افتداء الوقت والزمان الشرير

افتداء الوقت والزمان الشرير

الأب أنطوان ملكي

يقول الرسول بولس في الرسالة الموجّهة إلى أهل أفسس في الآيات 11-16: “وَلا تَشتَرِكوا في أَعمالِ ٱلظُّلمَةِ ٱلَّتي لا ثَمَرَ لَها، بَل بِٱلحَرِيِّ وَبِّخوا عَلَيها. فَإِنَّ ٱلأَفعالَ ٱلَّتي يَفعَلونَها سِرًّا يَقبُحُ حَتّى ذِكرُها. لَكِن كُلَّ ما يُوَبَّخُ عَلَيهِ يُعلَنُ بِٱلنّورِ، لِأَنَّ كُلَّ ما يُعلَنُ هُوَ نُور. لِذَلِكَ يَقول: <إِستَيقِظ أَيُّها ٱلنّائِمُ وَقُم مِن بَينِ ٱلأَمواتِ، فَيُضيءَ لَكَ ٱلمَسيح>. فَٱحتَرِصوا إِذَن أَن تَسلُكوا بِحَذَرٍ، لا كَجُهَلاءَ، بَل كَحُكَماءَ، مُفتَدينَ ٱلوَقتَ، لِأَنَّ ٱلأَيّامَ شِرّيرَة.” فبعد أن يذكر ما هو ثمر الروح في الآيات السابقة، يأمر بألاّ يشترك المؤمن في أعمال الظلمة، أي الأعمال التي ليست من الروح. هو يأمر بالابتعاد عنها لأنّ لا ثمر لها.  فمظاهرها كاذبة. إنها تَعِدْ الإنسان باللذة ولكنها لا تقدّم له إلاّ التعب. تُغريه بالسعادة بينما هي تخبّئ له التعاسة تحت نقابها. لذا هي مخادعة وغير مثمرة. من ثم يضيف الرسول بوجوب توبيخ الأعمال الكاذبة. هنا التوبيخ هو للأعمال وليس للبشر. لا بد أن يُفهَم التوبيخ بطريقة صحيحة. عمل المسيحي ليس أن يعمل واعظًا في المجتمع يتوقّف عند كلّ عمل خاطئ ويبكّته ويوبّخ عليه. التفسير الحرفي يحمل معنى الإظهار: “أظهروها” بدلاً من وبّخوا عليها. وكيف يكون إظهار أعمال الظلمة؟ طبعاً ليس بالكلام، بل بإلقاء الضوء عليها، أي بعرضها للنور، وذلك بأن يسلك المؤمن في النور، فالضلال ينكشف عن طريق إظهار الحق. السلوك في النور يفضح السلوك في الخطأ دون قول أي كلمة، وهذا معنى قول الربّ “أنتم نور العالم”. فالكلام لا يحمل النور من دون قائله. هذا ينطبق على كلّ البشر. المعلّم الذي لا يظهر النور بأعماله لا تصل كلماته إلى أذني سامعيه. وهذا ينطبق أيضاً داخل الكنيسة، فالواعظ لا يوصِل نور المسيح ولا يكون كلامه مؤثرًا إن لم يكن ذلك مقروناً بسلوكه كإبن للمسيح وحامل له. وليس هذا فقط. فالأعمال القبيحة ذكرها أيضًا قبيح. الأعمال القبيحة غالباً ما يقوم بها الناس سراً لذا لا يصحّ ذكرها أمام الجميع، فالكثيرون يخجلون من الكلام فيها.

هذا التعليم يفتقده الكثيرون في أيامنا، خاصةً المؤسسات الإعلامية والأفراد الذين يصدّقونها وينقلون عنها. فمن أجل تحقيق سَبَق إعلامي، أو –للسخرية- بحجة الشفافية، تتحوّل هذه المؤسسات إلى منابر للفضائح لا تقيم وزناً للأذى الذي تسببه في كشف أعمال الظلمة التي يقوم بها بعض الأفراد. وأسوا من ذلك الذين يتمتّعون بنقلهم أخبار الكهنة والأساقفة والعاملين في الكنيسة محوّلينها إلى فضائح لا تفيد ولا تنفع ولا تقدّم إلا العثرة، خاصةً عندما ينقلونها من دون تحقق أو تثبّت من صحتها. وفوق هذا يدّعي بعض متناقلي هذه الأخبار التزامهم بتعاليم الآباء.

في أغلب الأحيان لا ينتج عن الكشف عن الأخطاء الفردية إلا الأذى. فهذا الفضح يعثّر الإخوة الضعفاء ويسهّل الخطأ على مَن منهم في تجرية، ويصعّب التوبة على الأخ الذي وقع. منذ أن تخلّت الكنيسة عن الاعتراف العلني صار ضرورياً أن يكون التوبيخ، بالمعنى الحرفي للكلمة، سرًا. حتّى ولو كان الخطأ علنياً، فمسؤولية كشفه هي على المسؤول وهو يقرر بتمييز كيف ومتى  حتّى يتربّى الجميع. سيَر الآباء مليئة بالقصص التي يغطّي فيها الحكماء خطيئة الجهّال إلى أن يقدّم الربّ وقتاً مناسباً يكون فيه كشفها للبناء والتوبة والاستنارة لا للهدم وزرع اليأس.

يقول الرسول “كلّ ما يُوَبَّخُ عَلَيهِ يُعلَنُ بِٱلنّورِ” ليس بمعنى الفضيحة بل بمعنى أن يكون سلوك المؤمن في الحالات المماثلة سلوكاً مستنيراً في المجتمع، أو توبيخاً وتعليماً في الكنيسة. فكُلَّ ما يُعلَنُ هُوَ نُور أي أنّ الإنسان الذي في داخله ميل نحو أعمال الظلمة متى سُلّط النور عليها يخجل من نفسه ويتوب فيتحوّل نفسُه نورًا. “استيقظ أيها النائم”، هذا قول مقتبس من إشعياء يقصد به أن نور المسيح الذي كان إشعياء موعوداً به قد أتى فعلى الخاطئ أن يستيقظ فيشعر بنور المسيح القادر أن يكشف له عن الظلمات التي هو فيها، والتي جعلته ميتًا روحيًا. فالخاطئ يشبه النائم لأن كلاهما في الظلمة وكلاهما بلا عمل مثمر. إلى هذا فلذّة الخطيئة هي كالأحلام ليست حقيقة. كما أنّ النائم والخاطئ لا يشعران بما حولهما حتى ولو كان هناك خطر.  لهذا يستسلم الخاطئ لخطيئته كما في النوم، فلا يقاوِم إلاّ متى استيقظ.

ومن ثمّ يقول الرسول: “فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق لا كجهلاء بل كحكماء”. المسيح هو النور وهو الحكمة في الوقت عينه، وإتباع وصاياه هو منتهى الحكمة، لأن من يتبع وصاياه سيحيا في سلام على الأرض وتكون له حياة أبدية. والله يعطى لأولاده أن يكونوا حكماء. أمّا الجهل فهو مجموع الأوصاف الشريرة والأعمال الشريرة والفاسدة. والمدقق لا يسمح بدخول الخطايا الصغيرة. لأنّ مَن يسمح لنفسه بالخطايا الصغيرة، مع الوقت سيسمح لنفسه بأكبر منها.

في الآية التالية يقول الرسول: “مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة.” افتداء الوقت دليل، بحسب الرسول، على قيمته الغالية في نظره. فحياتنا الزمنية هي ثروتنا الحقيقية وعلامة التعقل هي افتداء الوقت. أهمية الحياة الحالية هي في أنّها علة الحياة الأبدية أو الهلاك الأبدي. لذا مَن يستثمر وقته في السلوك في النور يحيا حياة سماوية الآن ويكمل ما بدأه على الأرض في السماء ويكون نصيبه في النور في السماء. أما من يسلك في الباطل والأمور الفارغة، التي هي خطايا وظلمة هذا العالم سيكون مكانه في الظلمة الخارجية ويضيع إكليله السماوي. كيف يُفتدى الوقت؟ هذا أمر يحتاج تدريباً لزيادة الأوقات التي يقضيها المؤمن مع الله في الصلاة والتسبيح ودراسة الكتاب المقدس، وفي الخدمة المعطية. أمّا قول الرسول بأنّ الأيام شريرة فيعني أن ما تبقّى من الأيام قليل ومن ثمّ ينتهي العالم. هذا القول ينطبق على عالم كل إنسان وليس بالضرورة إشارة أخروية أو قول يعني بأن نهاية العالم اقتربت. وفوق هذا، العالم مملوء شرًا أي أنّ الأيام شريرة والزمان زمان شر. فهذا الزمن يخدع الإنسان فينجذب للزمنيات ويتعلّق بها وكأنّه لن يموت أبدًا، لكن في النهاية سوف تُطلب نفسه فجأة. لذلك مَن لا ينتهز فرصة الوقت يضيعه لحساب العالم الشرير بدلاً من أن يستثمره فيحوّله وقتًا للسماويات، ويبدأ حياته الأبدية من الآن.

مراجع

“التوبيخ بين التأنيب والتنبيه”. المطران بولس يازجي. برج وجسد. عظات في رسائل الآحاد والأعياد. الجزء الأول. آحاد ما بعد العنصرة. منشورات دير البشارة – حلب. 2006. ص. 202-206

تفسير العهد الجديد. الأب أنطونيوس فكري. http://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Holy-Bible-Tafsir-02-New-Testament/Father-Antonious-Fekry/10-Resalet-Afasos/Tafseer-Resalat-Afacoc__01-Chapter-05.html