المسيح والمسألة الإجتماعية

المسيح والمسألة الإجتماعية

الأرشمندريت جورج كابسانيس

بقدر ما يتطهر الناس من الأهواء، تزداد قدرتهم على التواصل الحقيقي مع الله ومع غيرهم من الناس.

إن الذين يتبنّون وجهة نظر رومانسية وخارجية عن الشخص البشري ينقلون الشرّ من الشخص إلى المجتمع، وهذا هو سبب إعلانهم أن أي تحسن في المجتمع سوف يجلب معه تحسناً في الناس. ولكن، من دون إنكار أثر المجتمع على الناس، نحن الأرثوذكس نعطي الأفضلية لتحول الشخص من خلال التوبة والنعمة الإلهية.

إنه لخطأ عظيم أن نرغب بتغيير المجتمع من دون السعي أولاً لتغيير أنفسنا. ومن السذاجة، على الأقل، أن نعتقد بأن التغيير في عدد قليل من المؤسسات الاجتماعية سيحدِث أيضاً تغييراً في الناس إن لم يتوبوا.

الأشخاص المرضى يخلقون مجتمعات مريضة والمجتمعات المريضة تجعل المرضى أكثر سوءاً. إن محاولة علاج الأمراض الاجتماعية من دون علاج المرض الشخصي هو ببساطة تحويل للمشكلة، إنه رفض لقبول مسؤوليتنا الشخصية، تهرّب من التوبة، خضوع لأنانيتنا، إحجام عن رؤية أنفسنا كما نحن حقاً. من المهم أن نتذكّر أن الرب جعل التوبة الشخصية شرطاً لدخول مملكته.

كما أنه لا ينبغي بنا أن نتجاهل عمل الشيطان في تفكيك المجتمعات والأفراد وفي انتشار الشرّ عموماً. إن التبسيط الإنساني للمشاكل الاجتماعية ينكر وجود الشيطان. ومع ذلك، في الإنجيل كما في الخبرة المسيحية، فإن مدى مشاركة الشيطان النشطة في الحالات الشخصية والاجتماعية واضح، على قدر الحاجة إلى الجهاد ضده ونبذ ورفض الأرواح الشريرة وطردها. إن التعرّف على الأرواح هو موهبة عند بعض الكهنة الرهبان والأشخاص العاديين، لاستخدامها لمنع المسيحيين من الوقوع في الفخاخ التي وضعها لهم الشرير، عندما يظهر متخفياً شكل الخير.

لقد ركّزنا على قدرة القوى المناهضة للإفخارستيا والمعادية للمجتمع لا من أجل إثبات استحالة التغلب عليها، بل لإظهار أن على أنّ المسيحيين المجاهدين أخذها بعين الاعتبار. لقد هزم المسيح هذه القوى بقوته، وبدعم النعمة الإلهية يمكن للمسيحيين المشاركة في هذا النصر.

في هذه النقطة يختلف نضال المسيحيين الاجتماعي عن كل جهاد آخر. إن المجتمع الذي ترغب النظم الإنسانوية (المثالية والمادية) في إنشائه يتمحور حول الإنسان. يتمحور مجتمع المسيحيين حول الرب المتجسد. إن الوسائل التي يستخدمها الإنسانوي هي بدورها تتمحور حول الإنسان؛ وسائل المسيحيين محورها الله. أساس الاشتراكية المسيحية هو التواضع، بينما في أساس النسخة الإنسانية نجد العُجب والاكتفاء الذاتي واستبعاد الله. إن هذا هو تكرار لخطيئة آدم: السعي إلى الألوهية بدون الله.

قد لا يكون من قبيل المصادفة أن هذين النظامين الإنسانويين (الرأسمالية والشيوعية) وآثارهما الاقتصادية، تكمن أصولهما في الغرب الهرطوقي، وقد سبقهما الدين ذو المركزية الإنسانية في عصمة البابا المعصوم وعقيدة انبثاق الروح القدس. وهذا ينبغي أن لا يغيب عن فكر الأرثوذكسيين والأرثوذكسيين السابقين الذين بتهوّر يهملون تقليدنا الأرثوذكسي، بالعادة من الجهل، رغبة بمشايعة النظم الغربية.

حقيقة أن المجتمع غير المسيحي هو إنسانوي وحسب يحرمه من إمكانية إحلال السلام في نفوس الناس، لأنه يمنع عنا المصالحة مع أبينا السماوي، فلا يبقى إمكانية لأن يكون هو المركز. لنتذكّر كلمات القديس أوغسطين، التي تعبّر عن تجربة الإنسان: “أنت جعلتنا، يا رب، لنفسك، وقلبنا لن يجد الاستقرار حتى يجد الراحة معك“.

إن الأنظمة الاجتماعية الإلحادية تساعدنا على إيجاد حلول لبعض المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، ولكن ليس لندخل في علاقة حقيقية وكبيرة مع الله والناس الآخرين. إنها لا تجيب فعلياً عن أسئلتنا الوجودية، ولا سيما عن مسألة الموت. يستقرّ الناس بشكل مريح جداً من أجل الموت. وعلى الرغم من أن هذه الأنظمة، وخاصة الماركسية، تتميز بمسيحانية علمانية قوية، إلا إنها لا تقود في الحقيقة من الموت إلى الحياة، وبالتالي فهي تخلق أناساً مأساويين ومن دون أمل. في بعض الأحيان يكون النشاط الإنساني أو الريادي المكثف نتيجةً لمحاولة نسيان مشكلتنا الأساسية، وهي الموت، لتحريرنا وإيصالنا من القلق والفراغ والملل التي تَسِم الحياة المنفصلة عن مصدرها، أي الإله الثالوثي.

لهذا السبب، وبالرغم من أفضل النوايا لدى الكثيرين من الناس النبلاء الذين جاهدوا وضحّوا بأنفسهم من أجل مثلهم، فإن هذه النظم تعارض الإنسان بشكل أساسي. باسم مجتمع أفضل وأكثر عدلاً، فإنها تشكّل عقبة أمام شركتنا الكاملة مع الله، الذي في النهاية، هو الشيء الوحيد الذي يرضي ويكمّل طبيعتنا. إنهم يقصروننا على الأبعاد المقيدة لعالم مغلق، ميكانيكي، غير شخصي ومادي، يمنعون عنّ رؤية السماء. أيّ معنى تتخذه الحياة بالحقيقة إذا كنّا حيوانات متطورة ولسنا صوراً لله؟ إذا أدِنّنا للموت دون أي إمكانية للمشاركة في حياة الله الأبدية؟