تعليم القديس سلوانس الآثوسي عن الشفاء
الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
ينبغي علينا أن نوضح أن المسيح هو الطبيب قبل كل طبيب آخر. فقد قدّس الطبيعة البشرية من خلال تجسده، ومن خلال اتخاذه جسداً قابلاً للموت بلا خطيئة. لقد أعطى لكل إنسان إمكانية أن يشاركه حياته الخاصة من خلال تعليمه، وآلامه، وصليبه، وقيامته، وصعوده، وإرساله للروح القدس. المسيح هو الطبيب الذي يعالج والدواء الذي يشفي أمراض الإنسان الروحية داخل الكنيسة، وذلك بحسب مثل السامري الصالح.
يعالج الآباء الروحيون الناس من خلال قوة المسيح، والوسائط الروحية التي تقدمها كنيسته. وصايا المسيح وعقائد الكنيسة هي أدوية منقذة. يوضح تقليد الكنيسة الصحوي الطرق التي نستطيع بها التحرر من الأفكار، والشهوات، والخيالات. تعطينا أسرار الكنيسة إمكانية الاشتراك في قوة الله غير المخلوقة، المطهرة، المنيرة، والمقدسة.
هذا المنهج، الذي يستعمله آباء روحيون مستنيرون بالله، يساعد المسيحيين ليس فقط على التطهر، ولكن أيضاً على أن يتّحدوا بالمسيح وعلى أن يعيشوا في حياتهم الخاصة أحداث حياة المسيح مثل الصلب، والآلام، والقيامة، والصعود، وحلول الروح القدس. معنى النسك الروحي والشفاء هو أن يشترك المسيحي في حياة الكنيسة، وأن يتشبّه بالمسيح بالنعمة، وأن يتلقى مواهب الروح القدس.
سوف أركّز على بعض الجوانب من حياة القديس سلوانس الآثوسي، كما وصفها الأرشمندريت صوفرونيوس (ساخاروف)، والتي تظهِر معنى الشفاء وكيفية تحقيقه.
أتى القديس سلوانس الآثوسي، الذي كان اسمه في العالم سمعان إيفانوفيتش آنتونوف، من قرية شوفسك، من إقليم ليبيدينسك، من مقاطعة تامبوف في روسيا. لقد مضى إلى الجبل المقدس، وعاش كراهب في دير القديس بندلايمون، ووصل بالنعمة للاتحاد بالله، ودخل في قائمة قديسي الكنيسة بقرار من البطريرك المسكوني، وبالتالي كُرِّم كقديس.
إننا نرى في حالة القديس سلوانس، أنه على الرغم من أنه عاش حياة دنيوية قبل بقائه في الجبل المقدس، إلا أنه أصبح قديساً، ووصل إلى معاينة الله. لقد تحول كل عالمه الداخلي وكل جسده أيضاً. لقد اكتسب سلاماً داخلياً عميقاً، وتواضعاً، ووداعة، وأدرك حلاوة الله. لقد اقتيد من موطنه الأصلي، روسيا، إلى الجبل المقدس، الذي أصبح في النهاية موطنه الروحي. ثم بعد ذلك مضى إلى العالم أجمع دون أن يترك الجبل المقدس. لقد دخل أسرة آدم العظيمة، لأنه استوعب ألم كل سكان العالم وصلى بدموع من أجل كل الناس أن يعرفوا هم أيضاً المسيح بالروح القدس، وأن يدركوا حلاوة وسلام وتواضع ومحبة المسيح. لقد شفى القديس سلوانس كل عالمه الداخلي، وتحول تحولاً حقيقياً. لقد تجاوز في نفس الوقت الجنس والقومية، وأصبح قديساً عالمياً يحبه الكل ويوقرونه ويحترمونه. لقد حدث ذلك لأنه عاش داخل الكنيسة في مجتمع كنسي خاص؛ واشترك في أسرار الكنيسة ومارس النسك بحسب منهج الهدوئية الأرثوذكسي.
سوف نتناول بعض النقاط من تعليمه التي توضح هذه الحقيقة، لكي نظهر الجانب العملي مما كُتب عن الشفاء بأعلاه، كما هو مُعَلَّم ومُمَارَس في التقليد الأرثوذكسي.
كان القديس سلوانس الآثوسي خبيراً جداً بعلم الحياة الداخلية، أي بالعملية الخفية التي تحدث داخل عالم الإنسان الداخلي. لقد كان يعرف، بحسب تعبيره هو نفسه، أنه “عندما تتطفل أفكار مشتتة على الذهن، فإن الذهن يهتم عندئذ بكل من الله والأفكار”، وبالتالي لا يكون ممكناً تنفيذ وصية محبة الله بكل القلب وكل العقل. “لكن عندما يُغَلَّف الذهن بالله بالكليّة لدرجة استبعاد كل فكر آخر، يتم تنفيذ الوصية الأولى”.
الأفكار هي عرضٌ، إذا قبله الإنسان، يصبح معاهدة، وبالتالي تُرتكب الخطيئة. توجد العديد من الأفكار المتلائمة مع كل هوى من الأهواء. يصف القديس سلوانس جهاده لكي يتعامل مع الأفكار الآتية إليه عندما أكمل خدمته العسكرية ودخل دير القديس بندلايمون في الجبل المقدس. لقد حثّته الأفكار على ترك الدير، وتعامل معها بقوة قائلاً: “سوف أبقى هنا وأموت هنا من أجل خطاياي”. لقد كان هذا الإصرار مربوطاً بالصلاة. وهكذا قال: “بدأت الصلاة لله بحرارة لكي يغفر كثرة تعدياتي”. عندما قَبِل كراهب مبتدئ فكر شهوة، اعترف به لأبيه الروحي وكطاعة لأمره لم يقبل أبداً مثل هذه الأفكار في كل سنوات حياته الرهبانية فيما بعد. لقد حرره الاعتراف، والإصرار، والطاعة من هذا الفكر. لقد علم، أنه عندما يتلقى المرء نعمة الله، فإنه لا يستطيع قبول الأفكار الشهوانية مهما كانت التجربة عظيمة. لقد كتب قائلاً: “أن يعيش المرء مع زوجة شابة ولا يقترب منها لهي بطولة كبيرة، إنها بطولة ممكنة فقط لمَن هم حساسّون لعمل الروح القدس داخلهم. الروح القدس حلو ويفوق محبة المرأة”.
تأتي الأفكار من الشياطين وينبغي علينا أن نجاهد باستمرار لكي نلفظها. هذا هو المقصود باليقظة الروحية وكل تعليم كنيستنا عن اليقظة. يكتب القديس سلوانس قائلاً: “تماماً مثلما يدخل الناس ويخرجون من البيت، هكذا تذهب وتجيء الأفكار العديدة التي تبثها الشياطين إن لم تقبلها”. لقد كان خبيراً في هذا الجهاد الخفي وكان يعرف جيداً أن “الأفكار الشريرة تحزن النفس المتكبرة”. إننا لا نستطيع الهروب من تأثيرها الطاغي إلا بأن نتواضع. يكتب القديس سلوانس قائلاً: “عندما تحاصرك الأفكار الخاطئة، افعل مثل آدم وأطلب الله قائلاً: يا رب، يا صانعي وخالقي، أنت الذي ترى كيف ترتبك نفسي بالأفكار الرديئة….ارحمني”. إنه يكتب في موضع آخر أنه بقي لمدة ثلاثة أيام معذباً بفكر بسيط وأنه تحرر “بالصلاة والدموع”. ثم يستنتج قائلاً: “يكون الجهاد حتى ضد الهمسات التافهة التي قد تلهينا صعباً جداً”. يتحرر المرء من الأفكار من خلال جهاده الشخصي، وصبره، ومثابرته، بمساعدة الأب الروحي الذي يعترف على يديه ومن خلال الصلاة لله. تعمل نعمة الله في كل هذه الوسائل.
يعمل الروح الشرير، الذي هو شخص وليس مفهوماً مجسداً للشر، داخل نفس الإنسان. عندما يحدث ذلك ينبغي عليه الاعتراف، والإقرار بهذا الغضب العدواني الذي للشيطان، والصلاة لله لكي يعطيه روحاً متواضعةً. عندئذ سوف يجد راحة.
أعطى القديس سلوانس أهمية كبرى لمنهج مهم وقوي يجلب الخلاص من محبة الذات ومن الأهواء اللحمية. لقد أشار إلى هذا المنهج على أنه “علم عظيم“. إنه يتطلب شخصاً يتبنى موقفاً خاصاً، كأن يشعر في ذاته أنه أسوأ من أي شخص آخر، ويحكم على نفسه بالجحيم بل ويشعر حتى بنيرانه. ينبغي عليه ألا يبرر ذاته بالمرة، بل يلوم نفسه. هكذا تتواضع نفسه ويكتسب “دموع التوبة… التي يتولد منها الفرح”. يكتب القديس سلوانس قائلاً: “حسناً أن تهذب النفس لأن تفكر: أنا ماضٍ للاحتراق في الجحيم”. ينبغي فعل ذلك بتواضع، وينبغي على المسيحي الذي يمارس هذا “العلم العظيم” ألا ييأس، ولكن أن يتذكر حنو الله ومحبته. توحي نعمة الله بمثل هذه التوبة، وهي تجلب الفرح.
يذكر القديس سلوانس باستمرار اليأس، وفقدان الرجاء، والمعاناة، والاضطرابات، والأمراض التي خاضها على مدار حياته، خصوصاً عندما تراجعت النعمة الإلهية. إنه لا يصف فقط الطريقة التي يستطيع بها المرء التحرر من هذه الحالات الرهيبة، لكن أيضاً الطريقة التي يمكن بها تحويلها إلى فرح روحي. عندما يكون الشخص متدرباً في الحياة الروحية، فإنه يكون منقاداً وملهماً من الله لكي يحوِّل كل شيء محزن إلى شيء صالح، صحي، مفرح. إنه يكتب قائلاً: “في إحدى المرات، تمكن مني روح اليأس، فبدا لي أن الله نبذني، وأنه ليس لي خلاص، وأنني على العكس أحمل في نفسي علامات الدينونة الأبدية. وشعرت في نفسي أن الله عديم الرحمة وأصم من جهة التوسلات. لقد استمر ذلك حوالي ساعة أو أكثر من ذلك بقليل. تكون مثل هذه الروح محزنة جداً، ومحطمة جداً، لدرجة أن مجرد تذكرها يكون مرعباً. ولا تستطيع النفس احتمالها لوقت طويل”. ثم بعد ذلك يصف كيف ظهر له الرب، وكيف ملأت نعمة الروح القدس نفسه وكل جسده.
لقد كان القديس سلوانس يعرف من خلال خبرته أن اليأس الذي يصعد داخلنا ويوحي لنا أننا لن نخلص ولن نستطيع التحرر من أهوائنا يأتي من الشيطان. إنه يكتب قائلاً: “يوجد البعض الذين يصيبهم اليأس فيظنوا أن الرب لن يغفر لهم خطاياهم. تأتي مثل هذه الأفكار من العدو. الله رحوم جداً لدرجة تفوق فهمنا. يعرف الشخص المملوءة نفسه بمحبة الله في الروح القدس كيف يحب الله جنس البشر”.
عادة ما تتمكن المعاناة والمخاوف من الناس، وتولِّد ألماً غير محتمل. إنه يكتب قائلاً: “تحزنني طريقة حياتي المهملة…”. إلا أنه لا يبقى في هذه الحالة، ولكنه يمضي قدماً لكي يعالجها. “….لا أستطيع أن أفعل ما هو أفضل من ذلك. أنا أعرف أن لديَّ القليل من التدريب، وأنني بليد الفهم وخاطئ، لكن الله يحب حتى الذين يشبهونني، وبالتالي ينبغي على نفسي أن تكد من أجله بكل قدرتها”. لقد كانت نفسه مملوءة بالحزن لأنه كان غير قادر على خدمة المسيح بسبب المرض. “يرهقني الألم في رأسي والنعمة التي تتغلب على المرض غير موجودة معي”. لقد أزعجه الألم لأنه لم يتصرف بحيث يفعل كل شيء تتطلبه الطاعة للمسيح ومحبته. إنه يعلن أنه عندما تأتي نعمة الله فإنها تتغلب على آلام الصداع. يحدث نفس الشيء مع الشهداء، الذين كانوا يبتهجون بالعذاب لأن نعمة الله كانت تزورهم. “إن كلّ مَن اختبر هذه النعمة يعرف ذلك، لكن ينبغي علينا أن نحتمل مرضنا”. إنه يقص قصة مدهشة عن راهب شاب قال: “على الرغم من أنني مريض، إلا أنني أسمع نعمة الله داخل نفسي”. من الواضح أنه سمع صلاة قلبية غير منقطعة داخله، وشعر بحضور الله.
عادة ما يقع الأشخاص الأنانيون في قبضة الخوف من الموت. يتضح ذلك خلال أحداث مثل الزلازل. لقد ضرب زلزال رهيب الدير في 12 سبتمبر سنة 1932 “ورج مبنى الدير العظيم بجملته، مسقطاً الحجارة والقذائف، جاعلاً الشمعدان والقناديل تهتز هنا وهناك، وجاعلاً الأجراس تدق، وحتى أكبر الأجراس قرع من شدة الاهتزاز”. مع ذلك بقي الرهبان هادئين في أماكنهم بدون خوف. يكتب القديس سلوانس قائلاً: “لا تخاف النفس التي أتت إلى معرفة الله أي شيء سوى الخطيئة، وخطيئة الكبرياء على الأقل. إنه يعرف أن الرب يحبنا، وإن كان يحبنا فمن أي شيء نخاف؟”
يخوض المرء الجهاد ضد الأهواء والشيطان بواسطة نعمة الله. يقوينا الله لأننا لا نستطيع أن نتعامل بأنفسنا مع مثل هذه التجارب الشديدة التي تصيب النفس والجسد مثل أفكار المرارة، والآلام، والمخاوف، واليأس. يجلب لنا الله الفرح، ويقوينا بطرق كثيرة متنوعة. إلا أن المشكلة تتولد عندما تحتجب نعمة الله لكي تسمح لنا بالتعبير عن حريتنا.
يذكر القديس سلوانس في كتاباته تبلد النفس الذي ينكشف عندما نفقد نعمة الله. إنه يكتب قائلاً: “لكن عندما فقدت نعمة الله … سقطت نفسي في طرق برية وأصبحت أسيرة للخطيئة، ثم فجأة فكرت في صعود الرب”. سواء كانت النفس متألمة وحساسة أو كانت متبلدة فإنها تعتمد إما على وجود نعمة الله أو على فقدانها. إنه يكتب في موضع آخر قائلاً: “عندما أفقد النعمة فإن نفسي تحزن بشدة”. على كل حال، عندما يلتجئ المرء لله ويطلب الغفران “فإن نفسه تجد سلاماً على الفور”. إنه يكتب ثانية قائلاً أنه عندما تفقد النفس التواضع فإنها تصبح “متوترة”. ثم عندما بدأ الحزن على خطيئته، وطلب غفران الله وأبغض تعدياته، علَّمه الروح القدس أن يصلي بلا انقطاع وأن يحب.
من الواضح من كل ذلك أن القديس سلوانس عانى من العديد من التجارب ومر خلال العديد من الآلام ونوبات اليأس، أولاً بسبب حياته السابقة في العالم، ثم بعد ذلك بسبب ابتعاد النعمة الإلهية. إلا أنه كان يعرف كيف يتوب، ويلتجئ لله ويطلب رحمته، حتى يبتعد الألم والضيق. كانت هناك مرات كان يعاين فيها الله نفسه، وجلبت له هذه المعاينة سلاماً داخلياً عميقاً وسكوناً. فهو يصف أنه بينما كان يصلي أمام أيقونة المسيح قائلاً: “يا ربي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ”، رأى المسيح الحي، وملأت نعمة الروح القدس كل نفسه وجسده، “منذ ذلك اليوم… انجذبت نفسي إليه، ولم تحمل لي الأرض أية لذة. الله هو فرحي الوحيد. إنه فرحي وقوتي، حكمتي وكنزي”. كنتيجة لمثل هذه الخبرة الروحية، التي ليست إنكاراً للحياة بل هي ملؤها، “تحترق النفس بلهيب محبة الرب” ومن “فيض حرارة المحبة… تخرج إليه، غير مشبعة، لأن حرارة هذه المحبة لن تدع النفس تنساه لا بالليل ولا بالنهار، ليس للحظة واحدة”.
يصف الأرشمندريت صوفرونيوس ساخاروف، الذي كتب سيرة القديس سلوانس الآثوسي وكان ابنه الروحي، ما اختبره القديس سلوانس وما شعر به بعد ظهور المسيح الأول له.
“في اللحظة التي ظهر فيها المسيح له شعر بكل كيانه أن خطاياه قد غُفِرَت. وتلاشت نيران الجحيم التي كانت تزأر عليه. وكفت عذابات جهنم التي كان قد اختبرها أثناء الستة شهور السابقة. لقد أُعطي له الآن أن يعرف الفرح والسلام الخاص بمصالحة مع الله. لقد غمر نفسه شعور نادر بالمحبة لله وللإنسان، لكل إنسان، في حين كفت صلاته من أجل التوبة وبحثه المطلق عن الغفران، اللذين لم يكونا يسمحان له بإغماض عينيه في النوم (لكن هل يعني ذلك أنه يستطيع الآن الاستسلام للنوم المريح؟ بالطبع لا).
أثناء الفترة الأولى بعد رؤيته عاشت نفس سمعان، التي كانت قد عرفت قيامتها الخاصة ورأت نور الكيان الحقيقي الأبدي، في حالة من الغلبة الفصحية. لقد كان كل شيء حسناً – كان العالم جميلاً، وكان الناس رائعين، وكانت الطبيعة رائعة جداً. بدا الأمر وكأن قوة أُضيفَت إليه – فقد شعر بأن جسده خفيف ولا يمثل أي عبء عليه – وكانت كلمة الله تفرحه. كانت ليالي السهر في الكنيسة، وبالأكثر أيضاً، صلواته الانفرادية في قلايته مبهجة. ومن فيض فرحه تولدت داخله الرحمة وصلى للعالم كله”.
يتضح من ذلك أنه عندما يكون الشخص متحداً بالله بطرق عديدة وبدرجات مختلفة، وعندما تدخل نعمة الله وقوته نفسه وجسده، فإنه يصبح في سلام. إنه يتخلص من كل أنواع الاضطرابات النفسية ويكتسب قوة جديدة، بل ويشعر أيضاً بالشفقة على العالم كله.
بعد تطهير القلب واستنارة النوس، عندما يأتي المرء لمعرفة الله الروحية، فإنه يحب الجميع ويريدهم أن يعرفوا المسيح في الروح القدس، كما يكتب القديس سلوانس باستمرار.
تمتد هذه المحبة إلى كل الخليقة. يكتب القديس سلوانس أنه قتل ذبابة بالخطأ و”على مدار ثلاثة أيام كاملة بكيت على قسوتي على مخلوق حي، وحتى هذا اليوم بقيت هذه الحادثة في ذاكرتي”. في مرة أخرى صب ماءً مغلياً على بعض الخفافيش وعلى حد قوله “ذرفت دموعاً كثيرة من جديد على هذه الحادثة، ومنذ ذلك الحين لم أؤذِ أي مخلوق حي بالمرة”. في إحدى المرات رأى ثعباناً ميتاً مقطعاً قطعاً وملفوفاً فكتب قائلاً: “امتلأت بالشفقة نحو كل كائن حي، ونحو كل مخلوق متألم، وبكيت بمرارة أمام الله”. ومع وجود ذلك في ذهنه كتب قائلاً: “يعلِّم روح الله النفس أن تحب كل كائن حي بحيث أنها لا تؤذي حتى ورقة خضراء في شجرة، أو تدوس على وردة في الحقل. هكذا يعلمنا روح الله المحبة تجاه الكل، وتشعر النفس بالحنو على كل كائن، وتحب حتى أعدائها، وتشفق حتى على الشياطين لأنها سقطت من الصلاح”.
لقد كان القديس سلوانس الآثوسي خبيراً في الجهاد الروحي الداخلي، وكان يعرف أن التقدم نحو الكمال الروحي يعتمد على درجة محبة الإنسان لله، وأيضاً بالطبع على الدرجة اشتراكه في نعمة الله. من يحب الله بدرجة محدودة “يقاوم الأفكار الشريرة”. من يقتني نعمة الله في أعماق قلبه ونوسه، ولكنه لم يتغلب بعد على أهوائه، يجاهد ضد الخطيئة ويتوسل لله. إنه قد يخطئ في ضعفه، لكنه يحزن على الفور ويتوب. من تغلب على الأهواء وكان واعياً بالنعمة العظمى، لا يتعين عليه أن يجاهد، لكنه يكون حذراً من ارتكاب الخطيئة. “والرجل الواعي بنعمة الله… في كل من النفس والجسد يكون في حالة من المحبة الكاملة، ولو حافظ على هذه النعمة، سوف تصبح عظام جسده رفاتاً مقدسة”.
يمتلئ الإنسان بعيداً عن الله بالألم، والإحباط، واليأس، وتكون نفسه في حالة مقفرة ويقسو قلبه. إلا أنه عندما يبدأ في معرفة نعمة الله، سواء بدرجة كبيرة أو صغيرة، يهرب كل شعور كياني بعدم الأمان وبالفراغ، وتبدأ نفسه وجسده في التعافي. عندما يلجأ الإنسان لله من خلال الكنيسة، يكون معتنياً بأفكاره ويكتسب إيماناً بالله. إنه يسلح نفسه بالصبر والطاعة. تتجلى الصلاة النوسية في قلبه، وتشبع جوعه وعطشه الروحي، بل وتجعله أكثر عطشاً. إنه يصل بلذة الله الصالحة إلى معاينة الله، والشركة في قوى الله المقدسة ومعاينة المسيح. عندئذ تمتلئ كل من نفسه وجسده بالفرح والنعمة، ويتم التغلب على خوف الموت، بل والموت نفسه. وتُشفى كل الاضطرابات النفسية بل وحتى الآلام البدنية، كما نرى في حالة الشهداء، الذين شُفوا من الجراحات التي أصابتهم أثناء مسيرة استشهادهم. ما هو أكثر من ذلك، أن الجسد نفسه قد يصبح رفاتاً مقدساً. يعني ذلك أن تحلل الجسد يتوقف، لأن الموت نفسه، الموجود في جينات خلاياه، يتم تجاوزه.
لا يهدف العلاج النفسي الأرثوذكسي إلى تحقيق الاتزان، أو الاستقرار النفسي والعاطفي والاجتماعي، أو جلب السعادة للفرد، بل هدفه هو تحويل الإنسان بجملته واتحاده بالله. ليس في نيتي تجاهل علم الطب النفسي وطب الأعصاب، اللذين يلجأ إليهما الناس لطلب المساعدة عندما وجود أسباب خاصة كالأمراض البدنية، أو العوامل الوراثية، أو الإجهاد العصبي. لا تشجب الكنيسة العلم. إنها تستعمل إنجازاته في بعض الحالات الضرورية. على كل حال، تقود الكنيسة الأرثوذكسية، من خلال علم اللاهوت الخاص بها، الإنسان إلى الاتحاد بالله، هذا الأمر الذي لا يستطيع أي علم، أو دين، أو منهج فكري أن يحققه.