رؤية للأرثوذكسية والتماس للأصالة الروحية – الأب ثيودور ستيليانوبولوس

رؤية للأرثوذكسية والتماس للأصالة الروحية
الأب ثيودور ستيليانوبولوس

[الأب ثيودور ستيليانوبولوس أستاذ في معهد الثليب المقدس في بروكلين، ماساتشوستس. هذه الكلمة تعبّر عن رؤيته الشخصية لحياة الكنيسة ولكنها مفيدة جداً لأن يتبنّاها كل مؤمن في هذه الأيام. في الأصل هي محاضرة ألقاها الأب ثيودور في مؤتمر أسقفية بوسطن التابعة للأبرشية اليونانية في أميركا الشمالية، لكن محتواها يخص للعالم الأرثوذكسي بأكمله. لهذا، بعد استئذان الكاتب، تم وضع العبارات الأصلية بين قوسين حيث المقصود أميركا دون غيرها واستبدالها بما يجعل النص أكثر ملاءمة لكل العالم الأرثوذكسي. (المترجم) ]

ما هي رؤيتي للكنيسة في المستقبل؟ على المدى الطويل، لا أستطيع أن أقول بأني أعرف بأي طرق أو أي قوة يقودنا الله كأرثوذكسيين في [الولايات المتحدة] العالم. أؤمن أنه يقودمنا بالواقع وأن الهدف هو اجتماعنا مع كل المسيحيين الأرثوذكسيين في ملء الحياة والشهادة للكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية في [هذا الجزء من] المسكونة حيث زَرَعَنا الله لننمو. ولكن بأي قوة نصل إلى هذا الهدف تطبيقاً لهدف الله، سوف يتوقف على مدى طاعتنا لإشاراته.
على أي حال، في الوقت الحاضر، في سعيي لفهم إشارات الزمن داخل الكنيسة وخارجها، أؤمن أن مهمتنا الأكثر إلحاحاً هي التماس الأصالة الروحية كطريق لحسن التمييز والتمكن من أجل تحقيق الأهداف، القريبة والبعيدة المدى، التي نضعها لأنفسنا.

نحن عندنا غنى تاريخنا الموضوعي، اللاهوتي، العبادة والتقاليد الأخرى. نحن عندنا ما يكفي من المؤسسات، المجالس، الجمعيات، المكاتب، الهيئات، المجموعات واللجان. نحن عندنا عدد وافر من القادة، المفكرين، المربين، الداعمين، والعاملين كما المهرات والموارد من أجل إتمام عمل الله في الكنيسة والعالم.

ليست الحاجة الأساسية برامجاً إضافية، أو لجاناً أكثر فعالية، أو قادة جدداً، أو تصورات جديدة تأخذنا إلى آفاق لم تُكتَشَف بعد. بالأحرى، الحاجة الأساسية هي لتحوّلٍ نوعي في القلب والفكر بسماع أول الأنبياء “أعدوا طريق الرب، اجعلوا سبله قويمة” (متى 3:3). الحاجة الأساسية هي للتجذر الروحي، تحوّل القلوب، تجدد الأفكار، استناداً إلى سعي متواضع وغير محجم للأصالة الروحية، على المستويين المؤسساتي والشخصي. هناك خمسة أوجه مترابطة للأرثوذكسية وهي تناسب هذا السعي.

1.   الأرثوذكسية إيمان حقيقي.

نحن نعلن ونتمتع بامتلاكنا الإيمان القويم، وهذا صحيح. لكننا غالباً ما ننظر إلى وديعتنا المقدسة كنظام من العقائد، الأسرار والتقاليد التي نحافظ عليها شكلياً وينبغي بنا نقلها إلى الأجيال. في كل حال، يجب أن نركز أيضاً على جوهر هذا الكنز المقدس أي المسيح نفسه، المخلص الحي، الذي هو “الطريق والحق والحياة” (يوحنا 6:14). يجب أن نجعل مركزية المسيح في الكتاب المقدس والتقليد الأرثوذكي واقعاً.

نحن بحاجة لأن نسمح للضابط الكل، المسيح الحاكم المطلق، بالنزول من قباب كنائسنا[1] إلى أعماق قلوبنا وإلى مراكز الحياة في رعايانا. علّمَنا المسيح أن نكون تلاميذاً أصيلين، أن نؤمن به، أن نثبت في محبته، وأن نطيع كلماته إذا كنا نريد أن نحقق أي شيء مهم روحياً ونحمل ثماراً باسمه.

السعي إلى الأصالة الروحية، دمج الحياة والحق، تفعيل كنوز الإيمان، كل هذه تتطلب أن يكون المسيح الأول في كل شيء، بالبحث عن وجوده، مشيئته، فكره، خُلُقه، وروحه إلى درجة أن نقول مع الرسول بولس “لأن الحياة لي هي المسيح” (فيليبي 21:1).

2.  الأرثوذكسية الكنيسة الحقيقية.

يتزايد اليوم في العالم  الإدراك بأن الكنيسة الأرثوذكسية تحفظ التعبير الأكثر أصالة عن المسيحية الرسولية التقليدية. ومع أن عدداً كبيراً من المتحولين[2] يأتون إلى الكنيسة، لا نستطيع الحفاظ على الكثيرين من شعبنا، خاصةً الشباب، المتزوجين حديثاً، وكثيرين من المستحوَذين في المساعي الدنيوية. فوق هذا، كثيرون من الباحثين، عند احتكاكهم ببعض الرعايا، تصدمهم اللامبالاة السعيدة من مؤمنينا بكنوزنا الروحية.

بالتأكيد، ممكن أن نكون أفضل كجسد المسيح وهيكل الروح القدس. الرب يسعى إلى إعادة صنع العالم من خلال الكنيسة كجماعة محبة ومصالحة، فرح ودعم متبادل، خدمة وبشارة.

نحن مدعوون لأن نكون عاملين كمشاركين لله في مخططه الكبير لخلاص النفوس. إحدى أول أفضلياتنا هي إظهار إثبات مقنع للحياة الجديدة بالمسيح في الكنيسة نفسها، مظهِرين أننا جماعة محِبة ومهتمة من الإخوة والأخوات مستعدين لأن نقدّم حياتنا من أجل بعضنا البعض.

3.  الأرثوذكسية عبادة حقيقية.

أيقوناتنا هي نوافذ على الملكوت وعبادتنا هي الملكوت على الأرض. لا تتمتع أي جماعة مسيحية أخرى بعَظَمة الخدمات الليتورجية وغنى التسابيح كما الكنيسة الأرثوذكسية.

ومع هذا، هل نحن نعبد “بالروح والحق”، كما علّمنا المسيح، عندما نتأخر بالحضور إلى القداس، نتغيّب عن الخدم الأخرى، نوهن في صلواتنا الفردية، وغالباً ما نتحول إلى متفرجين بالاتكال المطلَق على المرتل والجوقة؟ يجب أن نعلّم بعضنا البعض كيف نصلي وأن نصلي معاً.

يجب أن نشجع المشاركة الجماعية أكثر. يجب أن نختبر العبادة ليس فقط كخدم رائعة إنما أيضاً كأحداث صلاة نابضة بالحياة وقادرة على التغيير. عطية العبادة الحقيقية تتفعّل عندما نخرج من القداس، على صورة الذهبي الفم، كأسود تنفث النار مستعدين للقيام بعمل الرب.

4.  الأرثوذكسية حياة حقيقية.

ظهر في العقود الأخيرة كتب عديدة حول الروحانية الأرثوذكسية تطرقت إلى مواضيع الصلاة، التوبة، التواضع، إنكار الذات، القداسة، والاتحاد بالله. لكن الوحانية الحقيقية ليست في الكتب إنما في الحياة الشخصية حيث تًطلَق نعمة الله في العمل ومن خلاله.

نحن نصلي بالصلاة، نتوب بالتوبة، نغفر بالغفران، نحب بالمحبة وبالتالي نُدخِل الله إلى حياتنا. التحدي هو في إتمام ما يسميه القديسون “الحياة روحياً” على عكس مغريات هذا العصر: الدهرية، الإسمية[3]، الاكتفائية، والشكلية.

الشكلية هي التديّن بدون روح. الاكتفائية هي المسيحية الفاترة لما يناسب راحتنا واهتماماتنا الذاتية. الإسمية هي أن تكون مسيحياً بالإسم فقط، خدعة هائلة. الدهرية هي عبادة آلهة هذا العالم كالشهرة، الربح، السلطة، واللذة.

الأصالة تعني أن أسمح للمسيح بأن يحوّل حياتي الشخصية إلى سر وحياة رعيتي إلى عليقة محترقة لنعمة الله وقداسته ونوره.

5.  الأرثوذكسية شهادة.

يذكر في مثل الوزنات أن السيد لم يُعطِ خدّامه وزنات فقط بل أمّنهم على ممتلكاته (متى 14:25). الله جعلنا أمناء على صورته ومثاله، صفات العقل، العمق الأخلاقي، الإبداع، والسلطة لأن نكون أجراءه في الخَلق. هو أيضاً كَسَر رباطات الخطيئة وتالموت بتجسد المسيح وعطية الروح، معطياً القوة للكنيسة لتكون نوراً لكل العالم من خلال الإنجيل والخدمة والبشارة. على هذا الضوء، الأرثوذكسية هي ملء كل هذه الأشياء لمجد الله.

رسالة الأرثوذكسية هي رسالة محبة، رِفق، فرح، عطاء، وروح مسكونية؛ ليس فيها أي شيء من الدفاعية، ضيق الأفق، المذهبية، تبرير الذات، الانتصارية، أو السلبية نحو الآخرين.

نستطيع كأرثوذكسيين أن نشهد لملء سر المسيح، محترمين معتقدات الآخرين وأديانهم، لطفاء نحو كل الناس وخلفياتهم، وذلك بتفعيل عطايا الأرثوذكسية في حياتنا الشخصية أولاً. لإعداد طريق الرب وجعل سبله قويمة، يجب أن نفكّر بأشياء جديدة ونصنعها بقدر ما نفكر بالأعمال الدورية ونصنعها، إنما بإيمان أكبر وتركيز وحمية وثبات واستقامة وأصالة.

إذاً، بإمكاننا أن نكون واثقين أيضاً وأيضاً أن الرب سوف يأتي في وسطنا، سرياً وبقوة، ليقودنا إلى مستقبل أروع من “ما لم تَرَ عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال انسان ما أعده الله للذين يحبونه” (1كورنثوس 9:2).

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

——————————————————————————–

[1] إشارة إلى وضع إيقونة الضابط الكل في قبة الكنيسة وهي ميزة للكنائس الأرثوذكسية المرسومة على النمط البيزنطي. (المترجم)

[2] الذين يتحوّلون إلى الأرثوذكسية من أصول مختلفة كاثوليكية أو بروتستانتية أو أنكليكانية. (المترجم)

[3]  الإسمية أو الإسمانية nominalism مبدأ فلسفي يقول بأن المفاهيم المجردة ليس لها وجود حقيقي بل هي مجرد  أسماء لا غير. الاكتفائية minimalism  الاكتفاء بالحد الأدنى من شيء ما.  الشكلية formalism أو التمسك الشديد بالأشكال الخارجية. (المترجم)

Leave a comment