X

بحث في التراث الأرثوذكسي

القراءة السرية للأفاشين بدل القراءة المسموعة: الأسباب والتواريخ

أ. غولبتسوف

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

اليوم، بحسب الكتب الليتورجية، كل الأفاشين ما عدا أفشين وراء المنبر، يقرؤها الكاهن سرياً أو بشكل غير مسموع من الشعب (“mystikos“). فالشعب يسمع الإعلانات فقط بدل الصلاة الكاملة، والإعلانات هي ختم الأفاشين المؤلّفة عادة من تمجيد الثالوث القدوس1

، أو عبارات مختصرة وجمل مفككة من وسط الإعلان ب، وقد تكون هذه العبارات بدون ترابط ظاهر. من الصعب أن نروي هذه الأمور لمَن لا يألف إطار الصلوات أو لمَن لا يحمل كتاب الخدمة بيده. لقد قدّمت الممارسة الليتورجية في القرون الثلاثة أو الأربعة الأولى صورة مناقضة تماماً لهذه القائمة اليوم. لقد كان هناك قراءة مسموعة ومشتركة للصلوات وكانت تعتبر شرطاً أساسياً للعبادة الليتورجية. لنوضح هذا سوف نشير أولاً إلى مقطع معروف جداً من دفاع يوستينوس (الفصل 65) حيث يدافع عن مؤمني تلك الأيام:

عند انتهائنا من الصلوات يحيي كل واحد منا الآخرين بقبلة. ثم يؤتى بالخبز والكأس المملوء ماء ممزوجاً بالخمر إلى رئيس الإخوة، وعندما يتسلّمهما يرسل التسبيح والتمجيد لأبي الكون من خلال اسم الابن والروح القدس ويؤدي الشكر مطولاً لأننا استحققنا أن نتسلّم هذه الأشياء منه. عندما ينتهي من الصلوات والشكر، تصادق كل جماعة المصلين قائلة “آمين” التي معناها باللغة العبرية “ليكنْ”3

كما يمكن أن نرى في مقطع من رسالة لديونيسيوس الإسكندري إلى سيكستوس أسقف روما، موجودة في التاريخ الكنسي لأفسابيوس (الكتاب السابع، الفصل 8)، تأكيدَ الشعب لكل ما يتلوه رئيس المجتمعين بصوت مسموع من الصلوات والشكر. فهو يكتب عن إيجاده لشخص كان في الشركة لبعض الوقت مع أنه معمّد على يد الهراطقة:

من ثم صلّى لكي تكون له المنفعة القصوى من هذا التطهير والاستقبال والنعمة (العماد)، الذي لم أجرؤ على القول أن شركته الطويلة كانت كافية له. لأن مَن كان معتاداً على سماع الشكر وترداد الآمين والوقوف عند المائدة ومدّ يديه لتقبّلالقدسات…

في أحد المخطوطات الليتورجية القديمة، القانون الإسكندري، بعد “لحقٌ وواجب” توجيه واضح للمصلين حتى يشتركوا في القانون الإفخارستي: “من ثمّ يتلون الصلاة الإفخارستية بعد التي يتلوها الأسقف”د.

في الأثر الباقي المذكور آنفاً، الصلوات قصيرة وتكرارها الحرفي لا يقدّم أي صعوبات ولم يأخذ وقتاً طويلاً. لكن مع توسيع نص الليتورجيا الذي أصبح ضخماً مع القرن الثالث-الرابع، صارت قراءة كل الصلوات بصوت عالٍ تستغرق وقتاً مما يؤثر على انتباه الحاضرين الذي لم يعد كما كان سابقاً. لقد أصبح من الضروري استبدال التلاوة بالترتيل وبالتالي تقصير وقت الخدمة مما يتيح للكاهن قراءة الأفاشين سرياً فيما يقوم الشعب والشماس بأجزاء موازية من الخدمة. يبدو أن الترتيب المتناسق الحالي للطلبات والأداء المطوّل لبعض التراتيل فيما يقرأ الكاهن سرياً الأفاشين الموجودة في كتاب الخدمة، قد تشكّل على ما يبدو تحت تأثير الممارسة الحالية. كتاب الخدمة يوجّه الشماس لتنسيق هتافاته مع عمل الكاهن في الهيكل. يوجد تعليم لافت للنظر محفوظ في بعض التعليمات بالروسية واليونانية حول قداس يوحنا الذهبي الفم في بعض المصادر القديمة. فبعد نهاية الطلبة، أي بعد طلبة “أعضد وخلّص وارحم…”  يوجد ملحوظة: ‘بعد أن يقول هذه الآية، ينظر الشماس نحو الكاهن وعندما يرى أن الكاهن انتهى من الصلاة، عندها يعلن: الحكمة‘”ه.

لم تكن Disciplina arcane بلا تأثير على إحلال القراءة السرية مكان المسموعة. فمقدمته المنطقية هي حجب أسرار الإيمان والخدَم الإلهية عن المتقدمين لتعلم الأسرار. وقد فهم أعضاء الجماعات المسيحية هذه المقدمة وطبقوها بطرق مختلفة في مختلف الأوقات. عندما استبعدت التلمذة من الكنيسة تطور ذلك النظام إلى شكل جديد ووجد تطبيقاً لذاته. كنتيجة لذلك، نشأ انقسام كامل بين المحتفلين بالأسرار والشعب، بين الإكليروس وأعضاء الكنيسة العاديين. فقد افترض الإكليروس وضعاً شرعياً أعلى واستنارة خاصة من الروح القدس ودرجة أعظم من الفهم الروحي وهكذا صاروا مدعوين إلى مساهمة أعظم بما لا يقارَن في أسرار الإيمان. الباقون من الأعضاء، الذين لم يتأسّسوا في الأسرار العليا، حُرموا من هذه المشاركة بشكل مهم وحُجبت عنهم الأسرار بسبب وضعهم. ما أن أصبح هذا النموذج كاملاً حتى صار الكاهن مسؤولاً عن العديد من الصلوات الأكثر أهمية التي عليه أن يتلوها سرياً عن الشعب لأنه الوحيد الجدير بمحتوى هذه الصلوات.

نقرأ عند ديونيسيوس المنحول:

يعود رئيس الكهنة إلى خدمته الأرفع مقاماً بدون تغير مع أنه يمارس سلطته على تابعيه مستعملاً مختلف الرموز المقدسة التي يفهمونها

هذا التعبير العام عن النظام الذي ثبّت الفصل بين الكهنة والمؤمنين العاديين بما يتعلّق بالخدمة الإلهية ومفهوم العبادة، حبس الكاهن والأسقف ضمن حدود الامتيازات حيث هما وحدهما جديران بالخدمة والصلوات، وهذا ما ترك للعلمانيين القليل جداً مما كانوا في السابق قادرين على رؤيته وسماعه في الليتورجيا.

في رأينا أن هناك مصدراً آخراً أثّر على حجب الطقس الليتورجي عن العلمانيين. في الماضي، خلال القرون الثلاثة أو الأربعة الأولى، حيث الأرجح هو أن كل المؤمنين شاركوا في الأسرار الإلهية مع الكهنة كشركاء في التقدمة، فقد ساهموا على نحو أكثر إحكاماً مما كان للمؤمنين في القرون اللاحقة. عندما سقطت تدريجياً عادة أن يقدم العلمانيون التقدمة، صار اقتراب العلمانيين من الإفخارستية أقل تكراراً.

من السهل أن نرى نتيجة ما استتبع استبدال القراءة المسموعة للصلوات بالقراءة السرية. الخدمة الليتورجية التي كانت طقساً مشتركاً انقسمت إلى جزئين متوازيين: واحد للشعب والآخر للكهنة أن كي يقودوه في الهيكل. من الصعب أن نحدد بدقة تاريخ الاستبدال النهائي لعادة التلاوة الجماعية القديمة بالقراءة السرية. هناك دليل للتفكير أن هذا التحول جرى تقريباً في القرن الخامس لكن بداياته كانت قبل ذلك على ما يمكن فهمه من القانون التاسع عشر لمجمع اللاذقية الذي  يقول بأنه بعد صرف الموعوظين والتائبين: “تُتلى صلوات المؤمنين الثلاث. أمّا الأولى فتُقال سراً وأمّا الثانية والثالثة فتُعلنان”. هناك تفسيران لهذا الكلام. الأول يرى أن هذا هو استمرار للتقليد القديم. الآخر يرى. أن هذا استبدال له بتنظيم جديد للأشياء. يعطي القديس يوحنا الذهبي الفم في إحدى عظاته برهاناً ملموساً على أن في زمانه كانت الليتورجيا ما زالت تحافظ على ميزتها المبكرة المفتوحة كلياً حيث القاعدة هي قراءة الأفاشين بشكل مسموع:

لكن هناك مناسبات حيث لا يوجد أي فرق بين الكاهن والذين معه. على سبيل المثال، عندما نقترب للاشتراك بالأسرار المرهوبة إذ نكون كلنا محسوبين مستحقين للأمور نفسها: ليس كما في العهد القديم حيث كان الكاهن يأكل شيئا مختلفاً عن الذين معه، كما لم يكن شرعياً للشعب أن يشترك في ما يشترك فيه الكاهن. لكن الآن ليس الأمر هكذا، إذ أمام الجميع جسد واحد وكأس واحدة. وفي الصلوات أيضاً يجد المرء أن الشعب يشترك في الكثير. فالممسوسون والتائبون يشتركون مع الكاهن في الصلوات التي تُقام من أجلهم. الكل يتلو صلاة واحدة، صلاة مفعمة بالرحمة. أيضاً عندما نخرج من الكنيسة المقدسة فأولئك الذين لا يستطيعون المشاركة في المائدة المقدسة، يتوجب أن تُقدَم صلاة أخرى من أجلهم وجميعنا ننحني إلى الأرض بالطريقة نفسها وجميعنا نقوم بالطريقة نفسها. أيضاً في الأسرار المرهوبة نفسها، يصلّي الكاهن من أجل الشعب والشعب أيضاً يصلّي من أجل الكاهن فعبارة “ولروحك” ليست سوى هذا. كما أن تقديم الشكر مشترك: فلا الكاهن يقدم الشكر وحده ولا الشعب. فعندما يخفضون صوتهم ومن ثم يرفعونه بقولهم “لحق وواجب”، عندها يبدأ بالشكر. فلماذا تتعجبون من أن الشعب في كل مكان يتفوّه مع الكاهن، فيما بالحقيقة مع الشاروبيم والقوات العلوية هم يرفعون هذه الصلوات المقدسة؟ لقدذكرت كل هذا الآن حتى أن كل واحد من الشعب ينتبه، حتى نفهم أننا كلنا جسد واحد، لا نختلف عن بعضنا إلاّ اختلاف الأعضاء عن بعضها. وعلينا ألاّ نرمي كل شيء على الكاهن بل نحن أيضاً فلنهتمّ للكنيسة كلها كما لجسد مشترك بيننا جميعاً”6.

بهذه الكلمات يظهر الذهبي الفم الممارسة الليتورجية في أيامه والتي لم تكن قد ابتعدت عن مثال العصور المسيحية القديمة.

يقدم القانون 137 من قوانين الإمبراطور يوستنيانوس الأوضاع الجديدة للنظام الكنسي بالإشارة إلى تغير الممارسة القديمة السابقة، أي القراءة المسموعة للصلوات الإفخارستية، التي كانت ما زالت محفوظة في أيام الذهبي الفم:

نأمر بأن على كل الأساقفة والكهنة أن يقوموا بالتقدمة الإلهية وصلوات المعمودية، ليس سرياً بل بصوت يسمعه الشعب المؤمن جيداً، حتى تُحمَل نفوس المستمعين إلى مزيد من التقوى والتمجيد والبركة بسبب ما تسمع.

مع أن الأمر الملكي يورد استشهاداً رسولياً (من 1كورنثوس 16:14-17، روما 10:10)، لم يستطع تغيير أو تصحيح أو إيقاف التوجه في الخدم الإلهية. الممارسة الجديدة، مع أنها لم تكن قد أصبحت عالمية بعد، تجذرت بعمق وصار عندها أنصارها الأقوياء. يوحنا موسخوس، وهو كان معاصراً لأمر يوستنيانوس،  يصف الممارستين في مروجه الروحية:

إذ أنه في بعض الأماكن حيث قد اعتاد الكهنة على قراءة الصلوات بصوت عالٍ، فالأولاد الصغار، الذين كانوا يحضرون الاجتماعات المقدسة والذين كانوا يقفون قريباً، سمعوا وحفظوا هذه الصلوات. من ثم، في لعبهم الصبياني قرروا أن يعيدوا صلوات الخدمة الليتورجية وحركاتها فاختاروا أحدهم ليلعب دور الكاهن وآخرين ليكونا شماسين. من ثم وضعوا بعض الخبز على حجر وصبّوا بعض الخمر في قدر من الطين. وعندما أتمّ كل شيء بحسب طقس الكنيسة وقبل قطع الخبز نزلت صاعقة مشتعلة من السماء وخربت كل شيء هناك غير تاركة أي أثر للصخرة ولا للتقدمة7

.

يستطيع المرء أن يتخيّل أن هذه القصة التي تشهد بأن قراءة الأفاشين الإفخارستية بشكل مسموع حدثت في بعض الأمكنة عند نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع، على حسب ما يروي كاتب المروج الروحية، خدمت في تشجيع القراءة السرية لأن تدنيس هذه الصلوات من قبَل الأولاد أشار إلى عدم الرغبة في المتابعة بالممارسة السابقة. أصبحت القراءة السرية للصلوات القاعدة السائدة في أيام البطريرك جرمانوس (715-732). من بين كل الصلوات الليتورجية، واحدة فقط هي صلاة وراء المنبر كانت تُقرأ بصوت مسموع وبالتالي تبدو كشواذ عن القاعدة العامة. برأي البطريرك جرمانوس، لقد خدمت كخلاصة لكل ما كان مخبأً عن الشعب في صلوات الكاهن السرية وبالتالي خدمت كجواب على الأسئلة المربكة والمبرّرة التي يطرحها الذين لم يجدوا أساساً كافياً للقراءة السرية.

بما أن بعض الذين يقفون خارج الهيكل، كثيراً ما هم متحيرون يتجادلون فيما بينهم ويقولون: “ما هو هدف الصلوات التي تُقرأ سرياً وما هي فكرتها وقوتها”. ورغبةً بالحصول على بعض الفهم، ألّف الآباء القديسون صلاة ما وراء المنبر، كخلاصة لكل ما طُلب (خلال الليتورجية) وهكذا يعلنون لكل الراغبين نوعاً من الفهم السطحي لما حدث.”

على الرغم من إلغاء الممارسة القديمة لقراءة الصلوات بصوت مسموع، لا نزال نجد آثارها في الإعلانات وفي البنية العامة للخدم الكنسية وفي بعض المواد التي تبدو ثانوية وطارئة ظاهرياً. على سبيل المثال، تُختَتَم الطلبات التي تسبق الشيروبيكون في القداس بإعلان الشماس “الحكمة”. هذا التعبير، بحسب استعماله في الممارسة الليتورجية القديمة والحالية، خدم دائماً لدعوة المؤمنين إلى الانتباه لبعض الأمور أو القراءات المهمة. لكن عند هذه النقطة لا يوجد أي شيء إلاّ الإفشين. برأينا، إعلان “الحكمة” يدعو المؤمنين إلى الانتباه إلى أفاشين المؤمنين التي تأتي بعد هذه الطلبات. اليوم، إذ صارت هذه الصلوات تُتلى سرياً ووحدها الإعلانات الختامية مسموعة، الهدف الأول من دعوة المستمعين إلى الانتباه إلى الصلوات عن طريق إعلان “الحكمة” يقع على جانب الطريق. إلى هذا، استعمال صيغة الجمع في سياق الصلوات الليتورجية ليس إلاّ أثر لاشتراك الشعب سابقاً في تلاوتها كما أنه أثر للممارسة القديمة حيث كان يشترك الإكليروس والجوقة والشعب في بعض الأماكن في ترتيل “هلموا لنسجد…” في ترنيمة الدخول أو في ترتيل “يا نوراً بهياً…” في الغروب.

ENDNOTES

1. على سبيل المثال: “لأن لك الملك والقدرة والمجد أيها الآب والابن والروح القدس. الآن وكل أوانٍ وإلى دهر الداهرين.

2. على سبيل المثال: خذوا كلوا هذا هو جسدي… اشربوا منها كلكم…

3. L.C.C. Vol 1, 65, p. 286.

4. Ludolfi, Ad suam historiam Aethiopicam Commentarius, p. 324.

5. Goar, Euchologion, p. 91

6. Sermon 18 on 2 Corinthians

7. Spiritual Meadow,” ch. 194; Russian translation, pp 215-217. M. 1848.

admin: