X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الأولاد والصلاة

من سيرة الأب ثيوذوسيوس الذي من أوبتينا

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

من أوائل مهمات الأهل أرثوذكسيين هي تربية أولادهم على تحسس حقيقة وجود الله وواقعية هذا الوجود. هذا أمر مختلف عن إعطائهم المعلومات عن الله كونه اختباراً شخصياً لحقيقة وجود الله في حياتنا، وهو يتم بالصلاة. نحن نقوم بعمل مرضٍ لله عندما نحملهم إليه بالصلاة، فهو نفسه قد قال: “دعوا الأولاد يأتون إليّ”. يقول القديس يوحنا كرونشتادت أن أجمل لحظات حياتنا هي نلك التي نقضيها في الصلاة لأننا عندها نكون أحياء بالفعل. وهذا سببه أن الصلاة تحمل المسيح إلى قلبنا مع الآب والروح القدس، وهكذا تقوى نفسنا ضد كل شر.

هذه القصة مأخوذة ن سيرة الأب ثيوذوسيوس الذي عاش في دير أوبتينا في مطلع القرن العشرين. تم اختيارها لحملها تعليماً واضحاً عن الصلاة على لسان أحد الأساقفة وقد تأثر الأب ثيوذوسيوس بهذا التعليم فأورد هذه الحادثة في مذكراته. (المترجم)

هذه إحدى الحوادث من حياتنا في أتكارسك، وقد انطبعت بشكل خاص في ذاكرتي تاركةً أثراً لا يُمحى في حياتي كلها. وقد جرت هذه الحادثة عند زيارة يعقوب أسقف ساراتوف لأتكارسك. هذا الأسقف صار لاحقاً ميتروبوليتاً على نوفوغورد.

خلال إحدى جولاته على أبرشيته، زار الأسقف أتكارسك وأقام الخدمة الليتورجة في الكاتدرائية. لقد كان إنساناً مثقفاً متعلماً وواعظاً مرتجلاً، و قد يكون هذا سبب عدم تركه أي أثر أدبي. لقد كان الناس يحبون سيادته ويسعون إلى سماع عظاته بكل توقير، فقد كانت تحمل بساطة ودفء إلى القلب بشكل رائع، وهذه الصفات جعلت أقواله قريبة جداً من قلوب الناس التي كانت كلماته تتسرب فيها. لقد حفظت إحدى هذه العظات وأرغب في تدوينها في مذكراتي.

لقد كان الناس يعتبرون هذا الأسقف قديساً. فبعد أن أنهى القداس الإلهي في الكاتدرائية، صعد إلى الأمفو (منبر الوعظ)  بمنتيته الأسقفية، وأجال طرفه الكريم ونظرته النفاذة في مستمعيه فرأى عدداً من الأولاد كنتُ أنا من بينهم، فقال: “أيها الأولاد اقتربوا”.

أقترب عدد منّا، وأنا وقفت في الواجهة، أمامه مباشرة، وهو راح يتحدث وكأنه متوجه إلي شخصياً.

“أرغب أيها الأولاد بأن أحدثكم عن الصلاة. أتعرفون كيف تدربون أنفسكم على الصلاة؟ أولاً، عليكم أن تصلّوا قليلاً، ولكن عدة مرات. الصلاة هي مثل الشرارة، قد تتحوّل إلى لهب كبير، ولكن لإضرام هذا اللهب، يجب أن تكتسبوا حماسة لا تتعب، ويجب أن يكون عندكم الوقت والبراعة. فلنأخذ على سبيل المثال قطعتين من الفحم: الأولى حارة حتى الاحمرار، والثانية باردة. حاولوا أن تشعلوا الثانية من الأولى. ماذا تفعلون؟ عليكم أن تضعوها إلى جانبها. لكن لا يكفي أن نضعهما معاً حتى تتحوّل الباردة إلى حمراء ملتهبة، إلا إذا استمررنا بالنفخ على القطعة الملتهبة. إذا نفختم بعنف، فسوف يتطاير الشرر لكن القطعة الباردة لن تبدأ بالاحتراق، وسوف يكون مجهودكم عبثاً. أما إذا نفختم بشكل ثابت وبدون عنف على القطعة الملتهبة، فبسرعة تتحوّل قطعة الفحم التي كانت بقربها إلى حمراء ملتهبة. وليس فقط هاتان القطعتان سوف تحترقان، بل إذا أبعدتموهما عن بعضهما فكل ما تضعونه بينهما سوف يلتقط الحرارة ويتحوّل إلى بحر من اللهب.

لكن فكّروا الآن: كم من الوقت نحتاج لنشعل موقداً من الحطب الرطب أو لنجعل النار تشتعل في قطعة من الفحم الحجري. كم من الوقت والمجهود والصبر، وقبل كل هذا كمّ من المثابرة؟ وهكذا أقول لكم يا أبنائي: الصلاة هي نار، لا بل إنها جمرة مشتعلة فيما قلوبنا قطع ميتة من الفحم. لهذا السبب علينا أن نصلي كل يوم. إن هذا تماماً هو مثل وضع فحم قلوبنا الميت بجانب جمرة الصلاة المشتعلة والنفخ عليها بتأنٍ. صدقوني أيها الأولاد، إذا استمعتم لي وصليّتم قليلاً فقط كل يوم ولكن بشكل ثابت على المبدأ، فإن قلوبكم سوف تلتهب بشعلة المحبة الإلهية. لكن انتبهوا ألاّ تصلّوا فقط في لحظات الإلهام، لا تنثروا شرارات جمرة الصلاة. تذكّروا أن الكسل يتبع كل جيشان عاطفي، وعندها لا تضيء الشرارات قلوبكم.

ابدأوا هكذا: اعملوا ثلاث سجدات مرفقة بهذه الكلمات: ‘يا ربي يسوع المسيح ابن الله ارحمني أنا الخاطئ’، ومن ثم سجدة أخرى ‘يا جميع القديسين صلوا لأجلي أنا الخاطئ’، ومن ثم سجدة أخرى. فليكن هذا كافياً لكم. وفي اليوم التالي كرروا الأمر نفسه بدون تقصير. تابعوا بهذه الطريقة يوماً بعد يوم، ومن ثم سوف تلاحظون، أيها الأبناء، أن الكسل سوف يغلبكم في البداية كمثل حمل ثقيل. لكن إن ثبتّم في عمل هذه السجدات، فسوف ترون لاحقاً أنكم سوف ترغبون بعمل أكثر من ثلاث سجدات، ومن بعدها تطلب الصلاة زيادة في عدد السجدات. هذا يعني أن فحمة القلب بدأت بالاحتراق بقوة الإيمان وأصبحت ملتهبة بمحبة الله وبأن الثبات في جهودكم بدأ بإعطاء الثمار التي منها يأتي التعطش إلى الصلاة.

جرّبوا كلماتي في الفعل وسوف ترون بأنفسكم أن الأمر هو على ما أخبرتكم. اركضوا إلى الله كما إلى أمكم، فهو صالح ويعرف كل شيء. إنه يحبنا كما تحب الأم أبناءها. إذا سألتموه فهو بالتأكيد يسمعكم ويجيب سؤالكم طالما طلبكم لا يخالف مشيئته المقدسة. هو نفسه قال “اطلبوا يُعطى لكم”، لهذا استعجلوا إليه بجسارة حاملين كل حاجاتكم: في طريقكم إلى المدرسة، اركعوا على ركبكم بطريقة لا يراكم إلاّ الله، واطلبوا منه أن ينير ذهنكم وذاكرتكم، وسوف ترون أنكم تصبحون أكثر قدرة على تعلم دروسكم بسرعة وبسهولة أكبر من غيركم وحتى من نفسكم حين كنتم لا تلتفتون إلى الله. اصنعوا الأمر نفسه قبل البدء بأي شيء. صلّوا أيها الأولاد، صلّوا أكثر. سامحوا الذين أساؤوا إليكم، وإله السلام يكون معكم دائماً. كل مساء وكل يوم، اندموا أمام الله عن كل الخطايا التي وقعتم بها، توسلوا إلى صلاحه وجرّبوا ألاّ تخطئوا على هذا المنوال مرة أخرى. وإذا وقعتم مرة أخرى في الخطيئة، فمجدداً وتوّاً توبوا إلى الله وقولوا: أيها الرب، لقد أخطأت. ارحمني وساعدني لأغيّر طرقي. وهو سوف يسامحكم ويساعدكم على التغير. صلّوا أكثر إلى الله أيها الأبناء، وهو سوف يخلصكم.

لقد انطبع هذا التعليم في ذاكرتي. ومع أن سنين كثيرة قد مرت فأنا أسجل هذه الحادثة وكأنني أقرأ من كتاب.

عندما انتهى الأسقف من الكلام أخذت منه البركة. ومنذ ذلك الحين، منذ مساء ذاك اليوم الذي لا يُنسى، أنا أبدأ يومي بعمل ثلاث مطانيات : للرب يسوع المسيح، لوالدة الإله، ولجميع القديسين.

admin:
Related Post