موائد المحبة

موائد المحبة

الأب أنطوان ملكي

عن نشرة الكرمة

 

      في الرسائل، كما في النصوص المسيحية القديمة، إشارات عديدة إلى موائد المحبة التي كانت تُسمّى “أغابي”، أي محبة. فالرسول بولس في نشيد المحبة الوارد في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس يقول “وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئًا” مشيراً إلى عادة قديمة كانت منتشرة بأن تُقام موائد مشتَرَكة هدفها الأول أن يطعِم الأغنياءُ الفقراء. من هنا أنّ الرسول في الرسالة نفسها (20:11-34) يحذّر الكورنثيين من أنّ مجرّد الاجتماع للأكل ليس عشاءَ الرب، أي المناولة، ولا ينبغي بهم أن يكتفوا بهذه الموائد بل أن يأكلوا في بيوتهم. فالظاهر، بحسب مفسّري الرسائل، أنّ العادة كانت أن يجلب كلّ واحد طعاماً من بيته ليأكلوا معاً، ما أدّى مع الوقت إلى تحوّل هذه الممارسة إلى مجرّد نشاط اجتماعي قوامه الأكل والشرب وصار الأغنياء يتباهون على الفقراء، ما أدّى إلى شقاقات استدعت أن يكتب الرسول ما كتب. بدورهما الرسولان بطرس (الرسالة الثانية 13:2) ويهوذا (12) يشيران إلى اشتراك الفاسقين والزناة في هذه الموائد وكأنّهما بكلامهما يضعان حدوداً أو قوانين لتنظيمها.
      ومن بعد الرسل، تطرّق إلى الكلام عن موائد المحبة قديسون وكتّاب كنسيون عديدون، وذلك لأنّ هذه الممارسة كانت عرضة للانحراف في عدّة مناسبات وأشكال. فالقديس إغناطيوس الأنطاكي يشير إليها مشدداً على عنصر المحبة فيها أكثر من الأكل والشرب. ترتليانوس يشير إليها متحدّثاً عن فصلها عن القداس الإلهي والمناولة. والظاهر تاريخياً من تلك الفترة أنّ موائد المحبة صارت تُقام مساء اليوم الذي يُقام فيه القداس صباحاً. إقليمس الإسكندري ميّز بين مائدة المحبة والموائد ذات الطابع المترَف وانتقد البذاءة التي كانت ترافقها أحياناً. أمّا أوغسطين فيشير إلى أنّ هذه العادة التي كان يعرفها في بلاد منشئه، في أفريقيا الشمالية، كانت قد توقّفت في إيطاليا قبل وصوله إليها. لهذا، فإن القوانين الكنسية تطرّقت إلى هذه الموائد وحذّرت من تحويلها إلى مناسبات للترف أو للطمع أو للشراهة، فمنعَت على الإكليروس أن يأخذوا منها إلى بيوتهم كما منعَت إقامتها في الكنائس (أي ضمن مبنى الكنيسة)، وشددت على ضرورة الحفاظ على طابع المحبة وصورتها وعدم تحويل هذه الموائد إلى مجرّد مناسبات اجتماعية.
      إن هذه العودة إلى التقليد في ما يتعلّق بموائد المحبّة ضرورية بسبب ضعف النفس البشرية. فهذه العادة منتشرة اليوم في كنائسنا، حتّى أن بعض الرعايا حوّلتها إلى نشاط دوري إذ تجتمع الرعية بعد كلّ قداس وتتشارك في فنجان قهوة أو أكثر. من هنا ضرورة التنبّه إلى أن هذا الاجتماع المبارَك والمطلوب في هذا الزمان المثقَل بالأعمال والانشغالات، ينبغي ألاّ يتحوّل إلى لقاء اجتماعي يغني الإخوة عن زيارة بعضهم البعض، ولا أن يكون فرصة للتباهي أو للتسابق في ما يحضّر هذا الأخ أو هذا المجلس، بل أن يكون لقاء محبة وافتقاد، للفقير فيه نفس مرتبة الغني وموقعه وكرسيه وكرامته. ومن هنا أيضاً ضرورة أن لا تصير هذه الموائد هدفاً بذاتها خاصةً متى كانت الظروف غير سانحة لأسباب مادية أو غير مادية. ولأنّه لا يجوز تقييم هذه الموائد بمقاييس المجتمَع، ينبغي ألاّ تُقام في أوقات لا تراعي الأصوام والترتيبات الكنسية. فالكنيسة تعلّم عن الصوم استعداداً للمناولة، لذا لا يليق إقامة موائد المحبة بعد غروب السبت أو العيد فيما يُقام القداس في اليوم التالي، كما لا يليق بألاّ تُراعى الأصوام في أنواع المآكل المقَدَّمة.
      يدعونا الرسول بولس لأن تكون أعمالنا بلياقة وترتيب. وبداية اللياقة هي احترام تعليم كنيستنا وتقليدها، وما سبب وجود القوانين في الكنيسة إلاّ لوضع الترتيب الذي ينبغي اتّباعُه في كلّ شيء، وخاصّة في أمور الجماعة ومنها موائد المحبة.

Leave a comment