله لكي يزيل عنه المرض سريعًا. وإن تبيّن له أن مرضه يتطلّب عمليّة جراحيّة، يبكي ويستعطف ربّه قائلاً: “يا إلهي، أين أنت، ولماذا نسيتني؟ ألا تراني معرّضًا للموت؟”. تجري العمليّة، ويبقى الرجل على قيد الحياة، ولكن، ما الذي حصل هنا؟ لقد قوي إيمانه، رغم آلامه، وصار محبًّا ودودًا يشارك الآخرين آلامهم، ويتفّهم أوضاعهم وأوجاعهم. صار يفهم بأنّ الحياة الحاضرة لا بدّ من أن تقودنا إلى الحياة الأبديّة الحقيقيّة.

فمن هذا المنطلق علينا أن نتذكّر بأنّ الله يبارك الذين يواجهون التجارب بشجاعة ويصبرون عليها، فيملؤهم خيرًا كما يقول القدّيس إسحق السرياني: “لا يسمح الله بتجربة كبيرة من دون أن يعطي معها، في الوقت نفسه، نعمة كبيرة”. هل نعاني ونتألّم كثيرًا؟ هل نتعب لدرجة الإرهاق؟ أنجاهد بكلّ قوّتنا؟ سوف ننال، إذًا، العطايا الجزيلة من لدن الله، وبكلام آخر إنّ الله يمنح المواهب بمقياس التجارب. إنّ كلّ ما تقدّم ذكره يعبّر عن حكمة الله وعدالته. أمّا نحن البشر، فإنّنا نرفض التجارب والأحزان بشكل عامّ، إلاّ أنّنا نريد المواهب والنعم.

لنتكلّم عن نوع آخر من المواهب: هناك عطايا أو أعمال يتعذّر علينا فهمها، فولادة المسيح من عذراء فعل لا يدركه العقل، ولا يستطيع شرح هذا الحدث. وأيضًا، قدّيسون كثيرون قالوا للجبل أن ينتقل وينطرح في البحر، فكان لهم ما أرادوا. أليس هذا حدث معجز يفوق الفهم؟ ألا يطرح هنا السؤال نفسه علينا إن كنّا نؤمن بالعجائب، وكيف نؤمن بها؟ كان القدّيس غريغوريوس بالاماس لا يستطيع الحفظ غيبًا، فقرّر، يومًا، أن يصنع ثلاث سجدات أمام أيقونة والدة الإله، سائلاً إيّاها بأن تفتح له ذهنه لكي يتمكّن من الحفظ. منذ ذلك اليوم لم يكن يفهم ما يقرأه وحسب، بل أصبح يحفظه في ذاكرته، ويضعه قيد التطبيق، حتّى صار، وبوقت قصير جدًّا، تلميذًا ممتازًا ولاهوتيًّا بارعًا. هل تستطيع أن تدرك بعقلك ما فعله “القدّيس إفركيوس عندما أمر الشيطان الذي كان مستوليًا على ابنة ماركوس أوريليوس بأن يحمل على ظهره هيكلاً موجودًا في المدينة تقام فيه الاحتفالات الوثنيّة، وكيف رأى الجمع المحتشد الشيطان يخرج من الفتاة الشابّة، ويتوجّه ناحية آسيا لكي يثبت للناس هناك بأنّ الله موجود، ويدعوهم إلى الإيمان به؟ [1]

ولنعرض الآن بعض الامثلة لمواهب الروح القدس، لتختبروا عظمتها وتنشدوا: “أيّ إله عظيم مثل إلهنا” (مز 77: 13).

** أراد القدّيس باخوميوس يومًا أن يطرد النعاس عنه، ليبقى متصدّيًا يقظًا نهارًا وليلاً لهجمات الشيطان المتواصلة. سأل الله منحه هذه النعمة، فاستجاب له، وبقي وقتًا طويلاً دون أن ينام!!!

** زاره يومًا أحد النبلاء الرومان، وكان يتكلّم اليونانيّة، فيما كان القدّيس باخوميوس لا يتكلّم سوى اللغة القبطيّة، فتوجّه، عندئذ، إلى الله قائلاً: “كيف يتسنّى لي منفعة من ترسلهم إليّ من أقاصي الأرض؟ إن كنت تريد أن تخلّصهم، فأعطني، إذًا، معرفة لغتهم، وللحال صار يحدّث زائره باليونانيّة واللاّتينيّة.

** كان القدّيس بفنوتيوس أمّيًّا، ولذلك لم يقرأ الكتاب المقدّس، فتوسّل إلى الله لكي يعلّمه كيف يقرأ، فمنحه الله معرفة كاملة بالعهدين القديم والجديد!!!

** سأل الأب بيمن الأب سرماتاس: “ما الذي جنيته من تنسّكك القاسي هذا؟ فأجابه: “صرت أقول للنوم تعال، فيأتي. وإن قلت له اذهب، فيذهب”. يبدو جواب القدّيس بسيطًا، إلاّ أنّ عظمة الله تبدو في هذه الأمور البسيطة. نحن نحتاج، مثلاً، لأدوية مهدّئة لننام، أو لأقراص منشّطة لكي نبقى يقظين، ولكنّ الأب سراماتاس كان يملك النعمة.

** بينما كان القدّيس مرداريوس ينظر من النافذة (هو واحد من الشهداء الخمسة الذين نعيّد لهم في 13 كانون الأوّل) رأى قافلة من الشهدء تمرّ أمامه، وهي في طريقها إلى الاستشهاد، وميّز بينهم  القدّيس افستراتيوس مقيّدًا. فأخذت امرأته، التي كانت إلى جانبه، تشجّعه للانضمام إليهم ليشهد، هو أيضًا، للمسيح، وللحال سلّم ذاته للجنود وانضمّ إلى تلاميذ المسيح المجيدين!!

** فيما كان القدّيس لعازر الذي من جبل GALESE على وشك الانتقال من هذه الفانية، سمع بكاء أولاده الروحيّين، فاغرورقت عيناه بالدموع، وتضرّع إلى الربّ لكي يطيل حياته بشفاعة والدته العذراء القدّيسة، فمنحه سيّد الحياة والموت 15سنة إضافيّة، وفي تمامها رقد. تجمع حوله الرهبان، من جديد، ينتحبون: “كيف نتدبّر حياتنا، وأنت لم تترك لنا وصيّة ترشدنا إلى ذلك؟”. فقام لعازر من رقاد الموت، وسلّمهم الوصيّة، وعاد ليرقد ثانية!!!

** أحب القديس مكسيموس الكفسوكاليفي الصلاة المستمرّة، فأخذ يصلّي بدموع أمام أيقونة والدة الاله، طالبًا منها أن تمنّ عليه بهذه النعمة. وما إن أنهى صلاته، حتّى أحسّ بالحرارة الإلهيّة تملأ قلبه، ومذاك لم يتوقّف عن استدعاء اسم الربّ يسوع بعذوبة لا توصف!!

** كان القدّيس اندراوس رئيس أساقفة كريت في طفولته أخرسًا أصمًّا، فتضرّع أهله إلى الله بحرارة لكي يشفيه. وفي عمر السبع سنوات، وبعد أن تناول القدسات الإلهيّة، انفتح مسمعاه، وانفكّت عقدة لسانه، لا بل جعله الله في ما بعد خطيبًا مفوَّهًا بارعًا!!

أليست هذه المعجزات التي سجّلها شهود عيان هي مواهب حقيقيّة؟! يعلّمنا يوحنّا كرباتيوس بطريقة جميلة جدًّا بقوله: “حيث يوجد الروح القدس لا تسل عن نظام أو شريعة ولا عن طبيعة مألوفة أو غير مألوفة”. ويقول القدّيسان يوحنّا الذهبيّ الفم ويوحنّا الدمشقيّ: “حيث يشاء الإله يُغلب ترتيب الطبيعة”. علينا أن نقرّ ونعترف بأنّ الناس يطلبون من الله، دائمًا، أمورًا دنيئة ثانوية وعرضة للتغيير كمن يقول: “يا إلهي، عاقبه ليفهم ويعرف بأنّني لست كما يحكم عليّ فلان من الناس”. أليس من الأفضل لك أن تتحمّل الملامة أو الاتّهام لكي تنال نعمة الصبر وإكليل المجد؟ أليس هو القائل: “النعمة والرحمة لمختاريه” (حك 3: 9). لا تطلب المواهب كنعم، بل بالأولى اطلب السيّد. يقول سليمان الحكيم: “الذين يثبتون أمناء في المحبّة يسكنون معه” (حك 3: 9)، إذًا، النعمة والعطايا التي يغدقها الآب على المؤمن تأتي نتيجة محبّته للربّ. ما يمنحنا إيّاه الله حسنًا كان أو سيّئًا، سلامًا أو تجربة هو عطيّة إلهيّة أثمن من الذهب والفضّة، وينبوع نعم أفضل من الحياة ومن كلّ نجاح .

لنرَ، الآن، من هم هؤلاء الذين يشتركون في المواهب الإلهيّة. إنّهم، بالتأكيد، أولئك الذين يعيشون للمسيح ومع المسيح. علينا أن نطلب الربّ، ونشعر أنّنا بحاجة إليه بالرغم من حالتنا الخاطئة، وبخاصّة عندما تكون حياتنا محفوفة بالمخاطر والمصاعب سيّما وإنّ كان الذين حولنا لا يبالون بالله. من يرتكب الخطيئة يطرد النعمة، ومن يستمرّ بها يفقد النعمة كلّها، فيذبل ويجف، “ويُلقى بعدها في جهنّم النار” (متّى 18: 9) فتموت نفسه. أمّا الذي لا يحيا لنفسه، بل لله، فإنّه، على العكس، يمتلئ نعمة. وبالنتيجة، فإنّ الأشخاص الذين يشتركون في المواهب الإلهيّة هم الذين يجاهدون ضدّ الخطيئة، ولا يتركون حقل نفوسهم يكسوه العلّيق، بل يحرثونه ليمتلئ من الفضائل. قد لا يجد المجاهدون الحقيقيّون من يشجّعهم، أو من يماثلهم في جهادهم، أو من يفهمهم، فيشابهون، بذلك، سيّدهم، ويُصلَبون معه. أخذ الرسلَ الخوفُ والدهشة عندما شاهدوا السيّد صاعدًا بفرح نحو أورشليم قائلاً: “ها نحن صاعدون إلى أورشليم ليتمّ ما كتبه الأنبياء عن ابن البشر” (لو 18: 31). كان يسوع يتكلّم بلهجة نبويّة وبطريقة مبهمة، ففهم التلاميذ بأنّ حدثًا مهمًّا ومرهوبًا سوف يحصل، فارتعدوا، ولكنّهم لم يفقهوا شيئًا “وكان هذا الكلام مخفيًّا عليهم فما أدركوا معناه (لو 18: 34). هكذا، وبالطريقة نفسها، لا يفهمنا الأهل والمحيطون بنا، متسائلين: “ماذا أصابه؟”. لكنّ الله يبادر إلى معونة الإنسان الذي لا تهمّه آراء البشر الدنيويّة.

يعين الله، أيضًا، الذين يقدّمون الإحسان عندما يرتفع عطاؤهم إلى السماء، ليفيض بالنعمة والبركة عليهم عندما يحسنون بفرح وتمييز. لا يعاني الإنسان الرؤوف البتّة من الألم، ولا أعني هنا الألم بالمعنى البشريّ، بل بالمعنى الروحيّ.

ويعين الله، أيضًا، الإنسان الذي يصوم، لأنّه بصومه يشهد للمسيح أمام الناس الذين غالبًا لا يصومون. الصوم يعادل الاعتراف بالإيمان بالمسيح أمام البشر. أتعلمون لماذا يفقد الصوم قوّته؟ يفقدها عندما يصوم المرء، فقط، من أجل الصوم. أتعلمون ماذا يعمل الصائم؟ يفتح يده، ويتمسّك بالله الذي، برضاه أو بغير رضاه، يباركه. ولكي نفهم كيف يفيض الله نعمته على المجاهد نسوق مثل يعقوب: اجتاز يعقوب فترة حرجة في حياته عندما أراد أن يعود إلى أرض أجداده، إذ كان يخشى لقاء أخيه عيسو، فظهر له إنسان نورانيّ، أو بالأحرى، الله نفسه. بقي يعقوب وحده يصارعه حتّى طلوع الفجر، ولمّا رأى الرجل أنّه لا يقوى على يعقوب في هذا الصراع ضرب حُقّ وركه، فانخلع، فقال، عندئذ، ليعقوب:

– ها قد طلع الفجر، فاتركني.

– لا أتركك حتّى تباركني.

– ما اسمك؟

– اسمي يعقوب.

– لا يدعى بعد اسمك يعقوب، بل إسرائيل، لأنّك صارعت الله والناس وغلبت .

– أخبرني ما اسمك؟

– لماذا تسأل عن اسمي؟

وباركه هناك. (تكوين 32/24-31). تغيير الإسم يعني نوال البركة والنعمة والقوّة. غلبتني، وكنت قويًّا في هذا الصراع الروحيّ، وسوف تكون قويًّا، أيضًا، بين بني البشر. يستطيع الصائم أن يحقّق، أيضًا، عجائب كهذه إن ارتبط صومه بالصلاة، إذ يبلغ إلى معرفة الحقائق الإلهيّة، ويرغم الله على أن يباركه.

لا تتوقّف حياتنا الروحيّة على أعمالنا النسكيّة الشخصيّة من أصوام وأسهار وصلوات فقط، وإنّما هي مرتبطة، كذلك، بحياتنا الاجتماعيّة. لذلك علينا أن نتصرّف بتمييز، غير ناسين أنّنا نعيش في العالم، وعندنا أولاد علينا أن نعلّمهم كيف يحيون اجتماعيًّا، ولدينا واجبات علينا القيام بها. حتّى في الدير، الذي هو مجتمع مصغَّر، لا ينبغي أن يجعلنا إيماننا أناسًا غير اجتماعيين، بل نحن نحفظ إيماننا، ونحترم آراء الذين من حولنا وإن اختلفت عن آرائنا في أمور الدين. لا نتدخّل في حياتهم، ونحرص على أن يكون تصرّفنا معهم شهمًا نبيلاً. ليس أنا الذي يوجّه إليكم هذا الكلام، وإنّما الكتاب المقدّس القائل على لسان سليمان الحكيم: “لا تتخاصم مع أحد لأنّك سوف تقع في الغضب، وتجعل من أصدقائك أعداء لك”، ثمّ يضيف: “ناصر الآخر على رأيه اخضع له بكلّ أمر إلاّ بما يتعلّق بايمانك …”. إن لم ننتبه نحن الرهبان، وكذلك أنتم أيّها المتزوّجون، على تصرّفنا، وإن ناهضنا بعضنا بعضًا، وإن تشبثّنا بآرائنا بعناد، وإن اشتكينا من ضعفات الآخرين غير ناظرين إلى ضعفاتنا، فسوف تكون شركتنا الرهبانيّة أو عائلتنا البيتيّة غير أهل لحضور إله السلام فيها، وغير كفء لاقتبال المواهب الإلهيّة.

يقول الأب إشعيا المتوحّد والناسك، وهو عالم نفس بامتياز أيضًا: “ثلاثة أمور تُظلم النفس: كره الإنسان قريبه وحسده إيّاه وتذمّره منه”، فإن استسلمنا لهذه العيوب تنسحب منّا النعمة الإلهيّة، فيما تغمر الأطفال بسهولة، وتغدق عليهم بالمواهب، لأنّ نفوسهم لا تزال أرضًا عذراء خصبة مهيّأة لتُزرع فيها الكرمة الصالحة، فهل أدركتم، بعد هذا، لماذا يجب علينا ألاّ نشكّك أولادنا؟ التصرّف الصحيح يكون في إعطائهم المسيح، وقيادتهم إلى مراعي الكتاب المقدّس، وإلى مرج القدّيسين. علينا أن نتصرّف معهم بحكمة واحترام، وكأنّهم أكبر منّا سنًّا، فإن نشأوا هكذا، سوف يصلون إلى قامة تؤهّلهم للحصول على مواهب ونعم عظيمة.

من الذي يشترك في المواهب؟ هو الذي يحفظ الوصايا بخوف. ففي حفظ الوصايا تكمن النقاوة، وحيث النقاوة هناك الاستنارة، وحيث الاستنارة هناك ملء الرغبة الإلهيّة. يقول القدّيس غريغوريوس اللاّهوتيّ: “يتوقّف الأمر علينا في اكتساب المواهب بمعاضدة النعمة الإلهيّة التي لا تشيخ أبدًا”. لا يعني هذا أنّها لا تتغيّر، فقط، ولكنّها هي، دائمًا، جديدة، مندّية للنفس، مفعمة بالجمال واللطف، غنيّة بالمواهب والبركات، تعطينا، دائمًا، ما هو ضروريّ لنا بحسب جهادنا ومحبّتنا لله، وعندها يغدو الحسد والشهوات الأخرى أمورًا مستبعدة. فكما ظهر يوسف قديمًا موزِّعًا عادلاً للقمح في بلاد فرعون، هكذا الله يوزّع مواهبه، فللبعض قليلاً، وللبعض الآخر أكثر، ولكن لا أحد من دون مواهب، ولا أحد، أيضًا، يمتلكها كلّها، لأنّ الله هو الكامل فقط.

كيف تصلنا المواهب؟ قلنا بأنّها تُقسَّم وتوزَّع عبر الروح القدس “السلطة الكلّيّة”، المساوي للآب والابن، الذي يتحدنا بالقدّوس، وقد أرسله لنا المسيح كمعزّي لنا بعد صعوده. هو الروح المعزّي في جسد الكنيسة، والذي يوطّد الحياة والوحدة بين أعضائها، ويفيض اللاّهوت كما نرتّل: “بالروح القدس تفيض سواقي النعمة ومجاريها فتروّي البرايا بأسرها بالحياة المحيية”. الروح القدس هو غير مدرك بالطبيعة، و”لكنّنا نستطيع إدراكه من خلال عذوبته” كما  يقول القدّيس باسيليوس عنه. يدخل الروح في قلوبنا بالمحبّة دون أن ينفصل عن الآب والابن. هبوب الروح غنيّ جدًّا يشبه نبعًا لا ينضب، ومحيطًا لا يسبَر غوره يمنح الحياة والنعمة. عندما يُمنح الروح القدس، الآب يعمل في الوقت ذاته كمبدأ الألوهيّة، والابن يأمر. إذا توقّف الروح القدس عن بثّ نعمته وطاقاته الغير المخلوقة، عندها تنطفئ الكائنات العاقلة أي البشر، والكائنات الغير العاقلة أي الحيوانات. من الواضح بأنّ الله لم يكوّن كلّ الأشياء لكي تصير إلى الفناء، بل لكي تشكّل معًا “أرضًا جديدةً وسماء جديدةً” (إش 65: 17)، ولهذا السبب يستمرّ الله في نشر نعمته بواسطة روحه القدّوس متى شاء، وبحكمته اللاّمتناهية يمكن له أن يحجبها عنّا إن كان هذا مفيدًا لنا.

يلتفت الله بمحبّته الخاصّة تجاه الإنسان لأنّه على صورته الإلهيّة، ونظرًا لضعف طبيعته الساقطة، فالرسول بولس يقول بأنّ “الروح القدس يأتي ليعين ضعفنا” (رو 8: 26) في الحالة التي نحن فيها: إن كنّا في الخطيئة، في مرارة وحزن، في خبث، في بؤس. فمهما كان الوضع الذي نعيش فيه يأتي الروح القدس المُعين والمحامي والمعزّي لينحني علينا، ويساعدنا على مقت ضعفاتنا، وتحمّل أمراضنا، ومواجهة تجاربنا وخطايانا التي نبسطها كفراش ليّن أثناء فترة إقامتنا على الأرض المبنيّة على الرخاوة وأمجاد العالم الباطل. الروح القدس يهيّئ خلاصنا، ويقرّبنا إلى الله ويقدّسنا. وكما تجسّد المسيح من العذراء بالروح القدس، هكذا يتجسّد الروح القدس روحيًّا في داخلنا بالروح القدس أيضًا.

يصير كلّ واحد منّا عملاً مقدّسًا سرّيًّا، نصير كوالدة الإله، نولد المسيح ونلاحظ اختلاجاته في داخلنا، وكلّما تصوّر المسيح في داخلنا، كلّما نقل إلينا نعمته. هكذا نستطيع أن نتمّم دعوتنا في الكنيسة لكي تحيا وتحكم مستقبل كلّ الشعوب، لأنّ الروح القدس هو مهندس الكنيسة وبانيها بحسب القدّيس باسيليوس” الروح القدس يشيّد الكنيسة”، وكلّنا مبنيّين بالروح القدس في جسد الكنيسة.

إنّ الإنسان مؤلَّف من جسد مادّيّ مائت، ومن نفس غير هيوليّة وخالدة تستطيع أن تحيا على مثال الثالوث القدّوس . فالجسد يحيا طالما النفس حيّة فيه، وعندما تنفصل عنه يموت وينحلّ. إذًا، لا يعود هذا الجسد إنسانًا، بل يتحوّل عظامًا مجرّدة وهيكلاً عظميًّا أو رفاتًا. “تحيا النفس بالروح القدس، لذا عندما ينسحب الروح منها، تفقد سعادتها، ولكنّها لا تفنى، بل تحيا حياة أصعب من الموت” بحسب تعبير القدّيس نيقوديموس الآثوسيّ. لا تستطيع النفس أن تحيا من دون الروح الذي يسكن في الانسان كغنًى لا يقدّر، وإن كان الإنسان مستحقًّا، يعمل الروح داخل النفس، ويجعلها روحيّة، ويقدّس الجسد أيضًا. وإن لم يكن مستحقًّا، لا يستطيع الروح أن يعمل، بل ينطفئ، لذا حذّرنا القدّيس بولس الرسول قائلاً: “لا تُطفئوا الروح” (1تسا 5: 19)، ولا تمنعوه أن يعمل في داخلكم ويبسط نعمته. بنفخة مقدّسة أعطى الروح القدس الحياة لآدم، وجعله” نفسًا حيًّة”، واضعًا فيه “باكورة الروح” و”عربون المجد الآتي” لكي يحيا الحياة الأبديّة، ويملكها داخله، ويُقاد إلى “الفرح  الأبديّ”.

يأمر الرسول بولس بأن: “ارغبوا في المواهب الإلهيّة”، لأنّنا إن عدمناها نكون قد حُرمنا من فائدة جلّى، ونميل بسهولة إلى معارضة الآخر ومناقضته، إلى الحقد، إلى السلبيّة… ثمّ يُضيف الرسول قوله: “اسعوا وراء المحبّة”، أي لا نلتمسنّ المواهب، بل، فلنحبّنّ المسيح فقط. فلنهتمّنّ، إذًا، من أجل بناء كياننا الروحيّ، ولنزرع الأمور الروحيّة لكي نحصد الروحيّات، ولنزرع المحبّة لكي نحصد المحبّة، أمّا إن زرعنا الباطل، فستفقد حياتنا ثروتها.

يميّز الكتاب المقدّس جيّدًا بين ارتباك الناس الأخيار بالمادّيّات وبين نسيان الخيرات، عندما نتعب لجمع الخيرات المادّيّة ونضطرب ننسى النعمة ونفقد عطايا الروح، أمّا إن اُضيفت محبّة المسيح إلى النعمة، فهذه تحرّرنا من كلّ الشرور، وتجعلنا أناسًا عجائبيّين، ونمسي في عداد صفوف معسكر المسيح حيث الغنى الحقيقيّ وعظائم الله الرهيبة. “الحقّ الحقّ أقول لكم إنّ في الحاضرين هنا من لا يذوقون الموت حتّى يًشاهدوا ملكوت الله آتيًا بمجد وقوّة”. لا يموتون قبل أن يُلاحظوا بأنّهم ربحوا الله، الأرض والسماء، ألا جعلنا الله، نحن أيضًا، في عداد هؤلاء المغبوطين. آمين.

[1] “نقلاً عن (vie de notre pére Abercius egal aux Apotres et thaumaturge , évêque d Hierapolis).

*محاضرة في دراما في 13 آذار من العام 1988. تُرجمت عن الفرنسيّة من كتاب de la chute à l’éternit، في 8/9/2012

admin:
Related Post