ماذا يعلّمنا توما الرسول في زمن الكورونا؟

ماذا يعلّمنا توما الرسول في زمن الكورونا؟

إعداد أسرة التراث الأرثوذكسي

يصف لنا الإصحاح العشرون من يوحنا مشهد الرسل في وضع يثير الشفقة إذ هم مجتمعون في بيت مظلم صغير خوفًا من اليهود بعد موت ربنا يسوع المسيح. لقد أغلقوا كل النوافذ والأبواب. ولأنهم كانوا في حداد، لا بد أنهم كانوا مكتئبين، غاضبين، محبَطين، مرتبِكين وخائفين جداً.ـ

لم يكونوا يتوقعون عودة معلمهم بسرعة، فلهذا لم يكونوا ينتظرونه بشغف، بل كانوا قلقين من أن عالمهم على وشك أن ينتهي بهم على الصليب. لذا بدلاً من الوقوف حسناً، بخوف ورِعدة متوقعين وصول المعلّم، كانوا جاثمين في الظلام الدامس تاركين خوفهم المادي يتحكّم بحياتهم. على الأرجح كانوا مرتعدين مما حدث لمعلمهم يسوع المسيح ومن أنهم لا يستطيعون تحمّل نفس العذاب والألم.ـ

عندما أخبروهم أن يسوع على قيد الحياة، فكّروا على الأرجح: “كيف يمكن أن تنهض جثة يسوع من بين الأموات وقد أكّدوا لنا أن جسده مشوه من الضرب وثقوب المسامير وإكليل الشوك وطعنة الرمح في الجنب؟”

لكن القراءة الإنجيلية تخبرنا أن الرب أتى إلى تلاميذه ووقف في الوسط وأعطاهم السلام وأكّد لهم بأنه هو إذ أراهم يديه وجنبه، ثم اعطاهم السلام مجدداً وقال لهم «السَلاَم لَكُمْ! كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ كذلك أَنَا أُرْسِلُكُمْ».ـ

بهذا بدأ تكليفهم. هذه كانت بداية إرسالية الرسل العظيمة إلى العالم. قال لهم: “كما أرسلني الآب كذلك أَنَا أُرْسِلُكُمْ”. ثم قال يسوع لرسله، “خذوا الروح القدس. مَن غفرتم خطاياهم تُغفَر لهم ومَن أمسكتم خطاياهم أُمسِكَت”. أي أمر عظيم حدث في ذلك اليوم، أعطى الرب قوة مغفرة الخطايا وسلطة الحكم للرسل ليمرروها بالتسلسل الرسولي من جيل إلى جيل ومن رسول إلى رسول.ـ

مهم هنا أن الرسول توما، أحد الإثني عشر، لم يكن هناك عند حدوث كل هذا. يقول لنا الآباء القديسون أنه لم يكن هناك “بالتدبير الإلهي”. ومع ذلك، ما أن رأى التلاميذ الآخرون توما صرخوا “لقد رأينا الرب!” لكن توما المتغيّب لم يقتنع بسهولة، وربما شكّ بأن إخوته واهمون فأجاب: “إن لم أعاين أثر المسامير في يديه وأضع اصبعي في أثر المسامير لا أؤمن”، أي لا أصدّق.ـ

لم يقصد توما أن يقول لإخوته أنهم كاذبون أو واهمون أو متخيّلون. ولا هو كان عاجزاً عن التصديق. ربّما تذكر كلمات سيده يسوع المسيح الذي قال لهم قبلاً “إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا الْمَسِيحُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ! فَلاَ تُصَدِّقُوا. لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ، حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا. هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ… لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَشَارِقِ وَيَظْهَرُ إِلَى الْمَغَارِبِ، هكَذَا يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ”. لم يقل له أي من إخوته أن يسوع أتى من المشارق وظهر إلى المغارب. ما كان يتوقعه لم يكن ما ذُكِر له.ـ

لهذا لم يقبل الرسول توما أن يصدّق إلا من بعد دليل ملموس، التزاماً منه بكلمة المسيح. لكن بعد ثمانية أيام، ظهر يسوع للتلاميذ مرة أخرى بشكل مفاجئ كما فعل قبلاً، ولكن بوجود توما بينهم. دخل يسوع والأبواب مغلقة، أي دخل بالرغم من عدم وجود إمكانية للدخول، ظهر لهم يسوع في الوسط. هنا بدأ عقل الرسول توما بالدوران وكثُرَت الأسئلة، وراح قلبه ينبض بقوة. عندما دعاه الرب لأن يضع اصبعه ويعاين أجابه بقدر كبير من التأكيد والقناعة: “ربي وإلهي!”

يخبرنا التقليد المقدس أن الرسول توما لم يلمس الرب، حتى ولم يفكر بذلك عندما دعاه، لأنه سرعان ما أدرك أن تمييز الحقيقة لا يحتاج للحواس البشرية، أي الفكر، وحسْب، بل يطلب الحواس الإلهية التي في القلب، أي الإيمان.ـ

ولكي يؤكّد لنا الرب أن الإيمان الذي في القلب هو فضيلة أعظم من العقل، قال له : “لأنك رأيتني آمنت، طوبى للذين من لم يروا وآمنوا”. هذا الكلام ليس تقريعاً بل حثّاً على الإيمان وعلى تفعيل حواس القلب للوصول إلى التمييز. وهذا ما نكرره دائماً. نحن لم نرَ لا القيامة ولا القائم ومع هذا ننادي كل سنة “المسيح قام حقاً قام” ونكرر كل أحد “إذ قد رأينا قيامة المسيح” ونحن لم نرَ.ـ

لم يكن تشكك الرسل وخصوصًا توما ضارًا، بل بالواقع مفيداً وأساسياً لكل المسيحية. إن التقدير السليم والحكم الجيد أمران حيويان للمسائل الروحية ، وحدث قيامة ربنا ليس استثناءً. لهذا يُسمّى الرسول توما في العالم توما المشكّك، بينما في الكنيسة الأرثوذكسية هو توما المؤمن.ـ

لقد كان ضرورياً أن يتأكد الرسل من أن المسيح قام من بين الأموات حتى يعلنوا فعلاً الحقيقة التي عاينوها للعالم، وحتى أننا بلا شك نؤمن أن “يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لنا إذا آمنّا حياة باسمه”. حتى نكون مبارَكين بالإيمان الذي يأتي من القلب والروح وليس من الحواس البشرية والفكر البشري وحسب.ـ

اليوم في زمن الكورونا، شكوك كثيرة تتقاذف الإنسان. مَن اخترع الكورونا؟ مَن نَشرها؟ أهي من المسيح أم من ضده؟ أممكن أن الله يسمح بالأمراض؟ هل هذا الوباء علامة آخر الزمان؟ ماذا يريد الله أن يقول لنا من خلاله؟ هل المناولة تنقل المرض؟ هل الأيقونة تنقل المرض؟ هل يدخل الوباء الكنيسة؟ لماذا يسمح الله بمرض المؤمنين؟ وإذا اعتقد أحدنا أنه توصّل إلى الإجابة على أحد هذه الأسئلة يأتيه فكره بأسئلة جديدة.ـ

لكن كل هذه الأسئلة وغيرها جوابها واحد يعبّر عنه موقف الرسول توما بقوله “ربي وإلهي!”. هذا موقف يجمع الإيمان والرجاء والمحبة التي هي الفضائل المسيحية الكبرى في عبارة واحدة. ومَن يريد اقتناء هذه الفضائل عليه أن يعالج كل أسئلة الحياة اليومية بالتواضع والاتكال والتسليم إلى الله. مَن استطاع أن يتضع ويتكل على الله ويسلمه حياته يتخطّى الارتباك ويسكن في النصيب الصالح.ـ

بتصرّف عن

Kosmas Damianides. Sermon for Thomas Sunday. http://www.orthodoxchristian.info/pages/Thomas_Sun.htm

***