دماء الشـّهداء بذار الكنيسة

دماء الشـّهداء بذار الكنيسة

اﻷرشمندريت توما بيطار

يا إخوة، في أوقات السّلم، لو سأَلَنا إنسان ما إذا كنّا مسيحيّين أو لا؛ فسهل علينا أن نجيب بأنّنا مسيحيّون. لكن، ماذا إذا كنّا في زمن اضطهاد؟! ماذا إذا كانت هناك حرب طائفيّة بين مسيحيّين وغير مسيحيّين؟! فماذا نفعل، إذا سُئلنا ما إذا كنّا مسيحيّين أو لا؟!

في الحالة الأولى، الجواب سهل، ولا يُكلّف الإنسان شيئًا. أمّا في الحالة الثّانية، فالجواب قد يكون مُكلِّفًا جدًّا. في الأحداث الّتي اندلعت بين العام ألف وتسعمئة وستّة وسبعين والعام ألف وتسعمئة وتسعين، قضى كثيرون عند الحواجز الّتي كان يُقيمها هذا الفريق أو ذاك. في ذلك الحين، كان عملاً بطوليًّا وشهاديًّا أن يُعلن الإنسان أنّه مسيحيّ، وهو يعلم أنّه قد يُقتَل إذا فعل ذلك. وكثيرون، في الحقيقة، قُتلوا، في ذلك الحين؛ لأنّهم أعلنوا، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أنّهم مسيحيّون. هؤلاء هم الشـّهداء المجهولون، في كلّ زمان، في الحقيقة. في بلدة بحمدون، مثلاً، قُتل أكثر من ثلاثمئة شخص لأنّهم كانوا مسيحيّين، وهم ما كانوا يحاربون، بل كان بينهم أطفال وشيوخ، وكانوا كلّهم عُزَّلاً. بعضهم ذُبح، وبعضهم قُتل رميًا بالرّصاص. طبعًا، في بلد كلبنان، يسعى الإنسان، دائمًا، لطمس ما للذّاكرة؛ لأنّه يشعر بأنّه في حال تهديد متواتر. مسيحيًّا، لا يليق بنا أن ننسى شهداءنا. الشـّهداء، عندنا، هم الّذين قُتلوا، ولم يَقتلوا أحدًا، وما كانوا في سعيلقتل أحد، بل حملوا اسم يسوع، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. هؤلاء الّذين قُتلوا كان بإمكانهم أن يشهروا إسلامهم، مثلاً؛ وما كانوا، بعد ذلك، ليُقتَلوا! لكنّهم لم يفعلوا ذلك. قُتلوا لأنّهم محسوبون على الرّبّ يسوع المسيح. لا يحتاج الإنسان إلى تحضير كبير ليكون شهيدًا للمسيح. أحيانًا، الشـّهداء يُعدّون أنفسهم بالصّوم والصّلاة، يُعدّون أنفسهم بالاعتراف بخطاياهم، بالمناولة المقدّسة. وأحيانًا، تأتيهم ساعة الشـّهادة وهم لا يعلمون. في لحظة واحدة، يكون على الإنسان إمّا أن يعترف بيسوع، وإمّا أن ينكره. ومَن اعترف به، أُحصي في عداد الشـّهداء؛ ومَن أنكره، خسر؛ لأنّ السّيّد قال: “مَن ينكرني قدّام النّاس، أنكره أنا قدّام أبي الّذي في السّموات” (متّى10: 33)! في بلد كلبنان، السّياسيّون والعسكريّون لهم شهداؤهم. ليس على هؤلاء نتكلّم، إنّما على الشـّهداء الّذين لا يؤذون أحدًا، ويؤذيهم الآخرون. في الزّمن الأوّل، أي في الحقبة التّاريخيّة الّتي امتدّت، بصورة خاصّة، حتّى العام 312 للميلاد، والّتي دشـّنها الشـّهيد الأوّل القدّيس استفانوس الشـّمّاس؛ وختمها، في ما يبدو، القدّيس بطرس الإسكندريّ لذلك، الكنيسة القبطيّة تجعل تقويمها بدءًا من شهادة القدّيس بطرس أسقف الإسكندريّة شهادة الدّم، عند المسيحيّين، كانت طريقة الحياة المألوفة واليوميّة. المسيحيّون كانوا يُضطهَدون لأنّهم كانوا يُعتبَرون خارجين على القانون الرّومانيّ، في ذلك الحين. أوّلاً، كانوا يرفضون أن يقولوا عن أغسطس قيصر إنّه السّيّد. وهم كانوا يفعلون ذلك، أي كانوا يمتنعون عن تسمية قيصر بالسّيّد، لأنّ معلّمهم سبق أن أوصاهم بأن لا تدْعوا لكم سيّدًا على الأرض، لأنّ سيّدكم واحد في السّماء” (متّى23: 8). اليوم، نتبادل تسمية سيّدفيما بيننا بمعنًى مختلف عن المعنى الّذي كان سائدًا، في ذلك الحين. اليوم، بصورة تلقائية، نقول لفلان: “يا سيّد، ونقصد بالتّعبير الاحترام والإكرام؛ وأحيانًا، التّعظيم. في ذلك الحين، لفظة سيّدكانت لها نكهة عباديّة، نكهة إلهيّة. لهذا، كان المسيحيّون يعتبرون أنّ سيّدهم هو الله. والرّومانيّون، الّذين لم يعرفوا المسيح، كانوا يُطلقون على قيصر تسمية السّيّدلا فقط من باب الإكرام، بل أيضًا من باب العبادة؛ لأنّ قيصر، في ذلك الحين، بدءًا من أغسطس قيصر، بصورة خاصّة، كان يُعبَد، ويُعتبَر ابن الآلهة، وكان مطلوبًا أن يقدّم النّاسُ البخور والذّبائح للآلهة، في ذلك الحين، وأيضًا لقيصر. المسيحيّون رفضوا ذلك.

والمسيحيّون كانوا يُضطهَدون، أيضًا، لأسباب أخرى. كانوا يُضطهَدون، مثلاً، لأنّهم، في الحقبة الأولى حتّى نهاية القرن الثّاني للميلاد، كانوا يمتنعون عن الانخراط في الجيش الرّومانيّ؛ أو، على الأقلّ، كانوا لا يميلون إلى ذلك، على الإطلاق. الجيش، بالنّسبة إليهم، في ذلك الحين، كان معناه الخضوع لقيصر، وعبادته، وتقديم الذّبائح للآلهة. وكثيرون، في الحقيقة، قُتلوا لأنّهم رفضوا، كعسكر، حتّى العام 312 للميلاد، أن يقدّموا فروض العبادة للآلهة ولقيصر. على الرّغم من عدم وجود إنسان واحد مسيحيّ ارتكب جنحةً، في ذلك الحين، وعلى الرّغم من أنّهم كانوا، أخلاقيًّا، في مستوىً راقٍ جدًّا؛ فإنّ السّلطات الرّومانيّة كانت تضطهدهم.

أيضًا، كان المسيحيّون يُضطهَدون بسبب أنّهم كانوا يَدعون إلى العفّة والعذريّة، إلى عدم الزّواج. في ذلك الحين، لم تكن هناك راهبات، كما عندنا اليوم. لكن، كانت هناك عذارى. وكان، طبعًا، هناك ميل، وميل ليس بقليل، إلى اقتبال العذريّة. هذا كان شأنًا مشرِّفًا جدًّا، بين المسيحيّين، في ذلك الوقت. السّلطات الرّومانيّة كانت تأخذ عليهم أنّهم يهدّدون الأمبراطوريّة الرّومانيّة، الّتي تريد أن يتزوّج النّاس، وأن ينجبوا؛ لأنّ هذا يخدم المجتمع. هذا لم يكن موقفَ المسيحيّين. المسيحيّون، بصورة خاصّة في تلك الحقبة، كانوا يحيَون وكأنّ مرورهم بهذه الدّنيا عابر. قرأوا ما قاله الرّسول المصطفى بولس: “ليست لنا ههنا مدينة باقية، بل نطلب الآتية(عب13: 14)؛ وقرأوا أيضًا: “إن عشنا، فللرّبّ نعيش؛ وإن متنا، فللرّبّ نموت؛ فإن عشنا وإن متنا، فللرّبّ نحن” (رو14: 8)؛ وقرأوا أيضًا: “اطلبوا، أوّلاً، ملكوت السّموات وبرّه، وكلّ ما عدا ذلك يُزاد لكم” (متّى6: 33). إذًا، ذهنهم كان في الملكوت، لا بمعنى أنّهم كانوا ينتظرون الملكوت كما لو لم يأتِ، بل كانوا يحيَون في الملكوت، منذ الآن! إذًا، كانوا يسلكون في الحياة الأبديّة، منذ الآن. لهذا السّبب، الموت، بالنّسبة إليهم، في هذا السّياق، كان سببًا للفرح، وليس سببًا للحزن. الكنيسة كانت تربّي أبناءها وبناتها على الفرح بالشـّهادة. هذا كان المناخ الّذي عاش فيه المسيحيّون، والّذي بسببه اضطُهدوا.

إذًا، الاعتراف بالرّبّ يسوع المسيح لا فقط كان مُكلِّفًا، ومكلِّفًا جدًّا؛ إنّما، أيضًا، كان يتمّ في إطار سعي المسيحيّين لأن يُفرغوا أنفسهم بالكامل من كلّ رغبة شخصيّة، ومن كلّ تعلّق بهذا الدّهر؛ لكي يلتصقوا، بصورة كاملة وكلّيّة، بالرّبّ يسوع المسيح. ولأنّ قـِبلة أنظارهم كانت ملكوت السّموات، كانوا يطلبون الحياة الأبديّة، ولا يكتفون بالحياة الوقتيّة على الأرض. لذلك، عالمهم الدّاخليّ كان عالمًا مختلفًا عن العالم الّذي كان يحيا فيه غير المؤمنين، في زمن الرّومان. الحقيقة أنّ المسيحيّين كانوا يسعون، دائمًا، لكي يكونوا أنقياء، من جهة النّاس! لا يؤذون أحدًا، على الإطلاق! مثلاً، القدّيس كـِبْريانوس القرطاجيّ، الّذي استُشهد حوالَي العام 256 للميلاد، حاكموه بسبب تمسّكه بالرّبّ يسوع المسيح، ولفظوا في حقّه حكم الموت. فلمّا جيء بالجلاّد لكي يقطع رأسه، اهتمّ القدّيس كبريانوس بإعطاء الجلاّد أجرته كاملةً، خمسةً وعشرين دينارًا، وكان مسامحَه بالكامل! وبعد ذلك، مدّ رأسه، فقُطع! هكذا كان المسيحيّون يسلكون. لسان حالهم كان كما قال معلّمهم للآب السّماويّ: “اغفر لهم، يا أبتاه، لأنّهم لا يدرون ماذا يعملون” (لو23: 34)! ما كانوا يحملون ضغينة ضدّ أحد، لأنّ روح الرّبّ الّذي فيهم كان روح محبّة. إذًا، كان المسيحيّون يُقتَلون، ولا يدافعون عن أنفسهم. كان يُفترَض، عدديًّا، إحصائيًّا، بشريًّا، أن ينقرضوا! لكنّهم كانوا في ازدياد هائل. لذلك، سرى القول، في ذلك الحين: “دماء الشـّهداء بذار الكنيسة“. النّعمة الإلهيّة كانت تدفق دفقًا مع دفق دم الشـّهداء، وكانت تحرّك قلوب النّاس بشكل مدهش.

هكذا، بطريقة لا يألفها البشر، غزا المسيحُ العالمَ، الّذي ربحه بالوداعة، والحبّ، والبذل. وجاء قسطنطين الملك، وصار العالمُ القديمُ مسيحيًّا. وشيئًا فشيئًا، مع بداية القرن السّادس للميلاد، لم يبقَ هناك وثنيّون. أقول هذا لأؤكّد ما ورد في إنجيلنا، وعلى لسان آبائنا ومعلّمينا، أنّ المسيحيّة تستمرّ بهذه الرّوح. حين تخفت هذه الرّوح، فإنّ المسيحيّين يقعون في أزمة. هذا هو السّبب لكوننا خسرنا القسطنطينيّة، مثلاً؛ لأنّ المسيحيّين المتأخـّرين كفّوا عن السّلوك كما سلك المسيحيّون الأوائل. المفترَض أن يعود المسيحيّون إلى محبّتهم الأولى. واليوم، في العالم كلّه، لو سألـْنا: “لماذا تراجعت المسيحيّة في الكثير من البلدان، كما في أوروبّا، مثلاً؟، لَقلنا: لأنّ المسيحيّين، في الكثير من الأحيان، نسوا محبّتهم الأولى؛ وصاروا، نظيرَ غيرهم من النّاس، يفكّرون بالطّريقة نفسها الّتي يفكّر بها النّاس، في هذا الدّهر؛ ويحيون بالطّريقة نفسها الّتي يحيا بها النّاس، في هذا الدّهر. المسيحيّون يعانون خطرًا كبيرًا، اليوم، وهو أنّهم يَتَدَهْرَنون، أي يصيرون من أبناء هذا الدّهر. إذا لم نعد إلى محبّتنا الأولى، وإذا لم نعد إلى التصاقـِنا بالمسيح، واعترافـِنا به بالرّوح والحقّ، في كلّ يوم، وإذا كنّا لنحوّل الكنيسة إلى ساحة لدهريّات الإنسان؛ فإنّنا، لا شكّ، سوف نتراجع بصورة متنامية. أقول هذا، وأدعو نفسي وإيّاكم إلى العودة إلى الذّات من أجل استعادة الأمانة، حتّى يكون لنا أن نساهم في استرداد الملكوت بذواتنا، وبالشـّهادة للآخرين.

آمين.

عظة حول متّى10: 32- 36؛ 11: 1، السّبت 4 أيلول 2010