X

بحث في التراث الأرثوذكسي

بعض من ذكريات مع الشيخ بورفيريوس (2)
أناستاسيوس تزافاراس

ترجمته بتصرّف عن اليونانية راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطع

سرد لي يوماً الأب بورفيريوس الحادثة التالية، منبهاً إياي لكي أتجنب الوقوع في دينونة الآخر، حتى ولو كان يخال لي أني على حق:

ذهبت سيدة قروية لتعترف لدى أحد الكهنة مرتدية تنورة داخلية (ذات جيوب) أتعرفها؟

–  نعم أعرفها.

وبعد أن اعترفت أرادت الذهاب، وبما أنها لم تقدم للكاهن شيئا تشكره به، رفعت ثيابها الخارجية لتخرج له مالاً من جيب تنورتها الداخلية. ولكنها أمسكت خطأً الثوبين معاً الخارجي والداخلي ورفعتهما عالياً فبانت حينئذ رجلاها. وحدث أن دخل أحدهم في تلك اللحظة وعاين وضع المرأة، فخرج وشهّر بمواقف الكاهن الفاحشة، فحكموا عليه بالحرمان ثلاثة أشهر. وأما الكاهن فكان أثناء مدة انقطاعه يشكر الله ويمجده بفرح لكل ما حصل له. أرأيت ماذا أحدث هذا الأخ يا ولدي؟ لقد رأى موقفاً فاحشاً كما أوحى له الشيطان. ولهذا أقول لك انتبه كثيراً”. أجبته: “نعم يا أبي سأنتبه”.

ليصحح لأحد الإخوة أخطاءه الكثيرة كان يستعمل أمثلة من طبيعته ومن حياته، فكان يقول له قاصداً تعليمنا نحن أيضاً:

“اعلم يا ولدي أنه لا يحدث شيء صدفة. كل الأشياء لها هدفها، ولا يحدث شيء دون سبب حتى ولا تسقط إبرة من شجرة صنوبر إلاّ بسماح من الله. لذلك لا تتضايق مما يحدث لك. هكذا نتقدس. أنت تتضايق من أفراد عائلتك فتتألم تارة من زوجتك وأخرى من أولادك. هؤلاء هم سبب تقدمك نحو العلاء (في الحياة الروحية)، ولو لم يكونوا فإنك لن تتقدم البتة. أعطاهم الرب لك لفائدتك. ولكن قد تقول لي هل هو حسن أن نتحمل من أحبائنا؟ هذه هي إرادة الله. ثم إنك حساس جداً فمن انزعاجك تؤلمك معدتك وأمعاؤك أليس كذلك؟

– نعم، ولكن هل هو سيء يا أبي أن يكون الإنسان حساساً؟

– نعم. إنه سيء أن يكون حساساً جداً مثلك. لأن الحزن يخلق له أمراضاً جسدية مختلفة. ألا تعلم أن كل الأمراض النفسية هي شيطانية؟!

– كلا.

– اعلم إذن الآن مني.

“لا يجب أن نصدق الأحلام، لأن فخاخ الشياطين مرات كثيرة تُنصب لنا من خلالها”.

عندما كنا ذات مرة في كاليسيا قال لي: “أرأيت هذه الإيقونات” وأشار إلى إيقونات كانت معلقة أمامنا في ساحة الدير. قلت له : “نعم”  ثم سألته: “من أين هي يا أبي؟” فأجابني: “لقد كانت مخبأة في الزوايا الخلفية للهيكل فأحضرها لي القديس نيقولاوس”. أما أنا فلم أسأله أية معلومات إضافية، ولا كيف أحضرها له القديس.

“عندما نكون مظلَّلين بنعمة الله حينئذ تكون صلاتنا نقية. صلِّ بتواتر حتى وأنت في سريرك إن كان ليلاً أو نهاراً”.

قال لأخ: “عندما تكون بعيداً عن أثينا ولا تستطيع أن تأتي إلى هنا باستمرار، ابحث هناك، حيث تكون، لتجد لك أباً روحياً صالحاً لتعترف بخطاياك. ولكن لا تقل كل ما يتعلق بالصلاة الذهنية أو بالأفكار، لأن البعض لا يعرفون كل شيء ومن الممكن أن يؤذوك. تعال إلى هنا وقل لي كل ما تريد”.

“عندما يهاجمنا الشيطان علينا أن نجابهه برجولة”.

“دعنا نقترب من المسيح يا ولدي، لا عن خوف من الموت أو ماذا سيحصل بعده، بل عن محبة حقيقية فاتحين له قلوبنا، كمثل إنسان يزيح الستار عن النافذة لتدخل للحال منها أشعة الشمس، هكذا يلج المسيح قلوبنا، وهذه هي الطريقة الفضلى”.

عندما كنت أصلي “يا ربي يسوع المسيح ارحمنا” كان يقول لي: “كلا ليس ارحمنا بل ارحمني، لأننا كلنا واحد إخوة لرأس هو المسيح”.

في كل مرة أراه فيها كنت أستعمل معه أسلوباً خاصاً. كنت مثلاً أضع رأسي فوق ركبتيه، وبدون أن أكلمه كنت أرفع صلاة ذهنية من أجل أخصائي، بل من أجل جميعنا، وهكذا أبقى على هذه الحالة عدة دقائق. وكان الأب بدوره يحوي رأسي بيديه ضاغطاً عليه، واضعاً بطرشيله فوقه، مصلياً معي لعدة دقائق أيضاً. مرات كثيرة كنت أشعر بتنفسه قوياً وكذا بضربات قلبه. وإن صدف وكان يُلم بي ألم في رأسي أو أي مكان آخر فإنه كان يزول حالاً. وعند انتهاء اعترافي، كنت أحس بأني قد نلت بركة وقوة كبيرتين، كمثل من يشحن بطارية بتيار كهربائي، كما كان يظهر من قيادتي للسيارة عند عودتي إلى المنزل.

سألت مرة الأب بورفيريوس: “لماذا تمسك يا أبي رأسي هكذا بين يديك؟” قال لي: “نعم يا ولدي كما تصلي أنت أصلي أنا أيضاً. وبإمساكي رأسك آخذ نفسك وأمثل بها أمام المسيح، وأطلب منه أن يرحمك ويساعدك وينيرك، وأن يمنحك كل ما أنت بحاجة إليه إن كان لك أو لعائلتك”.

كنت قد علقت أمامي في السيارة مسبحة كانت قد صنعتها لي أخته الشيخة بورفيرية منذ سنين طويلة. وعندما رآها قال لي: ” لقد أعطتك أختي هذه المسبحة أليس كذلك؟”

– نعم يا أبي لقد أعطتني إياها منذ عدة سنوات .

ثم سألته وبعد ذلك عن أحد معارفي، الذي كان قد زاره ذات أمسية وتعشى معه في منزله. فقال لي: “أتعلم إنه سيموت بعد أيام”.

وفي الأمسية التي تعشى فيها، مع آخرين، في منزل صديقي، كان يقول لكل واحد منهم مواصفاته الشخصية. وعندما حانت ساعة الرحيل لم يدعوه يعود إلى منزله، بل طلبوا منه أن ينام عندهم ملحين عليه بالقبول لأن الوقت كان قد تأخر. ففرح الجميع برضى الأب. ولكنهم رأوه، بعد قليل، ينهض فجأة مقرراً العودة إلى منزله. فطفقوا يتساءلون، الواحد بعد الآخر، ماذا جرى وبماذا فكروا في داخلهم حتى أنه قام بهذه الطريقة ومضى؟! وبعد أن باح الجميع بما فكروا به، قال أيضا رب البيت (أي صديقي): “أنا السبب بما حدث، لأني عندما رأيتكم ترغمون الأب على البقاء والنوم هذه الأمسية في بيتي، قلت في داخلي:” لماذا يجبرونه ولا يدعونه يرحل بما أنه يود ذلك”. وما أن انتهيت من جملتي هذه حتى قام الأب ورحل”. هذا ما حدث بالفعل. قرأ أفكار الجميع ثم قرر الذهاب.

توفي الأب يوحنا فرآه الأب بورفيريوس لامعاً بهياً في الفردوس. وبعد /13/ سنة تقريباً لحقته الخورية ماريا. وعندما سأله ابنهما كيف يرى أمه قال له: “أي فرح لهما ! إني أراهما مع بعضهما فرحين في الفردوس”.  كان يرى أنفس المنتقلين أين تذهب وكيف هي.

“الطاعة تؤدي إلى التواضع، والتواضع إلى التمييز، والتمييز إلى الحس، والحس إلى التنبؤ”.

رأى مرة الأب بورفيريوس زوجة أحد الإخوة فقال لها:

– ما هذا الذي أراه في رقبتك في الداخل؟

– وما هو يا أبي؟ لأنه لم يكن يُرى شيء ما منظور كورم أو دملة.

– هذا التورم يدل على أن شيئاً ما لديك.

فذهب الأخ حالاً مع زوجته إلى المستشفى لإجراء الفحوصات التي أدلت بأن هناك فعلاً غدة مع أشياء أخرى كانت تعاني منها الزوجة.

عدت يوماً فرحاً بعد إحدى النزهات الجميلة والمفيدة التي كانت لي مع الأب بورفيريوس. وبينما كنت واقفاً على الإشارة الضوئية في أحد الشوارع قبل أن أصل إلى منزلي، وقعت عليّ فجأة آلية صغيرة، تحمل داخلها شخصين وقعا على الجهة اليمنى تحت سيارتي، اللذين ظننتهما بأنهما قد قتلا. خرجت من السيارة مرتجفاً من الحادث، وسحبتهما الواحد بعد الآخر، دون أن يكونا قد أصيبا بضرر، ما عدا الأضرار المادية للسيارة وللآلية. ثم قلت لهما: “المجد لك يا الله. لقد أنقذكما المسيح وأمه العذراء فلم يصبكما أي أذى”. ثم حييتهما ومضيت. وللحال اتصلت هاتفياً بالأب بورفيريوس وسردت له كل ما حدث لي، وبأن هذا لم يزعجني رغم الخسائر المادية. فأجابني: “اعلم يا ولدي أنه عندما لا يستطيع الشيطان أن ينتصر علينا من الداخل، حينئذ يُحدث لنا هذه الحوادث الخارجية كي يخيفنا”.

كنت أعرف أحد الإكليريكيين في القرية المجاورة لنا، وعندما ذكرت اسمه أمام الأب بورفيريوس قال لي: “ذهبت مرة إلى منزل أحد الكهنة، فأضافني وسألني كيف أرى عائلته، وبما إني تمهلت طويلا في الرد، ألح علي بالجواب. فطلبت منه، حينئذ، أن يحضر لي صورة تحوي كل أفراد عائلته. وعندما أحضرها بدأت أخبره بمميزات شخصية كل فرد منهم، وعندما وصلت إلى ابنته توقفت عن الكلام لأني لم أر شيئاً.

– قل لي عن هذه شيئاً يا أبي، قل لي.

وأما أنا، تابع الأب، لم أر شيئاً فقلت له:

– هكذا كان ينبغي أن يحصل.

عندئذ انتصب الكاهن واقفاً وقال:

– نعم يا أبي كان يجب أن تموت لأنها عانت من مرض خطير وتحملت كثيراً.

فقال لي الأب بورفيريوس: “أترى يا ولدي هكذا يشاء الله أن نصمت أحياناً وأن نتحدث أحياناً أخرى. لهذا لم أقل له شيئاً عن ابنته”.

حدثني أخ عن إحدى العائلات بأن الشيطان كان قد أزعج كبرى ابنتيها، لدرجة أنها كانت تحدث أضراراً في البيت فتكسر أشياء مختلفة وترمي بها إلى الخارج. فذهب الأخ لزيارة هذه العائلة بصحبة أحد الكهنة (وهو ابن روحي للأب بورفيريوس)، ولكنه لم يستطع أن يساعدهم بشيء سوى بإسدائه بعض النصائح للفتاة وبنضحهم بالماء المقدس. وحين التقى الأخ بالأب الشيخ سأله كيف يمكن مساعدة هؤلاء الأشخاص؟ فقال له الأب: “أتعلم يا ولدي قوة هذا الشيطان الذي بداخل الفتاة؟ بإمكانه تحطيم شاحنة مملوءة بالحجارة. أتعلم من هو المسؤول في هذه الحالة؟ الأهل هم المسؤولون لأنهم أحبوا الصغرى كثيراً فأثاروا بذلك غيرة الكبرى، وبلحظة ضعف استغل الشيطان هذه الفتاة وقوي عليها وهو الذي يحدث الآن هذه الأشياء”. فسأله الأخ:

– وماذا علينا أن نفعل الآن يا أبي؟

– إنها بحاجة الآن إلى صلاة كثيرة ومحبة كبيرة كي تتحسن.  

قصّ علي الأب بورفيريوس الحادث التالي:

ركبت مرة سيارة عمومية لأعود إلى بيتي وكان السائق يسمع أغاني عالمية فقلت له بلطف:

– رجاءً، أغلق هذا المذياع لأن هذه الأغاني لا تروق لي.

– حسناً يا أبي سوف أغلقه.

– ما اسمك؟

– باسيليوس.

– ألديك أولاد يا باسيليوس؟

– لدي اثنان.

– أتعلم يا باسيليوس أن ابنك الكبير يشبهك جداً؟

– نعم إنه يشبهني. ولكن من أين تعرفه؟

– وأين هم أولادك الآن؟

– إنهم في إحدى القرى مع أمهم.

– أتقطن أنت هنا وحدك؟

– نعم يا أبي لأننا افترقنا، فأنا أقطن هنا وهي هناك مع الأولاد.

– أتركتهم وحدهم يا باسيليوس؟ ألم تعاود الاتصال بهم؟

– لا يمكن أن يحدث هذا يا أبي لأنه مضى وقت على حالتنا هذه ولا أستطيع الذهاب إلى هناك.

– أتريد أن أساعدك لتلتقي بهم؟

– وكيف ستساعدني يا أبي؟ وماذا يهمك أنت من هذا الأمر؟

– قل لي إنك تود ذلك وأنا أتدبر الأمر.

– حسناً تكفل به.

فأخذته وذهبنا إلى القرية حيث كانت زوجته وأولاده وما أن اقتربنا حتى قال لي:

– لن أتقدم، سأقف هنا.

– حسناً ابق هنا.

فذهبت بمفردي، ودخلت البيت، فوجدت امرأته فأحضرتها إليه، وهكذا عاودا الحياة من جديد معا.

فقلت له أنا أخيراً: “إنني أحبك كثيراً لكل ما تفعل”. فضحك من كلامي هذا.

مساء كل يوم ما بين العاشرة والعاشرة والربع ليلاً، حدد الأب بورفيريوس هذا الوقت كوقت لقاءٍ ما بين كل أولاده الروحيين، كي يصلوا ذهنياً صلاة يسوع (ربي يسوع المسيح ارحمني) أنّى تواجدوا. لأنه كان يقول لنا: “إننا نحن الذين في كريت، أو في تسالونيك، أو في أي جهة من اليونان، أو جهات العالم، فإننا سنلتقي كلنا مع بعضنا البعض بصلاة حية من أجل الآخرين”. والآن بعد أن افترق عنا فلنتابع، نحن أولاده، تطبيق هذه الوصية التي أعطانا عندما كان لا يزال معنا. لأنه سوف يمدنا من السماء حيث يرانا ويتتبعنا بكل مساعدة مادية أو روحية نحن بحاجة إليها بما له من الدالة الكبيرة لدى الله.

كنت قد زرت الجبل المقدس عام /1979/، وأهلني الله وقتئذ أن أنال بركة الأب باييسيوس الذي سألني من هو أبي الروحي فأجبته أنه الأب بورفيريوس فقال لي: “إن الله يرسل إلى العالم أناساً كالأب بورفيريوس كل مئتي سنة.”  ولدى عودتي من الجبل رويت هذا للأب بورفيريوس فقال لي بدوره: “ما هذا الذي تقول؟! قليلون هم الذين يملكون مواهب الأب باييسيوس”.  يا لتواضعهما هما الإثنين.

قال لي مرة : – لا ترشد أو توبخ أولادك باستمرار.

– فماذا أفعل إذن يا أبي؟ “

– صلِّ، واعترف لله بكل شيء كي تنحدر بركته من العلو. وليس بالعكس كما تفعل أنت الآن. كان يرى كل شيء بنعمة الله التي كانت معه دون أن تقول له أنت شيئاً حتى ولا عن أخطائك.

وقال لي في يوم آخر: “عندما كنت في الجبل المقدس دخلت يوماً الكنيسة وجلست في إحدى الكراسي الخشبية وبدأت أصلي. فدخل وقتها أحد الرهبان وبدأ بالصلاة وضرب المطانيات دون أن يراني حيث كنت داخلاً. حينئذ رأيته يسطع كله. يا إلهي كم كان مشهداً مهيباً مخيفاً رأيته.”

أتت إحدى الراهبات المريضات من كريت إلى كنيسة القديس جراسيمس حيث كان يوجد الأب بورفيريوس. وعندما رآها الأب قال لها:

– كيف حال الماء في ديرك؟

– إننا نفتش يا أبي ولكننا لم نجد حتى الآن.

– ألا يوجد سور هناك أعلى الدير؟

– نعم.

– إذن لو حفرتم بئراً هناك لوجدتم ماء كافياً لديركم.

وعندما زرنا بعد سنة من هذا الحادث أي عام /1977/ كريت بصحبة الأب وذهبنا إلى هذا الدير، لاقته الراهبة وقالت له فرحة: “نعم يا أبي لقد حفرنا بئراً كما قلت لي ووجدنا ماء كافياً للدير”. فسر الأب لهذه النتيجة ورسم صليبه شاكرا الله.

“صلِّ ولا تنزعج لأنه يلزمنا جهاد حتى النفس الأخير”.

“صلِّ وكن صبوراً. صلِّ لتصبح إنساناً أفضل”.

“قل دوماً الحقيقة”.

“اعمل كل شيء بهدوء”.

“عندما تكون تعباً جداً من عملك أو من الصلاة الذهنية، يكفيك عندئذ أن تقول التريصاجيون أي التسبيح المثلث تقديسه”.

“اذهب إلى الكنيسة بانتظام، واعترف باستمرار، وتناول القرابين المقدسة، وهكذا ستتلاشى كل مخاوفك وجراحات نفسك”.

“يسألوني إن كانت تحدث عجائب اليوم. العجائب كائنة باستمرار، ليلاً نهاراً، ألا تروها؟ “

قلت له يوما: “إنك يا أبي كالقديس نكتاريوس بما تقول وتكشف لي”. فالتفت ناظراً إليّ بوجه باشٍ ومنير: “لا تقل هذا لأحد”.

حاربتني أفكاري مرة قائلة لي: “لماذا لم أتكرس نهائياً لله وأصبح راهباً، بل تقيدت برباط الزواج وأنجبت أولاداً، وإني بهذا لن أستطيع أن أقدم شيئاً صالحاً لله”. ومع أفكاري هذه ذهبت ذات يوم للأب بورفيريوس واعترفت له بمختلف الخطايا التي ارتكبتها، فقال لي دون أن أفصح له بشيء حول الأفكار التي كانت تراودني: “اذهب الآن ولا تفكر بهذا. دع عنك هذه الأفكار. الدير هو بيتك إن أردت لأنه لا يختلف عنه شيئاً. يكفي أن تعمل بما أقول لك. ليس المكان هو الذي يصنع الدير بل طريقة الحياة. اذهب وصلِّ واصبر على كل شي”.

وبما أنه كان ممتلئاً من نعمة الله، علم بكل أفكاري وأجابني عنها. نعم إنك بقدر ما تتجاوب مع الأب بورفيريوس، بقدر ما يستطيع أن يحفظك من الأفكار الشريرة بواسطة اليقظة الدائمة التي كانت له.

كنت منحرف الصحة فسألته: “كيف ترى يا أبي ما يؤلمني؟” فردّ قائلاً: “إني أنظرك وألاحظ حركة دوران دمك، ثم أعصابك ثم جهازك الهضمي، وأما ما يلم بك الآن فإنه ناتج من معدتك”. كان وكأنه أجرى لي عدة صور شعاعية.

“عندما تقرأ الكتاب المقدس (لأنه يجب أن تقرأه باستمرار حتى تستنير) أو حياة القديسين أو الكتب الكنسية الأخرى وتجد جملة أو كلمة أثّرت فيك، قف عندها وقتاً كافياً، وتأمل بها جيداً، وسترى كم ستستفيد من هذا”.

“يجب أن يتحلى الأب الروحي بالتمييز والصلاة الحارة إلى الله ليستنير ويعرف كيف يتدبر الأمور ولا يخطئ. اعترف جيداً وبانتظام، لأنك ولو كنت بطريركاً فإنك لن تخلص ما لم تعترف”.

“تشبّه بوداعة وبساطة ومحبة وتواضع المسيح”.

“كن مؤمنا حتى الموت، ولا تنجرف وراء الانقسامات والعثرات التي ستحدث في الكنيسة بسبب البعض. صلِّ لتتوقف هذه وليحلَّ السلام ولا يأتي سخط الله علينا”.

“مهما تكن قد نلت من أوسمة، فأنت لا شيء إن لم تكن رجل الله. فلنلتجئ إليه ولنكن دوماً مستعدين. بهذا أوصيك بأن تقتني المحبة دائماً. المحبة ولا شيء آخر غيرها. من يحفظ وصية المسيح (أحبوا بعضكم) كما يجب فإنه يكون مغبوطاً هنا وفي الحياة الثانية. صلِّ وأحب. أحب الله وكل البشر. لا تقل في داخلك “فليحببني الآخرون”. إذا أحببتهم أنت أولاً، فاعلم أنهم سوف يبادلونك المحبة هم أيضاً”.

“علّم أولادك أن يجتهدوا في دراستهم حتى يصبحوا أناساً جيدين، ولا ينحرفوا بالعشرة الرديئة”.

“صلِّ لتصبح أفضل”.

–  ماذا أعمل يا أبي لأصبح أفضل؟

–  صلِّ ذهنياً باستمرار. أحب المسيح. أحب كل الناس. لا تتكلم على الآخرين. اذهب إلى الكنيسة بانتظام. اقرأ الإنجيل لينيرك الله”.

“عندما تخطئ لا تيأس بل تب بشجاعة وثقة بالله. وإن لم تستطع الاعتراف لي فاعترف لأب أرشدك إليه لأنه هكذا فقط سوف تخلص. انتبه لما تقول للآباء الروحيين الذين تعترف لهم، لأنهم لا يعرفون كل شيء. يجب أن يكون الآباء الروحيون حكماء جداً، متحلين بالتمييز وذوي خبرة، عندهم روح الله حتى يستطيعوا أن يحلّوا لك مختلف المشاكل”.

“إن بعض اللاهوتيين لاهوتيون بشهاداتهم فقط، وهكذا أصبح اللاهوتيون غير لاهوتيين”.

“تمثّل بالمسيح واصبر على كل الصعوبات”.

“لا تذهبوا إلى السحرة حتى يحلّوا لكم مشاكلكم. إن هؤلاء يستطيعون أن يفقدونكم عقولكم وأن يستهلكوا أموالكم. لا تخالطوهم بل ابتعدوا عنهم واقتربوا فقط من المسيح والكنيسة. انتبهوا كثيراً من الذين هم على ضلال روحي، إنهم متعصبون جداً ولا يعودون عن غيهم بسهولة، دعوهم ولا تلحوا عليهم، بل صلوا فقط لله من أجلهم كي ينيرهم”.

“لا تطلب من الله أن يزيل عنك الأمراض، ولا تلح عليه في الصلاة من أجلها، ولكن تحملها بصبر كبير وسترى كم ستستفيد”.

“اعلم أنك في كل عمل تعمله ستصادف الكثير من الضيقات والانزعاجات، فلا تتراجع بل صلِّ والله سوف يزيلها عنك كلها وستتقدم روحياً. إن المخاوف تأتيك أحياناً لأنك لا تحب المسيح كثيراً هذا كل ما في الأمر. انتبه كيف تجاهد. جاهد بتواضع وليس بأعصابك”.

“انتبه ألاّ تكون المناولة المقدسة ناتجة عن العادة. ولتكن كل مناولة وكأنها آخر مرة قبل موتك”.

“الجحيم والشيطان والموت كلها حقائق، ولكني لا أريد أن تخيفك ولا أن تفكر بها. أريد أن تحب المسيح الذي هو الكل، وهكذا حيثما وجدت فلن يخيفك شيء، وستبدو لك الأشياء كلها صالحة. إن المسيح ينتظر أن نفتح له قلبنا ليدخل حالاً إلى الداخل، وعندها نحوز الكل. إنه كالشمس يا ولدي، فعندما تزيح الستار قليلاً عن النافذة تدخل الشمس وأشعتها ونحس نحن بالدفء. لا أريد أن تقتربوا من الله خوفاً من الموت، بل لتكن المحبة سبب اقترابنا وهذا هو أسمى شيء”.

قال لي: “لا تجبن ويضعف إيمانك تجاه شدائد الحياة، بل كن رجلاً وتشدد مصلياً إلى المسيح، لأنه يراها ويتتبعك لكي يخرجك منها”.

قال لي أحد الإخوة: “حدثت في بيتي ذات يوم فوضى كبيرة بسبب شكوى ابني الصغير الدائمة ومشاحنته المستمرة لأمه، وأحسست ساعتها بوجود الشيطان في بيتي. وفي تلك اللحظة اتصل بي الأب بورفيريوس هاتفياً وقال لي: “إن الشيطان هو الذي دفع ابنك ليحدث هذا كي يسقطك في الخطيئة، وداعاً”. ثم أغلق الهاتف. أما أنا فقد انذهلت لتتبع الشيخ لحياتنا.

وقال لي الأخ نفسه: “لقد أُعلمت بأن حالة أمي المريضة خطرة، فأخذت إجازة من عملي لأسافر إلى قريتي. وكعادتي اتصلت بالشيخ هاتفياً قبل ذهابي وقلت له:

– لقد أُنبئت يا أبتي بأن أمي مريضة مرضاً خطيراً، ولذلك يجب أن أمضي لأراها.

– نعم، إن هذا اليوم يوم حافل بالنسبة لأمك.

أما أنا فلم أفهم مغزى كلامه. وبعد حين عاودت الاتصال به فردت عليّ إحدى بناته الروحيات وسألتني:

– هل ماتت أمك؟

– وكيف عرفت أنت هذا؟

– لقد رأى الشيخ الحدث وأخبرني به.

وبعد قليل حاولت الاتصال به أيضاً فردّ قائلاً: “رأيت أمك قد ماتت ومضت نفسها بسلام إلى السماء”.  فذهلت من قوله وصمت.

رقد في /4-5-1981/ في خانيا في كريت الأب ألفثاريوس (وهو ابن روحي للأب بورفيريوس)، وبعد بضعة أيام قال لنا الأب: “إن الأب ألفثاريوس هو قديس… يا إلهي كم هو قديس كبير!”

“إن أعمق مفهوم للمسيحية : المسيح قام.”

“لا تطلب مني أن أحبك لأن المحبة لا تُطلب إذ هي تتأصل وتولد في حنايا القلب”.

“بمقدار ما يكون الشاب حساساً، رقيق الشعور بمقدار ما يكون معتداً بنفسه متكبراً”.

“يجب أن نكون مثالاً لأولادنا حتى سن الحادية عشرة. لا ينبغي أن نرشد أولادنا دائماً، بل لنكن نحن لهم قدوة صالحة”.

قال لي أحد الإخوة: ” مضينا يوماً بصحبة الأب بورفيريوس لنرى قطعة أرض كنت مزمعاً أن أشتريها خارج أثينا. وفي الطريق كان يشرح لي أموراً صعبة ذات معان سامية لم أستطع فهمها. وإذا به يصرخ فجأة بصوت مرتفع: “أفهمت هذه التي قلت لك؟” أما أنا فنظرت إليه مستغرباً طريقته القوية في الكلام، إذ لم أسمعه قط يصرخ بي هكذا، لذا لم أقل له سوى: “نعم يا أبي”. وفي اليوم التالي اتصل بي في مقر عملي قائلاً:

– ايه، أرأيت أمس عندما كلمتك بقوة؟

– نعم.

– أتعلم لماذا فعلت هكذا؟

– ومن أين لي أن أعرف؟

– كان متجهاً نحوك روح شرير ليبثّ فيك أفكاراً مريبة، فصرخت هكذا بقوة لأنزع تأثيره عنك.

– ماذا ؟ كيف ؟ كيف حدث هذا يا أبي؟!

“يجب أن نحب وأن نصلي ببساطة قلب”.

“إن حبوب الهرمونات تُحدث خللاً في وظيفة أعضاء الجسم. كما أن النتيجة السلبية للهرمونات تحصل من الانزعاج، وأحياناً تؤدي الهرمونات إلى مرض فصام الشخصية بما لها من قوى فعالة”.

“إن الأهل هم سبب مشاكل الأولاد. كل المشاكل تبدأ من الأهل. يجب أن يصبح الأهل قديسين، وبعد ذلك سيقتدي بهم الأولاد أيضاً، وعندها لن توجد ثمة مشاكل”.

“إني أذكر أسماء كل الذين أتوا إليّ أو تحدثوا معي. إني أتضرع من أجل الرجال والنساء والأولاد، من أجل الأهل والأقارب، وأطلب من الله أن يتحنن عليهم ويساعدهم، وأنا على يقين بأن الله يسمعني”.

قال لي أحد الإخوة: “صحبت يوماً الأب بورفيريوس بسيارتي، فرأى أثناء مسيرنا شاباً يرفع رجليه فوق إحدى الآلات بطريقة خطرة جداً فقال لي: “إني أرى الشيطان بقربه يحثه على القيام بهذه الحركات، وبما أنه لا يحق له ( للشيطان ) أن يقتله شخصياً، فراح يوحي إليه ليقوم بهذا الأمر فيقتل نفسه بنفسه”.

كانت إحدى السيدات، وتدعى ماريا، تنتظر مع آخرين دورها لترى الأب. فرآها الأب وعرف أنها تعاني من مشكلة مهمة تشغلها، فدعاها ليراها دون أن يراعي دور الزوار. ولكنها لم تستجب للدعوة ظناً منها أن هناك خطأً ناتج عن التباس مع شخص آخر يحمل نفس الأسم. ولكن لما جُددت لها الدعوة أجابت: “لا بد أن هناك خطأً لأن الأب لا يعرفني ولم يرني مطلقاً”. وبالحقيقة لم يكن هناك ثمة خطأ كما ظنت، لأن هي بالذات من أراد الأب أن يحدّث نظراً للمشكلة المهمة التي كانت تعانيها.

قال لي الأب بورفيريوس ذات يوم: “إن الشيطان لا يألو جهداً في إهلاكنا. فإن أقلقنا مثلاً من ناحية إنسان ما، فإنه يقنعنا بوسائل وبراهين كثيرة، والشيطان ذكي جداً، بأن هذا الإنسان ثقيل ومزعج فعلاً. إنها كلها ألاعيب شيطانية لأنه من الممكن أن يكون هذا الإنسان بريئاً من كل هذه الأمور”.

“كلما كان الإنسان بعيداً عن الله كلما وقع في الحزن واليأس بسبب أمور مختلفة. علينا أن نعترف لأبينا الروحي عندما يكون هناك ما يكدرنا”.

“عندما لا يكون الأهل فاضلين فإنهم يعرّضون أولادهم للمشاكل. ينبغي أن ننصح الأولاد باستمرار لا أن نوبخهم. إن أردنا أن يفعل الأولاد أمراً ما، علينا أن نكون نحن أولاً المثل أمامهم، ثم نرفع الأيدي إلى الله مبتهلين من أجلهم”.

“إنه من الأفضل أن يكون أحدنا على خطأ وهو داخل الكنيسة، من أن يعمل خارجها باستقامة”.

قال ذات يوم لإحدى بناته الروحيات: “عندما تصلين يا ابنتي قولي: أيها الرب يسوع المسيح ارحمني”. أما أنا، قالت الأخت، فقد عملت بما أشاره الأب، ولكني أضفت هذه الكلمات: يا ربي يسوع المسيح بشفاعات قديسك فلان ارحمني. وعندما ذهبت إلى الشيخ لم أقل له شيئاً حول موضوع الصلاة. وأما هو فقال لي:

– أتعلمين يا ابنتي أنك فعلت حسناً بصلاتك هكذا؟

– كيف يا أبي؟

– نعم، عندما أوصيتك أن تصلي صلاة يسوع أضفت أنت إليها بشفاعات مختلف القديسين… لقد علم أفكاري وكيف أصلي !

لا أظن أني وفيت شيخنا بورفيريوس حقه بما كتبت من أمثلة قليلة عنه، لأنه كان يحاول دائماً أن يختفي شأن كل آباء كنيستنا القديسين. من الممكن أن لا يعتبره الأغلبية قديساً رغم معرفتهم له. ولكن ما هو مهم هو حياته النيرة والممتلئة من النعمة، مثله الصامت والبسيط المملوء من الفضائل والقوى الإلهية التي كان يساعد بها البشر أمثاله. لقد أعلن المسيحَ للناس حتى بواسطة الهاتف، كما صنع معجزات عن بعد، ورأى رؤى إلهية بما كان له من موهبة نفاذ البصيرة، وتنبأ عن حوادث بما له من موهبة النبؤة، وعاجلاً سوف تظهر نعمة الله التي كانت معه.

admin:
Related Post