X

بحث في التراث الأرثوذكسي

سر الصليب بحسب القديس اسحق السرياني

الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس

 

رحلة الإنسان من صورة الله إلى التشبه به هي سر عظيم. إنها تشكل تأله الإنسان وهي الهدف الأصلي الذي خلق من أجله، أي تحول كل قوى نفسه وجسده، واتحاد الطبيعة والنعمة. لا يمكن التعبير عن هذا السر بدون الصلب الذي يقود الإنسان إلى معاينة الله. يتم اشتراك الإنسان في الحدث اللاهوتي لصلب المسيح، ونزوله إلى الجحيم، وقيامته، من خلال حياة الصليب.

في أحد نصوصه الشعرية، يكتب القديس نيقوديموس الآثوسي قائلاً: “لقد أثبت عدم استحقاقي للصليب المزدوج الذي للعمل ومعاينة الله”. العمل يعني تطهير القلب من الأهواء، وتحول قوى النفس. معاينة الله الطبيعية، مثل علم اللاهوت، تعني استنارة النوس ومعاينة مجد الله. إننا نحيا هذا الصليب المزدوج باختبارهما كليهما، هذين اللذين يمثلان سر الصليب وأيضاً سر الخلاص.

ربما يكون القديس نيقوديموس الآثوسي قد وجد إلهامه لهذه العبارة لدى القديس اسحق السرياني الذي يتحدث عن الصليب المزدوج الذي للعمل ومعاينة الله.

يكتب القديس اسحق السرياني قائلاً: “توجد طريقتان لإعتلاء الصليب: الأولى هي صلب الجسد، والثانية هي الصعود في معاينة الله. يأتي الأول من خلال التحرر من الأهواء، ويحدث الثاني بعمل الروح القدس. لن يأتي نوسنا إلى الخضوع ما لم يخضع جسدنا له. مملكة النوس هي صلب الجسد. لن يخضع النوس لله ما لم تخضع الإرادة الحرة للعقل”.

تعليم القديس اسحق السرياني واضح. صعود المسيحي على الصليب هو صلب الجسد، من جهة، والذي يتطلب التحرر من الأهواء وخصوصاً خضوع الإرادة الحرة للقدرة العقلية وخضوع الجسد للنوس، ومن جهة أخرى، الصعود إلى معاينة الله الذي يتحقق بواسطة الروح القدس.

إننا نجد نفس هذا التعليم في موضع آخر في “العظات النسكية” للقديس اسحق السرياني. إنه يكتب قائلاً: “عمل حمل الصليب هو عمل مزدوج”. الجانب الأول يسمى العمل ويعني احتمال “ضيقات الجسد”.. وهذا “يطهر الجزء الشهواني من النفس بقوة الغيرة”. يتكون الثاني من “أعمال النوس الدقيقة، وهذيذ إلهي ثابت، وصلاة دائمة مستمرة، وممارسات أخرى شبيهة. يتحقق هذا العمل الثاني من خلال الجزء المريد من النفس، ويسمى المعاينة الإلهية (الثايوريا)”. ليست هذه الثايوريا خمولاً روحياً ولكنها تطهر قوة محبة النفس، “التي هي اشتياق طبيعي، وغربلة صادقة لجزء النفس النوسي”. يختم القديس اسحق بأن يقول أنه من الضروري أن يأتي صليب العمل أولاً، وأن يتبعه صليب الثايوريا، لأنه “لو أراد النوس الصعود على الصليب قبل أن تكون الحواس قد استراحت من نقائصها فإن غضب الله يأتي عليها”.

في تعليم الآباء القديسين، لا يشير العمل ومعاينة الله إلى حياة العمل وحياة التأمل، كما يصر على ذلك التقليد الغربي، وبتعبير آخر، إلى التمييز بين العمل الإرسالي أو الاجتماعي و”التأمل”. يشير العمل إلى تطهير القلب من الأهواء، ومعاينة الله هي استنارة النوس ومعاينة نعمة الله غير المخلوقة في الطبيعة الإنسانية لله الكلمة. طريق التطهير من الخطيئة والرحلة نحو تأله الإنسان هما خبرتان لسر الصليب. حيث أن المسيح غلب الموت، وإبليس، والخطيئة على الصليب بواسطة محبته العظيمة، فإن الاشتراك في حياة التأليه هي خبرة شخصية لسر الصليب.

إذ نفحص هذه المسألة عن قرب، فإننا نستطيع ملاحظة أن الإنسان، من خلال ولادته، يرث نتائج الخطيئة الجدية، التي هي الفساد والموت. ولادة الإنسان الثانية تعني التغلب على أقمصة الجلد تلك (الفساد والموت)، ويتحقق ذلك من خلال دمجه في جسد المسيح. يتغلب الإنسان على الفساد والموت بكل توابعهما ونتائجهما من خلال اختبار قوة الله المانحة التطهير والاستنارة والتأليه داخل أسرار الكنيسة. في مثل هذه الحالة، نقول أن الشخص يختبر سر الصليب والقيامة. لأن المسيح انتصر على الموت، وإبليس، والخطيئة فإن المؤمن المتحد بالمسيح يكون قادراً على هزيمة الموت داخل حدود حياته الشخصية من خلال سر الصليب. في الواقع، يكرر المسيح انتصاره على الموت، وإبليس، والخطيئة في كل شخص يريد الاشتراك في هذا الجهاد.

يشير أيضاً القديس غريغوريوس بالاماس إلى سر صليب المسيح من منظوره. يرى القديس غريغوريوس “أنه لم يتصالح أحد مع الله قط إلا من خلال قوة الصليب”. إنه إذ يشير إلى الصليب يقول: “صليب المسيح هو محو الخطيئة”. حدثت مصالحة البشر مع الله في حياة كل الآباء الأولين والقديسين المتحدين بالله” وبالتالي، “كما شهد الله نفسه، كان يوجد الكثيرون الذين كانوا أصدقاءً لله قبل وبعد الناموس، عندما لم يكن الصليب قد أعلن بعد”. ثم بعد ذلك يصف رحيل إبراهيم عن عشيرته بناءً على كلمات الله “اذهَبْ مِنْ أرضِكَ ومِنْ عَشيرَتِكَ ومِنْ بَيتِ أبيكَ إلَى الأرضِ التي أُريكَ” (تك1:12)، ويعلق قائلاً: “تحمل تلك الرسالة سر الصليب داخلها”. كانت معاينة الله الممنوحة لموسى عندما خلع نعليه أيضاً خبرة للصليب: “بالتالي تكون الثايوريا الإلهية أيضاً سر الصليب، وأعظم من هذا السر الأول”.

خبرة الصليب هي الاشتراك في قوة الله المانحة التطهير، والاستنارة، والتأليه. وهي تتحق من خلال تعاون الله والإنسان.

إذ يفسر الأستاذ رومانيدس هذا النص الآبائي يكتب قائلاً: “سر الصليب والقيامة هو المجد، والعظمة، والجلالة الإلهية التي كانت موجودة قبل العالم والتي هي موجودة إلى الأبد، والتي يمكن أن يقتنيها الجميع بحسب قوتهم، والتي يشترك فيها الجميع بطرق مختلفة بحسب استحقاقهم، والتي يسكن فيها الله الثالوث”.

سر الصليب هو في الواقع قوة الله غير المخلوقة العاملة قبل خلق العالم؛ العاملة في الخليقة والحاكمة العالم؛ العاملة قبل وبعد ناموس موسى؛ قبل وبعد التجسد؛ قبل وأثناء وبعد ذبيحة المسيح على الصليب. قوة وقدرة الله، التي هي سر الصليب، “تقدم الذبيحة على الصليب، وقوة القيامة، وهي موجودة في الإفخارستيا الإلهية والأسرار لكي تطهر، وتنير، وتؤله. من خلال سر الصليب والقيامة، ومن خلال ذبيحة نفسه على الصليب، يعمل المسيح، مع الآب والروح القدس، الصلح بين العالم ونفسه، ويغذي المؤمنين، ويحقق لهم النمو والتطور الروحي نحو الاتحاد بالله”.

من الواضح أن سر الصليب هو نعمة وقوة الله غير المخلوقة، التي خلقت العالم وتحكمه، والتي تخلص الناس بمصالحتهم مع الله بواسطة قوة صليب وقيامة المسيح. أظهر الحدث التاريخي للصليب قوة الله غير المخلوقة، التي بواسطتها يحب الله العالم ويغلب الموت، والخطيئة، وإبليس. بالتالي، تتم المشاركة في ذبيحة المسيح على الصليب، التي تعبر عن محبته، في الأسرار والحياة النسكية، وبهذه الطريقة تحقق تطهير الإنسان، واستنارته، واتحاده بالله. هذه هي الطريقة التي يغلب بها الإنسان الفساد والموت.

admin:
Related Post