الالتزام المسيحيّ
الأب نقولا مالك
رُبَّ سائِلٍ: لماذا أَلْتَزِمُ بالحياةِ المسيحيّة؟ لماذا أُرْهِقُ نفسي بالتقيُّدِ بِوصايا الإنجيل؟ لماذا أُزعجُ نفسي بحضور الخِدَمِ الكَنَسِيّة؟ …
هذا السُّؤالُ ينطلقُ مِن خلفيَّةٍ معيَّنة: أَنَّ علاقةَ الإنسانِ بالله علاقةٌ حقوقيّة. أي أنَّ الله يتطلَّبُ مِن الإنسان واجباتٍ معيَّنة؛ وأنّ هذا الأخيرَ مُرغَمٌ على ذلك لإرضاءِ العِزَّةِ الإلهيّة. مُرغَمٌ على فِعلِ ما لا يُرِيدُه.
والحقيقةُ أنَّ علاقةَ الإنسانِ بالله مبنيّةٌ على أساسٍ مختلفٍ تمامًا، ألا وهوَ أساسُ المحبّة.
اللهُ أحبَّنا أَوَّلاً. هُوَ بادَرَ بالمَحَبّة:
– الخلقُ الأوّلُ فِعلُ محبّة: بِهِ جَعَلَنا اللهُ نُشارِكُهُ نعمةَ الوُجُود.
– إرسالُ الأنبياءِ فِعلُ محبّة: إِذِ افتَقَدَنا اللهُ في ضعفِنا وغُربَتِنا.
– التّجسّد فعلُ محبّة: وذلكَ لمّا تَنازل الإلهُ إلَينا بنفسِه، لكي يُعِيدَ خَلقَنا.
لا عُذرَ لَنا في عَدَمِ التّجاوُبِ مع هذه المحبّة: “لَو لَم آتِ وَأُكَلِّمْهُمْ لم تَكُنْ لَهُم خطيئة، وأمّا الآنَ فليسَ لهم عُذْرٌ في خَطيئَتِهم” (يو 22:15). لا بَل نحنُ مُحتاجُونَ إلى التَّجاوُبِ مَعَها، إذْ لا خَلاصَ لَنا إلاّ بها.
مِنْ هُنا كانَ الالتِزامُ المسيحيُّ عمليَّةَ تَجاوُبٍ مَعَ مَحبّةِ الله، لا مُجَرَّدَ واجباتٍ أَو فُرُوض.
فَما هي مَجالاتُ هذا الاِلتِزام؟
مجالاتُ الالتِزامِ المسيحيّ:
– الصّلاةُ والصَّوم: الانتِظامُ في مُمارَسَةِ العبادة، والاشتراكِ في الأسرارِ داخلَ الكنيسةِ في مَواعِيدِها المُحدَّدة.
– العقيدة: تثبيتُ المعلوماتِ المتعلّقةِ بالعقيدة المسيحيّةِ الأرثوذكسيّة، وإزالةُ كلِّ شَكّ.
– السُّلوكُ المسيحيّ: مُراقَبةُ السُّلُوكِ، ما ينبغي أن نَقُولَهُ ونَعملَهُ، وَما لا يَنبغي أن نَقُولَهُ وَنَعمَلَه.
مدى الارتباطِ المطلوب:
عليكَ أوَّلاً أن تُحَدِّدَ موقِفَكَ مِنَ المسيح: “أَتُحِبُّني؟” (يو 15:21). فإذا كانَ جوابُكَ إيجابًا، لا يُمكِنُكَ أن تُحِبَّ بَعضَ الحُبِّ، بل عليكَ أن تترُكَ كُلَّ شيءٍ وتتفرَّغَ للمسيح:
“فَنَظَرَ إليهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ، وَقالَ لَهُ: واحِدَةٌ تَنقُصُكَ. اِذهَبْ وَبِعْ كُلَّ ما لَكَ وَأَعْطِهِ للمَساكِينِ، فَيَكُونَ لَكَ كَنزٌ في السَّماء، وَتَعالَ اتْبَعْني” (مر 21:10).
“اِتْبَعني، وَدَعِ المَوتى يَدْفِنُونَ مَوتاهُم” (مت 22:8).
وَعَلَيكَ أَنْ تُحِبَّ المسيحَ قَبْلَ كُلِّ شيءٍ، وَفَوقَ كُلِّ شيء:
“مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَو أُمًّا أَكْثَرَ مِنّي فَلا يَسْتَحِقُّني، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَو بِنتًا أكثرَ منّي فَلا يستحقُّني” (مت 37:10).
متى جَعَلْتَ المسيحَ، في حَياتِكَ، أَهَمَّ مِن كُلِّ إنسانٍ وأهمَّ مِن كُلِّ شيءٍ، حتّى مِنَ الحياةِ نفسِها، حِينَئِذٍ يَنكَشِفُ لَكَ الحَقُّ تلقائيًّا، مُكافَأَةً على الْتِزامِكَ: “إِنْ ثَبَتُّمْ في كَلامي فَبِالحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تَلامِيذِي، وَتَعرِفُونَ الحَقَّ، وَالحَقُّ يُحَرِّرُكُم” (يو 31:8-32)
النّتيجة: معرفةُ الحقّ الّذي في المسيحِ ليست شيئًا نَظَرِيًّا، بل هِيَ قُوَّةٌ فائقة، قوّةٌ مُحَرِّرة، يَفُوقُ سُلطانُها قُوَّةَ الفعلِ والمنطقِ والإرادةِ والطَّبْعِ والعادة. فَقُوّةُ الحقّ الّذي نَنالُهُ مِن المسيحِ هِيَ قُوَّةُ حَياةٍ تتحدّى الموت.
بِهذه القُوَّةِ واجَهَ الشُّهَداءُ الموتَ، مُستمدِّينَ القوّةَ مِن معرفةِ الحقِّ الّذي في المسيحِ الّذي أَحَبُّوه. وَلَمْ يَدْرِ مُعَذِبُوهُم أَنَّ الحَقَّ الّذي فِيهِم حَرَّرَهُم مِن كُلِّ ارْتِباطاتِهِم بالدُّنيا، وَمِنَ الخَوفِ مِنَ الموت، فَكانَ دَمُهُم شَهادَةً لِصِدْقِ اخْتِبارِهِم الرُّوحِيّ.
مَجالانِ للشَّهادة: كَما أَنَّ الإنسانَ الطّبيعيّ يُدافِعُ عَن حَياتِهِ؛ كذلكَ بالأحرى يَنبغي للإنسانِ الرُّوحِيِّ أن يَكُونَ على استعدادٍ للدِّفاعِ عن إيمانِه، عَبْرَ شَهادَةٍ مُزْدَوِجَة:
– شَهادةٍ ضِدَّ الباطل، أي ضِدَّ كُلِّ ما مِن شَأنِهِ أَن يَنْزِعَ عنه هذا الحَقَّ.
– شَهادةٍ أَمامَ كُلِّ مَنْ يُرِيدُ أن يَعرِفَ الحَقَّ، أو عِندَهُ استِعدادٌ لِقَبُولِه.
أَلا أَهَّلَنا الرَّبُّ أَن نَكُونَ شُهُودًا مُخْلِصِينَ لِمَحَبَّتِهِ وَمَجْدِه. آمين.
حديث بمناسبة لقاء فرع أميون لحركة الشّبيبة الأرثوذكسيّة، في كنيسة مار سمعان – أميون، الجمعة 23/12/2005