X

بحث في التراث الأرثوذكسي

قدّيس الصمت

عن اليرونديكون الصغير

تعريب الأرشمندريت أفرام كرياكوس

عاشت قديماً في آسيا الصغرى عائلة غنيّة نبيلة. كانوا أناساً طيّبين صالحين مؤمنين. عندما كبر ابنهم الوحيد وأنهى دروسه، رغب في نظام الحياة الملائكي وقرّر أن يتبع حياة البرّية. جال باحثاً وقتاً كافياً في أساقيط برّية مصر. إلى أن قابل في أحد الأيّام شيخاً قاسياً جداً متشدّداً. في الحال ترجّاه أن يقبله تلميذاً له في الإسقيط. وقال في الوقت ذاته أنه سوف يطبّق الطاعة المطلقة للشيخ.

“عدْ إلى بلادك واهتم بما قاله الربّ، أعني اجمع موجوداتك ووزّعها على الفقراء. ثم تعالَ ثانية إلى هنا فأتقبّلك بسرور”. هذا ما قاله له الشيخ.

صنع له الشاب سجدةً بحماس وعاد إلى موطنه. باع كلّ موجوداته ووزّع الأموال على الفقراء. شعر بالرضى والارتياح كونه تبع نصيحة الشيخ وأصبح فقيراً. وأخذ طريق العودة إلى البرّية والإسقيط. هناك اقتبله الشيخ بفرح وبالفعل أصبح راهباً. ناداه أحد الأيام وقال له:

“من الأن فصاعداً ستذهب لتقيم في تلك القلاّية مقابل الصخرة. ولن تتكلّم إطلاقاً مع أيّ كان”. فأجابه الراهب الشاب: “ليكن مباركاً”، وذهب وأقام في القلاّية المذكورة. أقام هناك لمدة خمس سنوات وكان يجاهد بضراوة ولم يتفوّه بكلمة واحدة.

لم يبقَ تقواه وصبره خفيّين عن بقيّة الإخوة الذين كانوا يتعجّبون منه ويكرّمونه كلّ الإكرام. تابع الراهب جهاده في قلاّيته. وفي أحد الأيام زاره الشيخ أبوه الروحي وقال له:

“أرى أمراً يحزنني يا بنيّ، أنك هنا لم تنتفع بالكلّية. فإنك تسمع مدائح كثيرة من الإخوة من دون أن تكون مستحقاً لها، هكذا أنت في خطر أن تضيّع نفسك. فقد قرّرت إرسالك إلى دير شركة”.

أما الراهب فحنى رأسه إلى أسفل ولم يُجب بكلمة بل أظهر خضوعه لمشيئة الشيخ. في الحال هيّأ أغراضه القليلة جداً وانطلق في رحلته البعيدة. قبل أن يغادر بقليل أعطاه الشيخ رسالة تتضمّن توصيات لرئيس ذلك الدير الذي سيرسله إليه. إلاّ أن الشيخ نسي أن يقول لتلميذه المطيع إن كان له أن يتكلم هناك أم لا! فتابع الراهب تعليمات الشيخ السابقة وأبقى فمه مغلقاً. لم يكن يُسمع له صوتُ البتة.

حالما وصل إلى دير الشركة، اقتبله رئيس الدير وباشر الراهب هناك أيضاً جهاده من جديد. غالبية رهبان الدير كانوا يعتقدون أنه أخرس. إلاّ أن الرئيس كان عنده بعض الشكوك وأراد أن يتأكد. وهكذا دعاه وقال له:

“أريد أيها الأب أن تذهب خارج المدينة إلى النهر الكبير وأن تعبر إلى الضفّة الأخرى لكي تجلب لنا بعض الأغراض والمؤن للدير”.

أحنى رأسه الراهب باحترام مُظهراً قبوله للأمر. وانطلق إلى النهر إلاّ أنه قبل أن يغادر أرسل الرئيسُ راهبا آخر لكي يتعقّبه. كان يعلم الرئيس أن النهر فائضٌ، وأنه كان من المستحيل أن يعبر أحد إلى الضفّة المقابلة. لذلك أرسل الراهب الشاب حتى يعود ويضطر ليقول أنه لم يستطع عبور النهر فيتأكد حقاً إن كان لا صوتَ له .

وصل الراهب التلميذ إلى النهر وأدرك أنه فائض. فهم أنه من المستحيل أن يعبر إلى الضفّة الأخرى. من دون أن يفكر كثيراً سجد وأخذ يصلّي بحرارة والدموع في عينيه إلاّ أن فمه كان دائماً مغلقاً. لم يكد يُنهي صلاته حتى دنا منه أحد التماسيح وانتصب بجانبه. حينها ركب الراهب عليه فشقّ الحيوانُ النهرَ وعبر بالراهب إلى الضفّة المقابلة.

أما الراهب الآخر الذي كان يتعقّبه بحسب توصية الرئيس، فاضطرب للحدث الغريب وتعجّب من فضيلة الراهب وقدرة صلاته. عاد راكضاً إلى الدير وحدّث بكل ما حدث. انذهل الرئيس أيضاً من الأمر الحاصل. منذ ذلك الحين صار الجميع يوقّرونه باحترام خاص. واعتبروا وجود راهب مثله في الدير بركة كبيرة.

بعد عدة سنوات أسلم هذا الراهب الذي كان مثالاً للطاعة، أسلم روحه بين يدي الله. عمّ الحزن والأسى في كل ّالدير لأنهم فقدوا إنساناً قدّيساً. أما الرئيس فقد أرسل رسالةً إلى الشيخ الأوّل الذي كان مسؤولاً عن الراهب يبلغه عن نهاية تلميذه المغبوط على الأرض. وختم رسالته بقوله: “إن كنتَ قد أرسلت َ لنا إنساناً أصمّ، إلاّ أنه عاش فيما بيننا كملاك حقيقي”.

عندما قرأ الشيخ الرسالة تعجّب من طاعة تلميذه المغبوط. وكتب لرئيس الدير عن الحقيقة. فاستدعى رئيس الدير الآباء كلّهم وقرأ عليهم رسالة الشيخ حيث يقول:

“أيها الرئيس القدّيس، إن الإنسان الذي أرسلتُه لك منذ سنوات لم يكن أخرس بالكلّية، لكن من أجل حفظ وصيّة أبيه الروحي، قضى كل هذه السنوات من دون أن يتكلّم. أما الآن وقد دعاه الله إلى قربه لتكن صلاته معنا”.

admin:
Related Post