X

بحث في التراث الأرثوذكسي

 

 

البحث عن الولد الصالح

إعداد الخورية سميرة عوض ملكي

الولد أيضاً يُعرف بافعاله هل عمله نقي ومستقيم (أمثال20: 11)

في قديم الزمان، عاش في مملكة بعيدة خمسة فرسان صالحون وحكماء. وكانت أسماؤهم تعبّر عن شخصية كل واحد منهم.

الفارس الأول كان يدعى السيد جوليان الشجاع لأنه قتل أسداً ضخماً كان يأتي من الغابة ليقتل النساء والأطفال، وذبح تيناً، وأنقذ أميرة من قلعة كانت تحترق. فهو لم يكن يخاف شيئاً تحت الشمس.

أمّا الفارس الثاني فكان اسمه جيرال السعيد، لأنه كان دائماً سعيداً، وكان يحمل لكل مَن حوله. فابتسامته العذبة وكلماته المرحة كانت سلوى وعزاء إذ لم يكن ممكناً لأحد أن يبقى حزيناً أو متضايقاً أو غاضباً عندما يكون بالقرب من جيرال.

السيد روبيرت اللطيف كان الفارس الثالث وقد نال اسمه لرقة قلبه. حتى حيوانات الغابة كانت تعرفه وتحبه لأنه لم يؤذِ قط أي مخلوق خلقه الله.

كان وجه الفارس الرابع جميلاً كاسمه، لهذا دُعي ريڤال الطاهر. كان يفكر أفكاراً جميلة، لأنه حفظ حياته كلها كحديقة مملؤة بالأزهار بدون أية عشبة ضارة.

توم الصادق كان الفارس الأخير وهو قائدهم كلهم.

كان ملك البلاد يثق بهؤلاء الفرسان الخمسة كثيراً. وذات صباح من أيام الربيع، دعاهم الملك إليه وقال لهم: “يا فرساني الأمناء، أنا قد شخت وأتوق كي أرى في مملكتي العديد من الفرسان مثلكم، لكي يرعوا يعتنوا بشعبي. لهذا سأرسلكم إلى كل أنحاء المملكة لتختاروا لي صبياً صغيراً يمكن له أن يعيش في قصري ويتعلم منكم كل الأشياء التي يجب أن يعرفها كل فارس ولا تختاروا لي إلا ولداً صالحاً. ولد صالح يستحق (يساوي) أكثر من مملكة. وعندما تجدوه أجلبوه معكم. إن أتى إليّ طوعياً فسأكون سعيداً في شيخوختي.

سُرّ الفرسان كثيراً بكلمات الملك، وعند بزوغ الفجر، كانوا جاهزين لرحلتهم. فامتطوا أحصنتهم وانطلقوا في الطريق المَلَكي العام بريشاتهم المتماوجة وتروسهم اللامعة.

حالما بدأ الفرسان رحلتهم، كانت الأخبار قد انتشرت في كل أنحاء البلاد، وكان العديد من الآباء والأمهات قد أرسلوا رسلاً للفرسان يدعونهم لزيارتهم علّهم ينالون استحسان الملك. وكانت رسائل الأهل كلها مملوءة بمديح أولادهم. لهذا احتار الفرسان إلى أين يذهبون. فبعض الأهل قال إنّ أولادهم جميلون جداً، والبعض الآخر قال إنّ أولادهم أنيقون. لكن الفرسان لم يكن يهمهم إلا الولد الصالح لهذا لم يسرعوا ليروا هؤلاء الأولاد.

في اليوم الثاني، بعد أن اجتازوا الكثير، التقوا بمجموعة من الرجال يرتدون الملابس الفاخرة، انحنوا أمامهم، وبينما كان الفرسان يسحبون سَيْر اللجام متعجبين أسرع رجلٌ صغير في السير أمام الآخرين ليتحدث إليهم.

كان رجلاً صغيراً وسميناً، صوته ضخماً. أخبر الفرسان أنه قد أتى ليدعوهم لزيارة قلعة البارون بوريس لأن ابنه الولد الأروع في العالم.

“أوه! لا يوجد شيء لا يستطيع فعله” صرخ الرجل الصغير السمين، وكان اسمه ﭙوف. “يجب أن تروه يمشي! يجب أن تسمعوه يتكلم!”

وهكذا تبعه الفرسان، وحين وصلوا الى القلعة، ركض ريموند للقائهم. كان ولداً مرحاً، شعره أشقراً طويلاً مجعداً، وخداه موردين، ولدى رؤيته الأحصنة الجميلة راح يصفّق بيديه بسرور. كان البارون والبارونة سعيدين أيضاً بزائريهم. وصنعوا احتفالاً على شرفهم. لكن، في الصباح التالي، فوجىء الفرسان بصوت مروّع آتياً من القاعة السفلية.

“بوو – هوو – هوو – هوو!” صوّت شيء يشبه عواء الكلب، لكن عندما أنصتوا، بدأ الصوت يعلو ويعلو حتى سُمِع وكأنه زئير أسد.

استلّ الفرسان سيوفهم واندفعوا الى أسفل ليروا ما يحدث. ماذا هناك؟ كان ريموند في وسط القاعة، يقف وخداه منفوختان وعيناه متورمتان ومن فمه المفتوح تصدر تلك الضجة الرهيبة جداً: “بو – هوو – هوو – هوو!”

كان أباه وأمه يتوسلان إليه لكي يهدأ. والطباخ أتى إليه بالحلوة، والممرضة بلعبة، لكن فلوريموند ظلّ فاتحاً فاه يصرخ أعلى وأعلى لأن المطر كان يهطل وهو يريد أن يلعب في الخارج.

بعد أن رأى الفرسان ما لا يريدونه، أسرعوا الى الطابق العلوي ليجهزوا لرحلتهم. البارون والبارونة والصغير السمين ﭙوف راحوا يتوسلون إليهم كي يبقوا، حتى ريموند راح يصرخ ثانية عندما تركوه. لكن الفرسان لم يهتمّوا بأن يبقوا مع ولد غير صالح.

بدأ الفرسان يفكرون بأن مهمتهم صعبة، إلا أنهم استمروا في البحث سائلين في كل بيت: “هل يوجد ولدٌ صالحٌ هنا؟” لكنّهم لم يجدوا سوى الخيبة.

بحثوا شمالا، جنوباً، شرقاً وغرباً. وأخيراً توقفوا بعد الظهر تحت شجرة سنديان ليتحدثوا، فقرروا أن يتوزّعوا كلٌّ في اتجاه.

“ليأخذ كلّ واحد منا طريقه” قال توم الصادق، “وغداً سوف نلتقي تحت نفس الشجرة ونخبر ماذا رأينا، لأن وقت العودة الى الملك صار قريباً”.

وهكذا ودعوا بعضهم بعضاً وكل واحد أخذ طريقه، ما عدا السيد توم الذي بقّى في مكانه لوقت طويل تحت شجرة السنديان لأنه كان القائد ولديه الكثير من الأشياء يفكّر بها.

في اللحظة التي كانت فيها شمس المغيب حمراء في الغرب، رأى صبياً صغيراً آتياً نحوه مع حزمة من العيدان على ظهره. “تحياتي أيها الصبي الصغير” قال له السيد توم. “تحياتي، أيها السيّد الوسيم” أجاب الولد، رافعاً نظره، بعينين ملهوفتين، الى الفارس الراكب على حصانه الرائع، الذي وقف حالما أمره الفارس.

“ما اسمك؟” سأله الفارس.

“اسمي جون” أجاب الولد.

“هل يمكن أن تثبت أنك دليل جدير بالثقة، جون الصغير، وتقودني الى مكان لطيف حيث أمضي ليلتي؟ سأل الفارس.

“بالتأكيد أستطيع” أجاب جون بسرور، ووجهه مشرق بالسعادة، لكنه أضاف بسرعة: “أستطيع إن كنت ستنتظرني حتى أحمل هذه العيدان الى الجدّة كاتي وأجلب لها الماء من النبع لأني وعدت أن أكون هناك قبل غروب الشمس”. كان جون يريد أن يساعد الفارس الصالح كثيراً لهذا كان آسفاً أن يقول هذا، إلاّ أن السيد توم قال له أن يسرع ووعد أنه سينتظر حتى يعود. ولم تدم لحظات حتى عاد جون قافزاً كالغزال من طريق الغابة ليدلّ الفارس على الطريق المؤدي الى بيته.

عندما وصلا إلى هناك أسرع الكلب الصغير للقائه، وراحت الهرة تداعبه بجسمها، وصرخت الأم من المطبخ: “هل هذا شعاع شمسي الذي أتى الى البيت ليبيت؟” هذا الكلام جعل جون والفارس يضحكان معاً.

بعد ذلك خرجت الأم مسرعة لترحّب بالغريب. فاستضافته بكل إحترام، مانحة إياه المكان الأفضل على الطاولة وقدمت له الكعك الساخن.

كانت هي وابنها الصغير جون يعيشان وحدهما لأن الأب كان قد ذهب الى الحرب عندما كان جون صغيراً وقد مات قتلاً من أجل الملك.

كان لديها أبقار وأحصنة وخنازير ودجاجات وديوك وكلب وهرة، ولديها كنز واحد أعظم من مملكة، لأنها كانت تملك ولداً صالحاً في بيتها.

اكتشف السيد توم هذا حالاً. لأن جون أسرع فوراً الى أمه عندما نادته، وتذكر الهرة والكلب عندما كان يأكل طعام العشاء، وذهب الى السرير عندما طُلب منه بدون معاندة، مع أن الفارس كان يخبره عن الأسود والدببة والمعارك وكلّ ما يحب أن يسمع عنه الصبيان الصغار.

كان السيد توم سعيداً جداً بهذا، وراح ينتظر بفارغ الصبر الوقت الذي سيلتقي فيه رفاقه تحت شجرة السنديان. “لقد وجدت الصبي الذي يجب أن تروه” قال هذا حالما التقوا معاً.

“وأنا أيضاً”، صرخ جيرال السعيد. “وأنا”، قال جوليان الشجاع. “وأنا” قال ريڤال الطاهر.

“أنا لا أعرف اسم الصبي” تابع جيرال السعيد، “لكن عندما كنت ممتطياً حصاني في الغابة سمعت أحدهم يغني الأغنية الأكثر روعة! ونظرت من خلال الأشجار، فرأيت صبياً صغيراً منحنياً تحت حِملِه الثقيل، فهرعتُ لمساعدته لكنّه رحل قبل أن وصلت الى مكانه. أحبّ أن أسمعه  يغني ثانيةً”.

“كنت راكباً حصاني في الطريق العام” قال السيد جوليان الشجاع، “وفجأة التقيت بمجموعة من الأشخاص القساة، الذين كانوا يحاولون أن يعذبوا كلباً أسوداً صغيراً. وفي اللحظة التي رأيتهم فيها، أسرع صبي صغير، وبشجاعة الفارس، أخذ الكلب بين ذراعيه وخبأه بمعطفه. وعندما رآني الباقون  فرّوا هاربين أمّا الصبي فبقي في مكانه وأخبرني أنّ اسمه جون”.

“ماذا!” صرخ متعجباً روبير اللطيف. “إنه الصبي الذي يجلب الحطب والماء للعجوز الفقيرة كاتي. لقد مكثتُ الليل كله في كوخها، وأخبرتني عن لطفه”.

“أنا رأيت غلاماً عند نبع قريب”، قال ريفال الطاهر، “أسرع ليملأ دلوه. لكن بعض المهرجين الأفظاظ  وحّلوا الماء عندما وصل الصبي. لكنه لم يغضب ولم يتفوّه بأي كلام بذيء، وأنتظر بصبر حتى عادت الماء صافية ثانية. أحب أن أجد منزله وأراه هناك”.

انتظر السيد توم إلى أن انتهي الجميع من كلامهم، حتى نهض وصرخ: “تعالوا أنا سوف آخذكم الى الصبي!” فتبعه الفرسان، وقادهم الى المنزل حيث كان الصبي جون يعمل مع أمه سعيداً كالقُبّرة ورقيقاً كالحمامة.

كان الوقت منتصفَ النهار وكانت الشمس تشرق مشعّة على تروس الفرسان وريشاتهم تتماوج في النسيم. وعند وصولهم الى البوابة، أصدر السيد توم صفرة عالية من بوق فضي، فبدأت كلّ الدجاجات تقوقي، والكلب ينبح، والحصان يصهل، والخنازير تنخر، وكأنّهم كانوا يعلمون أنه يوم عظيم. خرج الصغير جون مع أمه ليريا ما الذي يحدث.

عندما رأى الفرسان جون نظروا الى بعضهم البعض، وصرخ كل واحد: “إنه الولد!”

“تحياتي!” قال السيد توم للأم. “أرسَلَنا الملك، قائدُنا الحكيم الى هنا لنرى ولدَك الصالح، لأنّ الولد الصالح أثمن من مملكة. ويعرض الملك عليه حبَّه وعطفَه، إذ كنتِ ستدعينه يأتي معنا ليعيش في قصر الملك ويتعلّم أن يكون فارساً”.

كان جون وأمّه منذهلين جداً. وبالجهد استطاعا أن يصدقا أنّ شيئاً من هذا قد يحصل. وقد بدا لهما أنه لأمرٌ رائع وجميل أن يرسل الملك رسلاً الى جون الصغير.

بعد أن ردّد الفرسان كلام رئيسهم، ركض جون الصغير الى أمه وأحاطها بذراعيه لأنه عرف أنّه إن هو ذهب معهم فسيكون مضطراً لأن يتركها. وأمه عرفت أنّها إذا تركته يذهب فسيكون عليها أن تعيش بدونه.

وقف ديك على السياج وصاح عالياً: “كوكاو- دودل – دو!” وصرخ صوص صغير أضاع أمه: پيپ! پيپ! وكأنّما ليجعلا كلّ واحد يعلم أنه ينتمي الى جون.

وعندما سمعت الأم هذا أجابت الفرسان وقالت لهم: “لا أستطيع أن أخلي منزلي من ابني. حبُّ الملك غالٍ، لكن أنا أحب ولدي أكثر من العالم كلّه. وهو أعزّ إليّ من ألف مملكة”.

كان جون سعيداً جداً بجواب أمّه فنظر الى الفرسان ثانية بوجه مبتسم، وراح يلوّح لهم بيده وهم ذاهبون. سافروا النهار والليل كله. وعند الفجر وصلوا الى الطريق العام. وقد أبطأوا بركوبهم لأنهم كانوا حزينين من الأخبار التي يحملونها. إلا أن الملك ابتهج إبتهاجاً عظيماً، وعندما سمع روايتهم قال: “هكذا ولد، مع هكذا أم، سوف ينشأ فارساً في بيته”.

كانت كلمات الملك صحيحة وصادقة، لأنه عندما شاخ، أتى جون الى القصر ورُفع الى رتبة فارس. أُعطي جون اسماً جميلاً خاصاً به: “جون الصالح”، وكان شجاعاً، سعيداً، لطيفاً، طاهراً، وصادقاً. وكان محبوباً من كل شعوب العالم. لكن حب أمه بقي أكبر من الكلّ.


حكمة المرأة تبني بيتها والحماقة تهدمه بيدها. (أمثال10: 1)

يا إبني إن كان قلبك حكيماً يفرح قلبي أنا أيضاً وتبتهج كليتاي إذا تكلمت شفتاك بالمستقيمات. (أمثال23: 15 – 16).

admin:
Related Post