المثال النسكي والعهد الجديد

المثال النّسكي والعهد الجديد

تأملات في نقد اللاهوت الإصلاحي

الأب جورج فلوروفسكي

 

ترجمة الأب أنطوان ملكي

مقدمة المترجم

الأب جورج فلوروفسكي هو من أهمّ اللاهوتييّن الأرثوذكسييّن في القرن العشرين. مجموعة أعماله الكاملة التي تغطي كافة أوجه الدراسات اللاهوتيّة الأرثوذكسيّة هي من كنوز الأرثوذكسيّة المعاصرة. جاءت كتاباته بلغة علميّة رفيعة المستوى، وقالبٍ آبائي يثبت أنّ تقليد الكنيسة متحرِّكٌ إذا كان مَن يحمله حياً متحرِّكاً. إنّ أعمال الأب فلوروفسكي تجعل منه مرجعاً لا غنى لنا عنه لا سيّما وأنه عاش وعمل في فترة تميّزت بأكثر من أمر، منها: إعادة إحياء الأدب الرهباني، وبداية العمل المسكوني المنظّم من خلال مجلس الكنائس العالمي، وقبله من خلال مؤتمر النظام والإيمان.

وهذه المقالة هي من مجموعة أعمال جورج فلورفسكي، المجلد العاشر، الذي يحمل عنوان: الآباء الروحيّون والنّسكيّون البيزنطيّون (فادوز: Buchorvertriebsantait ، 1987)، الصفحات 17 – 59. وقد كتبها الأب فلوروفسكي في الأربعينيات ردّاً على كتاب أندريس نيغرن “المحبة والعشق” (Agape and Eros).

أندريس نيغرن (Andres Nygren) هو أسقف لوثري وأول رئيس للإتحاد اللوثري العالمي (World Lutheran Federation) في العام 1947. هو ينتمي إلى عائلة محافظة مؤلفة من أربعة أولاد جميعهم كهنة لوثريون. أسّس مع بعض زملائه في جامعة لاند في السويد ما سمي باللاهوت اللاندي (Lundensian Theology). علاقته بالأب فلوروفسكي بدأت في مؤتمر الإيمان والنظام في لوزان عام 1927. وتوطدت عندما كان أستاذاً زائراً في إيفنستون، ومن خلال عملهما في مجلس الكنائس العالمي. نيغرن هو من أصحاب الدعوة إلى مقاربة علميّة للأمور العقائديّة والأخلاقيّة. كتب كتابه “المحبة والعشق” في العام 1936. وفيه يقدّم تعليم لوثر بصياغة أخرى، خاصةً في ما يتعلّق بالخلاص بالإيمان، وتتجلّى فيه خطوط فكر نيغرن العريضة، التي يمكن تلخيصها في أنّ الإنسان لا يمكنه الفرار من المطلَق.

ناقش الأب فلوروفسكي ما طرحه نيغرن في كتابه. وهذه المقالة تُظهر أنّ خطأ نيغرن يعود إلى فكر الإصلاح اللوثري الذي يمقت النّسك ويؤمن بالخلاص بالإيمان من دون الأعمال، ويحاول أنّ يثبت هذه الأمور من الكتاب المقدّس. فلوثر وضع رسالة يعقوب في منزلة دون رسائل بولس لأنها تشدد على الأعمال. لهذا يُظهر الأب فلوروفسكي في هذه المقالة أنّ النّسك ليس ابتداعاً رهبانياً بل أنّ السيد هو مَن يدعو إليه، وبولس الرسول يثبت هذه الدعوة، كما غيره من كتّاب الرسائل في العهد الجديد. إلى هذا، يرى الأب فلوروفسكي أنّ الرهبنة هي من أهم الاختلافات بين فكري الأرثوذكسيّة والإصلاح. من هنا أنّ دفاعه عن النّسك، خلافاً لما قد يوحي به العنوان، ليس دفاعاً عن الرهبنة بل عن النّسك المطلوب من كلّ المؤمنين.

هذه المقالة تهمّ الأرثوذكسيين لأسباب عديدة، فهي تساهم في إلقاء الضوء على خطأ خط تفسيري أصله بروتستنانتي ولكنّ تأثيره في الكنيستين الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة يتزايد. سبب هذا الخطأ اعتبار أنّ الرسول بولس هو الوحيد الذي فهم الرسالة المسيحيّة، وأن قراءة العهد الجديد يجب أن تكون من خلال فهم فكره.

أخيراً، المقالة ليست دفاعيّة محضة، ترد على نكران البروتستانت للنّسك كونه من الأعمال، بل هي تسلّط الضوء على أهميّة النّسك في حياة كلّ منا، وتظهر الأساس الكتابي لهذا النّسك. هذا الموضوع بالغ الأهميّة، كوننا نعيش اليوم في عالم كثرت روحانيته وقلّ نّسكه، وفي زمن كثر فيه الكلام على الروحانيات وندر فيه الروح.

لا بد أن أشكر الذين عملوا على أن تأتي هذه الترجمة في أفضل حال، وأخص منهم قدس الأب نقولا مالك والأخت سعاد رزوق. راجياً أن تؤدي هذه المقالة الخدمة المرجوة ومستميحاً العذر عن كلّ خطأ أتحمل مسؤوليته.

المثال النّسكي والعهد الجديد

إذا كان المثال الرهباني هو الاتحاد بالله من خلال الصلاة والتّواضع والطاعة والإقرار المستمر بالخطايا الطوعيّة والكرهيّة، ومن خلال التخلي عن قيم هذا العالم، كما من خلال الفقر والعفة ومحبة الجنس البشري ومحبة الله، فهل هذا المثال مسيحي؟ إنّ مجرد طرح سؤال كهذا يبدو غريباً وغيرَ مألوف عند البعض. ولكنّ تاريخ المسيحيّة، خاصةً الموقف اللاهوتي الجديد الذي أُحرز كنتيجة لحركة الإصلاح، يفرض سؤالاً كهذا ويطلب جواباً جدياً. فإذا كان المثال الرهباني هو الحصول على حريّة روحيّة مبدعة، وإذا كان المثال الرهباني يُدرك أنّ الحريّة تحصل فقط في الله الآب والله الابن والله الروح القدس، وإذا أكّد الفكر الرهباني أنّ السبيل كي تصبح حراً بحسب علم الكائنات والوجود هو أن تصبح عبداً لله. هذا السبيل الذي فيه تصبح الإنسانيّة جمعاء متأنسة تماماً لأنّ الوجود المخلوق للبشريّة متوقف على الله، وهو بذاته محاطٌ على الجهتين بالعدم، إذاً هل هذا المثال مسيحي؟ هل هذا مثال كتابي من العهد الجديد، أم أنّه تشويه للمسيحيّة الحقيقيّة وعبوديّة للأعمال الرهبانيّة القديمة كما يدّعي مناهضو الفكر الرهباني؟

أهميّة البريّة

ذهب ربّنا إلى البريّة عندما كان على وشك أن يبدأ رسالته. لقد كان لربّنا خيارات عديدة، ولكنه اختار أو بالأحرى “كان يُقتاد بالروح” إلى البريّة. من الواضح أنّ هذا العمل ليس بلا معنى وليس اختيار نوع المكان من غير أهميّة. وهناك في البريّة انشغل الربّ في معركة روحيّة إذ “صام أربعين يوماً وأربعين ليلة”. لقد أضاف الإنجيلي مرقس أنّ ربّنا “كان مع الوحوش”. ربّنا الإله الإنسان كان إلهاً حقاً وإنساناً حقاً. وبمعزل عن عمله الخلاصي الذي ينفرد به وحده، فهو يدعونا كي نتبعه. إنّ إتبّاع ربّنا يشمل كلّ نواحي حياتنا وليس فقط اختيار بعض النواحي النفسيّة المقبولة من حياته وتعاليمه. يجب علينا أن نتبع ربّنا في كلّ شأن ممكن. الذهاب إلى البريّة هو إتبّاعٌ لربّنا. من المثير للاهتمام أنّ ربّنا قد رجع إلى البريّة بعد موت القدّيس يوحنا المعمدان. إنّ هذا لَسَببٌ واضح: “فلما سمع يسوع (بموت يوحنا المعمدان) انصرف من هناك في سفينة إلى موضع خلاء منفرداً”.

القدّيس أنطونيوس في ذهابه إلى البريّة أخذ بالفعل ربّنا مثالاً وتبعه. هذا لا يُنقص مطلقاً من عمل ربّنا الشافي والفريد، ولا يجعل من ربّنا الإله، أي الإله-الإنسان، مجرد مثال، إذ إنّ ربّنا قد علّم وأطلق أمثالاً إلى جانب عمله الخلاصي الذي لا يمكن أنّ يتم إلا به.

فالقدّيس أنطونيوس بذهابه إلى البريّة يسير على خطوات ربّنا، ويطأ أرضاً قد سبق أن قُصِدَت وطُبعت من قَبْله كمكان خاص بالصراع الروحي. إذاً في البريّة يوجد الخاصيّة والنموذج. أما في تلك المناطق الجغرافيّة التي تخلو من البراري، فتوجد أمكنة تشبه أو تقارب نوع الأمكنة التي يرمز إليها بكلمة “بريّة”.

فالبريّة هي تلك الأمكنة التي تمنح العزاء والعزلة لقلب الإنسان. إنّها المكان الذي يضع قلب الإنسان في حالة الوحدة، أيّ الحالة التي تؤدي إلى التأمل والصلاة والصوم والتفكير في وجودنا العميق وفي علاقتنا مع حقيقة الله الجوهريّة. وعلاوة على ذلك، إنّه المكان حيث الحقيقة الروحيّة أكثر قوة وحيث تتكثف الحياة الروحيّة، وفي الوقت نفسه حيث تصبح القوة المعاديّة للحياة الروحيّة أكثر سيطرة. البريّة أرض وساحة قتال، ولكنها روحيّة. إنّ ربّنا هو المتقدم وليس القدّيس أنطونيوس. يقول ربّنا “هؤلاء هم الذين زرعوا بين الشوك، هؤلاء هم الذين يسمعون الكلمة وهموم هذا العالم وغرور الغنى وشهوات سائر الأشياء تدخل وتخنق الكلمة فتصير بلا ثمر”. فالبريّة أو أيّ مكان مثلها يوقف هموم أو قلاقل هذا العالم ومخادعه وغش الغنى الأرضي. إنّها تقطع الفرد تماماً عن الانهماك بالشؤون الدنيويّة. وبهذا هي تحوي في ذاتها سبباً روحياً قوياً يضعها بين طرق الكنيسة الروحيّة، لا كسبيل وحيد، ولا كسبيل لكلّ فرد، بل كطريق واحد كامل حقيقي للحياة المسيحيّة.

إنجيل متّى

إن ربّنا في إنجيل متّى (16:5) هو الذي استعمل عبارة “الأعمال الحسنة”: “فليضئ نوركم هكذا قدام الناس كي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات”. وبحسب سياق الكلام، فهذه “الأعمال الحسنة” قد وُصفت في نص التطويبات السّابق “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض. طوبى للجياع والعطاش للبر لأنهم سيشبعون. طوبى لأنقياء القلوب فإنهم يعاينون الله”. ألا يكون جزءاً متمماً للهدف الرهباني أن يصبح المرء وديعاً وأن يجوع ويعطش من أجل البر ويصبح نقياً في القلب؟ هذا بالطبع يجب أن يكون هدف كلّ المسيحيين ولكنّ الرهبنة هي التي تجعله جزءاً تاماً من حياتها النّسكيّة، لذا لا يمكن إقصاؤه بأيّ شكل. أليست التطويبات أكثر من مجرد تعابير منمّقة؟ أليست التطويبات جزءً من وصايا ربّنا؟ إنّ ربّنا في متى (19:5) يعبّر عن فكرة عميقة المعنى، بالأحرى عن تحذير: “فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلّم الناس هكذا يُدعى أصغر في ملكوت الله”. في هذا السياق، ظلَّ ربّنا يعمّق معنى الناموس القديم عبر دلالة جديدة روحيّة تخترق النفس. إنّه لم يلغِ أو يبطل الناموس بل مدّده إلى أقصى الحدود المنطقيّة والوجوديّة بدفعه معناه الروحي إلى أعماق الوجود الداخلي للجنس البشري.

“قد سمعتم أنّه قيل للقدماء… أما أنا فأقول لكم…” الآن مع تعميق الحدود الروحيّة للناموس، القديم يبقى كونه الأساس، ولكنّ حقيقته الروحيّة تشير إلى مصدره. “لا تقتل” تصبح مرتبطة بقوة بـ”لا تغضب”، “وأما أنا فأقول لكم إنّ كلّ مَن يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم”. والعمل الخارجي لم يعد النقطة المحوريّة الوحيدة بل المصدر والنيّة. الدافع يجب أن يعتبر الآن كالتربة التي منها ينبثق العمل الخارجي. على الجنس البشري أن يحترس ويحمي ويضبط وينقي العواطف ومواقف الغضب، وفي هذا تُعتبر تلك المواقف في ضوء العمل الخارجي للقتل أو الجريمة. لقد وصل ربّنا إلى أقصى أعماق القلب البشري، واستهدف مصدر العمل الخارجي في قوله “لا تزنِ وأما أنا فأقول لكم ان كلّ مَن ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه”. فمن المنظار الروحي، الشخص الذي لا يفعل خارجياً ولكن يشتهي داخلياً هو بنفس القدر عرضة لواقع الزنى. “سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك وأما أنا فأقول لكم أحبّوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات”.

قصور النقد لمؤلفه أندريس نيغرن

في هذا الجزء من المقالة يناقش الأب فلوروفسكي كتاب أندريس نيغرن ويبيّن فيه أن مواقف الأخير هي تكرار لمواقف لوثر القائمة على موقف “الكتاب وحده Sola Scriptura” الذي يعيد كل شيء إلى الكتاب وإلى ضرورة تفسيره. ومن هذا الموقف نشا تشديد البروتستانت على الإيمان جون الأعمال وبالتالي من هنا نشأ رفضهم للرهبنة التي تقوم على الأعمال والإيمان معاً. ويرى الأب فلوروفسكي أن في هذه النقطة يكمن الخلاف الأكبر بين الأرثوذكس والبروتستانت في الحوار المسكوني ويدعو إلى أن تُعلَن الخلافات التي تفرّق الكنائس وتُبحث بصراحة واحترام ودقة. وقد اقتطعنا هذا الجزء من المقال في صفحة منفصلة لمَن يرغب في الاطلاع عليها أن ينقر على العنوان في الأعلى.

الكمال والعطاء والصلاة والصوم والعفة

منذ القرون الأولى للمسيحيّة، كانت كلمة “الكمال” مطروحةً في الآداب الرهبانيّة والنّسكيّة كفكرة مُتداوَلة. فالراهب يتوخى الكمال، وهو يريد أن يصبح مترسّخاً على الطريق التي تؤدي إلى الكمال. فهل هذا ناتجٌ عن الرهبنة؟ أي، هل الميول الرهبانيّة والنّسكيّة في المسيحيّة الأولى هي التي ولّدت فكرة الكمال، التي أوجدت فكرة الصراع والجهاد الروحيّ؟ لا، بل ربُّنا هو الذي بثّ غايّة الكمال في صميم بنية الفكر المسيحي الأوّل، لا الرهبان. نقرأ في إنّجيل القدّيس متّى (8:5) أنّ ربّنا يوصي: “فكونوا أنتم كاملين كما أنّ أباكم الذي في السماوات هو كامِل”.

لقد حَوَت الحياةُ الرّهبانيّة والنّسكيّة التقليديّة بينَ أعمالها الإحسان والصَّلاة والصَّوم. هل فرضت الرهبنةُ هذه الممارسات على المسيحيّة الحقيقيّة، أم أنّها أُدرِجَت في عداد الحياة الرهبانيّة والنّسكيّة عن طريق المسيحيّة الأصليّة؟ ففي إنّجيل القدّيس متّى، أنَّ الذي أطلق فكرة التَّصَدّق والصّلاة والصّوم من جديد هو ربُّنا ومخلصنا. لقد كان بمقدوره أن يُبطل هذه الممارسات بسهولة. لكنّه، بدلاً من إبطالِها، نقّاها وأعطاها المكانة الصّحيحة في الحياة الروحيّة، وهي أن يُعمَل بهذه الممارسات من دون حُبّ الظُهور والرياء وطلب المجد. إنّ ما يوصي ربُّنا به هو رؤيّةٌ روحيّةٌ جيّدة. “إحتَرزوا من أن تصنعوا صدقَتَكم قدام الناس لكي ينظروكم. وإلا ليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات”(1:6). “فمتى صنعتَ صدقةً فلا تصوِّت قدّامَك بالبوق كما يفعل المراؤون في المجامع وفي الأزقة لكي يُمجَّدوا من الناس. الحقَّ أقول لكم إنّهم قد استوفوا أجرَهُم. وأمّا أنتَ فمتى صنعتَ صدقة فلا تعرفْ شمالُك ما تفعلُ يمينُك. لكي تكونَ صدقتُكَ في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاءِ هو يجازيكَ علانيّةً” (2:6-4). والصلاة قد أُمِرَ أن تُعمل في نفس الطريقة، حتى تُضمَنَ طبيعتها الروحيّة.

في هذه الحالة الحرجة يوصي ربّنا أتباعه أن يستخدموا “الصلاة الربّيّة” التي هي صلاة بسيطة وعميقة، تحتوي التمجيد لاسم الله والدعاء لملكوت الله الآتي. إنّها صلاةٌ تقرُّ أنّ مشيئة الله هي التي تبدأ كلّ شيء، وأن الإنسان ضائع بدون مشيئة الله. إنّها صلاة التّواضع إذ أنّها لا تسأل شيئاً غير القوت اليومي (الخبز الجوهري). إنّها صلاة وحدة الإنسانيّة في المغفرة، لأنها تسأل الله فقط أن يغفر لنا كما نغفر للآخرين، وفي هذا تصوّر الحقيقة العميقة للحياة الروحيّة، الحياة التي بها يتحد الإنسان بالله فقط عندما يتحد أيضاً بالآخرين، أي الجنس البشري، في المسامحة. حينئذ توجد الصلاة كي تحمي من التجربة التي إذا وقع أحد فيها تنجيه الصلاة منها. إنّها صلاة قصيرة جداً وبسيطة جداً، ولكنها عميقة جداً على الصعيدين الشخصي والكوني. هل الرهبنة تشويه للمسيحيّة الحقيقيّة، لأنّ الرهبان يتلون الصلاة الربّيّة حسب وصيّة ربّنا وأمره؟ لو استعملت الرهبنة الصلاة الحرة والعفويّة، لصحّ الكلام بعدم “اتّباعها” أمر ربّنا. ولكن المسألة ليست هكذا. هل الرهبنة انحراف بسبب التكرار في استخدام الصلاة الربّيّة؟ مجدداً، لقد قال ربّنا: “عندما تصلون صلّوا هكذا”. إنّها لا تحجب الصلوات الأخرى، ولكن يجب أن تُعطى الأهميّة والأفضليّة للصلاة الربّيّة. في الواقع، غريب أن يقيّد ربّنا تكرار الصلاة، “التكرار الباطل” أو أكثر دقة في اليونانيّة الحظر في “لا تكرروا الكلام كالأمم، فإنهم يظنون أنّه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم”. هذا يختلف في الجوهر عن قصد ربّنا. وهو يقول أكثر في هذا الموضوع، وهذا ما يُعتبر ذا أهميّة. في إنّجيل القدّيس متّى (15:9) أثار نقطة صوم تلاميذه عندما يُرفع. وفي نفس الإنجيل (21:17) أوضح ربّنا لتلاميذه أنّهم لا يقدرون أن يخرجوا الشيطان لأنّ “هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم”. هذه الآيّة صحيحة، مع أنّها ليست في كلّ المخطوطات القديمة، إنّما هي في ما يكفي منها، وفوق هذا كله إنّها موجودة في إنّجيل القدّيس مرقس (29:9). واضح هنا أنّ ربّنا يخصص فعاليّة روحيّة خالصة للصلاة والصوم.

ليست العفَّةُ تبتلاً خارجياً فقط وإنما هي عفة الفكر الداخليّة وهي هدفٌ رهبانيٌ ونّسكي. هل هذه أيضاً فُرضَت على المسيحيّة الحقيقيّة الأصليّة بواسطة طريقة التفكير الهِلّيني؟ أليسَت موجودةً ضمن الوديعة الأصليّة للمسيحيّة الرسوليّة والكتابيّة؟ مجدداً ربّنا هو الذي وضع طريق البتوليّة والعفة. في إنّجيل القدّيس متّى (10:19-12) سأل التلاميذ ربّنا إنّ كان يناسب أن يتزوج المرء: “ليس الجميع يقبلون هذا الكلام بل الذين أعطي لهم. لأنه يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم ويوجد خصيان خصاهم الناس. ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات. مَن استطاع أن يقبل فليقبل”. فالهدف الرهباني والنّسكي يتبع فقط تعليم ربّنا. المسيحيّة الأصليّة لا تفرض البتوليّة. إنّها بالضبط كما قال ربّنا: فقط لهؤلاء الذين أُعطي لهم، أي فقط لهؤلاء الذين يقبلون هذا الطريق الذي هو طريق المسيحيّة الحقيقيّة الروحيّة الذي وضعه ربّنا. في القرون المسيحيّة الأولى، لم يُطلَبْ حتى من الكهنة والأساقفة أن يكونوا متبتلين. لكن، بحسب الخبرة اللاحقة، فكّرت الكنيسة أنّه من الحكمة أن تشترط البتوليّة عند الأساقفة. ولكن، في المسيحيّة الشرقيّة، لم تُطلب البتوليّة من المتقدم للكهنوت، فإختيار الزواج أو التبتل يجب أن يكون قبل الرسامة. إذا تزوّج أحد قبل الرسامة، عليه أن يبقى متزوجاً، ولو أنّ الكنيسة القديمة شهدت استثناءات لذلك. إذا لم يتزوج الواحد قبل الرسامة، عليه أن يبقى بتولاً. فالكنيسة الرومانيّة وسّعت طلب البتوليّة ليشمل الكاهن، وقد عانت صعوبات لتفرضه خلال العصور. لا يستطيع أحد أن يفرض أشكالاً من الروحانيّة على شخص ما، ويتوقع منه نتيجة الثمر الروحي. إنّ كلمات ربّنا تدوّي بالحكمة: “إلى هؤلاء الذين أُعطي لهم” أي هؤلاء القادرين على العيش في هذا الشكل من الروحانيّة.

الفقر والتّواضع

لم يكن الفقرُ هدفاً بل نقطة بدايّة في الحياة الرهبانيّة والنّسكيّة في المسيحيّة الأولى. هل هذه السّابقة التي أسّسها القدّيس أنطونيوس هي خاطرة جديدة وحركة لم توجد مثلاً في الفكر المسيحي؟ من جديد إنّ ربّنا هو الذي أسّس القيمة الروحيّة للفقر. في انجيل القدّيس متّى (21:19)، أمر الربّ الرجل الغنيّ الذي ادّعى حِفظَ كلّ الوصايا :”إن أردتَ أن تكون كاملاً فاذهبْ وبِعْ أملاكَكَ واعطِ الفقراء… وتعالَ اتبعْني”. لم يبتكرْ القدّيس أنطونيوس هذه السّابقة، بل بالأحرى أصغى إلى كلمة الربّ ونفّذها، أي “عَمِلَ بكلمةِ الربّ”. ان المسيح الإله-الإنسان هو الذي وضع مثال الكمال، أي أمرنا أن نكون كاملين (أنظر أيضاً 48:5)، وهو الذي وضع مثال الفقر كنقطة انطلاق للحياة الروحيّة وكشكل معين من أشكالها. في 44:13 من انجيل متّى، أوجد المسيح نقطة مشابهة حيث أصرّ على أن نبيع كلّ شيء مقابل ملكوت السّموات: “يشبه ملكوت السّموات كنزاً مخفى في حقل وجده انسان وأخفاه ومن فرحه مضى وباع كلّ ما كان له واشترى ذلك الحقل”.

ان المسيحيّة بكليّتها ترفع من شأن التّواضع. إذاً ليس من العجب أن تركّز الروحانيّة الرهبانيّة والنّسكيّة على التّواضع. ففي انجيل القدّيس متّى (4:18)، يعلن ربّنا أنّ “مَنْ وضع نفسَه مثلَ هذا الولد فهو الأعظم في ملكوت السّموات”. وفي مكان آخر (12:23) يقول “مَنْ يرفع نفسه يتضع ومَنْ يضع نفسه يرتفع”. فالتّأكيد على التّواضع شاهد لذاته. وخلفه، بأيّة حال، تكمن حقيقة طبيعة الله التي لا يعيرها انتباههم إلا قليلون. فالعنصران الجوهريّان لأيّة روحانيّة في التجسد هما: محبة الله وتواضعه. إنّ فكرة التّواضع المتجذّرة بالله ربّما تثير الدّهشة. فبالطّبع لا يمكن أن يُنظر إلى تواضع الله بمنظار التّواضع النّسكي نفسه أو أيّ شكل من أشكال تواضع الإنسان. مهما يكن، إنّ أشكال التّواضع عند الإنسان تأتي من ذات طبيعة الله، كما أنّ وصيّة المحبة تتجذر في حب الله للجنس البشري. فإن اتضاع الله هو بالضبط في كونه يرغب ويشاء أن يكون في اتحاد مع كلّ شيء، مع أنّ كلّ شيء هو أدنى منه. مثلُ ذلك نراه عند القدّيسين الذين أحبّوا الحيوانات والأزهار. ومن هذه الفكرة، التي تستمد حقيقتها من التجسد وتنازل الله الإبن، نستطيع أن نرى بوضوح فعل الأصل الإلهيّ لتعليم المسيح عن الآخرين.

إن حملَ همّ الآخرين هو من المفترضات الأساسيّة في مفهوم الروحانيّة العميقة. يجب أن يكون الإخوة في الإنسانيّة مشمولين في البعد الروحي لأيّ منّا حين ارتقائه إلى الله، وهذا أمر بغيض في مفهوم نيغرن. فبالتجسّد تقدّست كلّ أشكال الوجود الإنساني. بالتجسّد عُرِف الحب الله وتواضعه. وعلى الإنسان أن يحب الله وإخوته من الجنس البشري لأنّ في المحبة قيمة إيجابيّة مطلقة، قيمة مستمدة من الله لأنّ المحبة هي من صلب طبيعة الله. على الإنسان أن يختبر التّواضع ويصبح مشتعلاً به. هذا بالضبط لأنّ التّواضع ينتمي إلى الله ويستمد قيمته منه. ولكنه ليس سهلاً أن تصبح مملوءًا داخليّاً بالحب والتّواضع، لأنّ ذلك يتطلب أكثر من مجرّد الإقرار بحقيقة أنّ الله محبّة وأن التّواضع إلهيّ. بالأحرى إنّه يتطلب التنقيّة الكاملة لطبيعتنا الداخليّة بواسطة الله. وهذ هو الجهاد والصراع الروحي الذي يجب أن يزاوَل للدخول في حقيقة الحب والتّواضع وللمحافظة عليها. إنّ الطريق الرهباني والنّسكي هو طريق حقيقي، طريق رسمه ربّنا أيضاً.

كتابات القدّيس بولس وتفسير الحركة الإصلاحيّة

إن الكتابات التي كَتبها القدّيس بولس أو نُسبت إليه تشكّل نقطةً هامّةً في مُجمل الفارق الكبير بين الكنائس الإصلاحيّة من جهة وكنائس الأرثوذكس والكاثوليك من جهة أخرى. الرسالة إلى أهل رومية هي إحدى المراجع الهامّة لهذا الخلاف. هذه الرسالة مع الرسالة إلى أهل غلاطية تشكّلان الأساس الذي منه أنشأ لوثر عقيدته في الإيمان والتبرير ووصفها بنفسه في مقدّمته لكتاباته اللاتينيّة كفهم جديد كلّيّ للكتاب المقدّس. وما زال هذان العملان يشكّلان نقاط المراجع الأساسيّة للاهوتيّي التقليد الإصلاحيّ المعاصرين.

إنّ رفض الإصلاح للرهبنة ناتج عن هذا الفهم الجديد للكتاب المقدّس. بشكلٍ عام، ليس من المبالغة أن ندّعي أنّ هذه الفكرة تعتبر أنّ القدّيس بولس هو الوحيد الذي فهم الرسالة المسيحيّة. وأكثر من ذلك أنّ هذه الرسالة لم تُفهَم لا من خلال القدّيس بولس بحد ذاته ولا من خلال مجموع أعماله الكاملة بل من خلال فهم لوثر للقدّيس بولس. من هذا المنظار، يكون مفسرو تعليم ربّنا وعمله الفدائي الحقيقيّون هم القدّيس بولس الذي فَهِمَه لوثر، ثمّ ماركيّون ثم المغبوط أوغسطين وبعده لوثر. لقد دين ماركيّون من قِبَل الكنيسة الأولى كلها. المغبوط أوغسطين سبق لوثر في آراء أخرى غير عقيدة التبرير وفَهْم لوثر الخاص للإيمان. إنّ أكبر تأثير لأوغسطين على لوثر، الذي كان راهباً أوغسطينياً، يأتي من عقيدة أوغسطين في القَدَريّة والنعمة التي لا تقاوَم كما من عقيدته حول فساد أخلاق الإنسان الكامل التي احتواها تعليمه حول الخطيئة الأصليّة. القدّيس فنسنت اللارينسي يسمي هذا التعليم بدعةً.

إنّ رفض الرهبنة أتى في الأساس من التأكيد على كون الخلاص هبة مجانيّة من الله. إن هذا الموقف دقيق للغاية ولكنّ فهمه الخاصّ كان بالكامل معاكساً لمفهوم الكنيسة الأولى. كون الخلاص هبة من الله وكون الإنسان يبرَّر بالإيمان لم يكونا مشكلة في المسيحيّة الأولى. ولكنّ لوثر اعتبر أنّ كلّ أنواع الأعمال، وخاصة تلك التي يقوم بها الرهبان في جهادهم النّسكيّ، هي معاكسة لطبيعة النعمة المجانيّة ولعطيّة الخلاص المجانيّة. فإنْ كان المرء يبرَّر بالإيمان -كما ذهب خطّ الفكر اللوثريّ– فلا يعود الإنسان يبرَّر “بالأعمال”، إذ بالنسبة للوثر، “التبرير بالإيمان” يعني تبريراً خارجياً، تبريراً مستقلاً كلياً عن أي تغيير داخليّ في أعماق الحياة الروحيّة للشخص. فبالنسبة للوثر “أن يتبرر” تعني “أن يُعلن المرءُ البِرَّ والعدلَ” وليس “أنْ يعملَ” البِرَّ والعدل. انها مناشدة للعدالة الخارجيّة التي هي في الحقيقة رواية روحيّة خياليّة. لقد جعل لوثر الالتزام الحَرفيّ بالنص أكثر جِدّيّة بكثير من الالتزام الحرفيّ الذي تبيّنه في الفكر الكاثوليكي وممارسة هذا الفكر في عصره. فوق ذلك، إنّ عقيدة لوثر الملتزمة في التبرير الخارجيّ خطيرة روحياً لأنها بمثابة بيانٍ قانونيّ لا يوجد في الواقع ولا يمكن أن يوجد. لقد رأى لوثر أنّه لا يوجد أيّ مكان ليشدّد فيه بهذه القوّة على الأعمال كما في الرهبنة. ولهذا السبب كان يجب أن تُرفض الرهبنة وقد رفضها. لكنّ لوثر استخلص أكثر ممّا يجب من تشديد القدّيس بولس على الإيمان، وعلى التبرير بالإيمان والعطيّة المجانيّة لنعمة الخلاص. فالقدّيس بولس هو في مواجهة مباشرة مع اليهوديّة خاصةً في رسالته إلى أهل رومية. إنّها أعمال الناموس كما وصفته اليهوديّة وفسرته وعملت به في زمن القدّيس بولس. لقد كان لربّنا ردة الفعل نفسها تجاه الفهم الخارجيّ والآليّ للناموس. الواقع أنّ نص الرسالة إلى أهل رومية بالذات يُظهر في كلّ صفحة أنّ القدّيس بولس يقارن الناموس الخارجيّ لليهوديّة مع الفهم الروحيّ المتجدد للناموس ولإعلان الله في ربّنا يسوع المسيح من خلال تجسّده وموته وقيامته. لقد صار الله إنّساناً. لقد دخل الله التاريخ البشريّ. وبالفعل أصبح التجدّد جذريّاً. وأيّ سوء فَهم لنقد القدّيس بولس للأعمال والاعتقاد أنّ القدّيس بولس يتكلم عن “الأعمال” التي أوصى بها ربّنا بغير المفهوم اليهوديّ لأعمال الناموس يشكّلان قراءة خاطئة لطبيعة أصيلة. كما أنّه صحيح من ناحيّة ثانيّة أنّ لوثر قد أصاب في اعتباره الإتجاه الخاص الذي سار عليه نظام الفضائل في الكنائس الكاثوليكيّة كمرجع مشابه لنظام الشرع اليهودي. فكنتيجة لخلفيّته ولبنيته اللاهوتيّة، كان لوثر عند قراءته أيّ شيء للقدّيس بولس عن “الأعمال” يفكر حالاً بخبرته الشخصيّة كراهب وبنظام الفضائل والغفرانات التي نشأ عليها.

ما يجب تأكيدُه بشدّة هو أنّ لوثر يُحافظ على ناحية واحدة من الخلاص: السبب الحقيقيّ ومصدر الفداء والنعمة. ولكنه يهمل ناحيّة أخرى وهي مشاركة الإنسان في العطيّة المجانيّة للمبادرة الإلهيّة والنعمة. فلوثر يخاف انبعاث نظام الفضائل والغفرانات في الكنيسة الكاثوليكيّة، أي أنه يخاف كلّ نزعة قد تشكّل موقفاً بيلاجيوسيّاً حقيقيّاً، وكلّ نزعة قد تسمح للإنسان أن يؤمن بأنه هو السبب أو المصدر أو النبع الأساسي للخلاص. وهنا لوثر على حق. إنّ تمييز نيغرن بين المحبة والعشق هو صحيح في هذا السياق لأنّ أيّة روحانيّة تحذف المحبة (agape) وتركز فقط على العشق (eros) وعلى جهاد الإنسان كي يربح سلطة الله هي جوهرياً روحانيّة غير مسيحيّة. ولكن المسألة ليست بهذه البساطة. كلا الطرفين على خطأ. لقد أراد الله، بحريّة، فداءً تعاضدياً (synergistic) يشترك فيه الإنسان روحياً. الله هو الممثل، السبب-المبدأ وهو الذي يكمل كلّ نشاط خلاصيّ. لكنّ الإنسان هو الذي يجب أن يستجيب روحياً لعطيّة النعمة المجانيّة. وفي هذه الإستجابة يوجد مكانٌ حقيقيّ للروح الرهبانيّة والنّسكيّة التي لا شأن لها بأعمال الناموس أو بنظام الاستحقاق والغفرانات.

الرسالة إلى أهل رومية

يكتب القدّيس بولس في مقدمة رسالته إلى أهل رومية (1: 4-5) أنّه من خلال يسوع المسيح “قَبِلْنا نِعمَةً ورسالةً لإطاعةِ الإيمانِ لأجلِ اسمِهِ”. إنّ فكرة “إطاعة الإيمان” هي ذات معنى عند القدّيس بولس إذ إنّها أكثر من إقرار بسيط أو معرفة بالإيمان الموضوع داخلنا بواسطة الله. إنّها فكرة غنيّة روحياً وهي تتضمن روحيّة كاملة لنشاط الإنسان ولا تعني هذه الفكرة أنّ العمل يُربِح نعمةَ الله، ولكنّ معناها هو بالضبط أنّ النشاط الروحي هو استجابةٌ لنعمة الله. وهو يُنجَز بنعمة الله من أجل أن يمتلىء من هذه النعمة. وهو يكون عملاً روحياً متواصلاً لا يمكن أن يصاب بالقصور وغريباً بالكليّة عن أعمال الناموس اليهودي.

يكتب القدّيس بولس بأن الله “سيجازي كلّ واحد حسب أعماله” (6:2). لو كان القدّيس بولس مهتماً كثيراً بكلمة “أعمال” ولو كان يخاف أن يفسر قُرّاءُ رسالته المسيحيّون هذه الكلمة بطريقة مختلفة كلياً عمّا كان يقصده، لكان بالتأكيد أكثر حذراً. ولكن القدّيس بولس ميّز بين أعمال الناموس اليهودي وأعمال الروح القدس المطلوبة من جميع المسيحيين. لذلك من الصعب الخلط بين هاتين النظرتين. لم تخلط الكنيسة الأولى بينهما لأنها فهمت ما كتبه القدّيس بولس. وبالرغم من وضوح فكر القدّيس بولس، فإن كلّ ميل من وقت لآخر إلى عدم الوقوع في تفاسير لوثر الأحاديّة المعنى يكون وقوعاً عفوياً في جهاد من نموذج العشق.

إن “الذين يَعْمَلونَ بالنّامُوسِ هُم يُبُرَّرُون” (13:12). إنّ فكرة “الذين يعملون” تعني القيام بعمل ما. في مكان آخر من الرسالة نفسها (12:5) يكتب القدّيس بولس أنّه من خلال ربّنا يسوع المسيح “صارَ لنا الدخولُ بالإيمانِ إلى هذه النعمَةِ التي نحنُ فيها مُقيمون”، ان فكرة الدخول إلى هذه النعمة ديناميكيّةٌ وتعني النشاطَ الروحيَّ من ناحيّة الجنسِ البشريّ.

بعد الإعلانِ الطويل عن نعمةِ الله وعجزِ أعمال الناموس مقارنةً بأعمالِ الحقيقة الجديدة للروح, يلجأ القدّيس بولس إلى الوعظ التقليدي الروحيّ (12:6) “لا تَملُكَنّ الخَطِيّةُ في جَسَدِكُم المائِتِ لكي تُطيعوها في شهواتِهِ ولا تقدِّموا أَعضاءَكُم آلاتِ إثمٍ للخطيّة”. يعتبرُ هذا التحريضُ أنّ للإنسان نوعاً من النشاط الروحيّ وسيطرةً على وجودِهِ الداخليّ. إنّ استعمال كلمة “آلة” يدعو إلى فكرةِ المعركة ذاتِ الصراعِ الروحيّ التي هي الطبيعة الفعليّة للرهبنة أو تجربتُها القاسية. وفي نفس الفصل (17:6) يكتب القدّيس بولس: “فشُكراً للهِ إنَّكُم كنتم عبيداً للخطيّة ولكنَّكم أطَعْتُم من القلبِ صورةَ التعليم التي تسلمتُموها”. ففي الفصل الثاني من الرسالة الى أهل روميّة (15:2)، يكتب القدّيس بولس عن الناحيّة الكونيّة للناموس المكتوب في قلوب الجنس البشريّ. لهذه الفكرة مفاهيمٌ لاهوتيّة عميقة. ففي استعماله لصورة القلب يشدد القدّيس بولس على عمقِ الحياة الداخليّة للجنس البشريّ, لهذا كان استعمالُ صورةَ القلب عند العبرانيين. عندما يكتب أنّهم “أطاعوا من القلب”، ينسبُ القدّيس بولس بعضَ العملِ الروحيّ “للطاعة” التي تنبع من “القلب”. وإلى ماذا أصبحوا طائعين؟ إلى شكل أو معيار معيّن للتعليم وللعقيدة التي تسلّموها، وهذا بالضبط يشكّل الذخيرة الرسوليّة وصلبَ التعليم المسيحيّ الأوّل الذي استجابوا له وأطاعوه. وبهذا صاروا عبيداً للبِر, الِبر الذي في الناموس الجديد ومن حياة الروح القدس (18:6). أما ثمر العبوديّة لله فهو بالضبط القداسة التي تؤدّي إلى الحياة الأبديّة (22:6). من البداية حتى النهاية، يوجد عمليّة وفي كلّ برهة هناك عملٌ روحيّ نشيطٌ من جهة الإنسان. فالقدّيس بولس أصبح أكثر وضوحاً في شأن الفرق بين الناموس القديم والناموس الجديد (6:7): “وأما الآن فقد تحرَّرنا من الناموسِ إذ مات الذي كنا ممسكين فيه حتى نعبُدَ بجدة الروح لا بعُتقِ الحرف”.

يكتب القدّيس بولس أننا أولاد الله: “فإنْ كنّا أولاداً فإنّنا ورثةٌ أيضاً ورثةُ الله ووارثون مع المسيح”. (17:8). ولكن كلّ هذا له حالة الشَرط لأنّ كلّ الأهميّة هي لعبارة “إذا حقاً”. اذا كنا نتألم معه لكي نتمجد معه. ان تمجيدَنا بحسبِ القدّيس بولس متوقفٌ على عَظَمة أداة الشرط (إذا) التي تقودنا إلى الحقيقة الروحيّة لكلمة المشاركة في الآلام. إنّ مجرد استخدام عبارة “نتألم معه” تستلزم فكرة المشاركة في الآلام، وكلاهما تستلزمان عملاً روحياً فاعلاً أو نشاطاً من جانب الذي يشترك في الآلام وإلا فليس لكلمة “مشاركة” من معنى.

في الرسالة إلى أهل روميّة (1:12) يستخدم القدّيس بولس لغة قد تكون بلا معنى لو كان الإنسان مجرد عضو غير فاعل في عمليّة الفداء ولو كان البر بالإيمان عملاً يحصل فقط على المستوى الإلهيّ. “فأطلُبُ إليكم أيها الإخوة برأفةِ الله أن تقدّموا أجسادَكُم ذبيحةً حيّةً مقدّسةً مرضيّةً عند الله عبادتكم العقليّة”. يطلب القدّيس بولس من المسيحيين أن يقدّموا الحقيقة التي تفترض مسبقاً النشاط الإنسانيّ وتطلبه: ليس فقط أن يقدّموا، ولكن أن يقدّموا الجسد كذبيحةٍ حيّةٍ مقدّسةٍ ومقبولة أو مرضيّةٍ لله. هذه اعتبرها القدّيس بولس عبادتَنا الناطقة أو عبادتنا الروحيّة. إنّ اللغة والفكرة تتكلمان عن ذاتهما. يستخدم القدّيس بولس صيغة الأمر ويأمرنا “لا تشاكِلوا هذا الدهر بل غيِّروا شكلَكم بتجديدِ أذهانِكم لتختبروا ما هي إرادة الله”. فإذا أخذْنا هذه اللغة بذاتها من دون سياقِها نسيء تفسيرَها فتبدو كالبيلاجيوسيّة، إذ يقول أن يغير الإنسان الذهنَ فيما المعنى الصحيح هو أن ينشّط الحياة الروحيّة. هذا التفسير ليس صحيحاً بالطبع، ولكنه يبيّن ما يستطيع المفسّر أن يفعل بكلّ فكر القدّيس بولس اللاهوتيّ، إن لم يفهم هذا التوازن ويستوعب أنّ نظرة القدّيس بولس هي تعاضديّة بالعمق.

فالتعاضديّة (synergy) لا تعني أنّ القوّتين متساويتان بل تعني أنّ هناك إرادتين: واحدة هي إرادة الله التي تتقدم وترافق وتكمل كلّ ما هو جيد وإيجابيّ وروحيّ وخلاصيّ، وهي التي شاءت أن يكون للإنسان إرادة روحيّة وإشتراك روحي في عمليّة الفداء؛ والأخرى هي إرادة الإنسان التي يجب أن تستجيب وتشارك و”تشترك في الألم”. في (9:12) يحثنا القدّيس بولس على “الإلتصاق بالخير” وفي (12:12) يحرضنا على “أن نكون مواظبين على الصلاة”. بالتأكيد، هذا موقف لا يستثني الروحانيّة الرهبانيّة والنّسكيّة ولكن بالأحرى يقتضيها ضمناً.

كورنثوس الأولى والثانيّة

البتوليّة هي جزء من الحياة الرهبانيّة وهي أيضاً لها مصدرها في تعاليم العهد الجديد. ففي 1كورنثوس 1:7-11، يشجّع القدّيس بولس على الزواج والبتوليّة. كلاهما صورة من صور الروحانيّة المسيحيّة. لدى القدّيس بولس الكثير من الكلام عن الزواج في رسائله الأخرى، لكنه يرى أنّ البتوليّة هي شكل من الروحانيّة عند البعض لا يمكن أن تُستثنى من أشكال الروحانيّة في الكنيسة. ففي هذه الآيّة لا يكتب أنّه يجب أن يكون الجميع كما هو، فهو استدرك أنّ لكلّ شخص موهبته من الله. “ولكنْ أقولُ لِغير المتزوّجينَ وللأراملِ أنّه حسنٌ لهم إذا لبِثوا كما أنا ولكنْ إنّ لم يضبُطوا أنفسَهم فليتزوّجوا” في الآيات 37 و38 لخّص القدّيس بولس: “مَنْ عَزَم في قلبِه أنْ يحفظَ عذراءَه فحسَناً يفعل. إذاً مَن زوَّج فحسناً يفعل ومن لا يزوِّج يفعل أحسن”. العهد الجديد لم يستثنِ أبداً الممارسة الرهبانيّة البتوليّة. بل بالأحرى كلٌّ من الربّ والقدّيس بولس قد شجعا عليها ومن غير أن يعرّضا الزواج للخطر؛ إذ لا يمكن أن يُفرض القرار، بل الأفضل أن يأتي من القلب، إذ إنّ البتوليّة بالواقع ليست للجميع.

فعلى امتداد العهد الجديد تقارَن الحياة الروحيّة بالسباق والحرب. لم يقلّل الرسول بولس من أساس رؤيته اللاهوتيّة بأن الله هو بداءة كلّ شيء. ومع هذا، فالطريقة التي يستعملها في 1كورنثوس 24:9-27، إذا أُخِذَت بمفردها، قد تبدو مشابهة لطريقة بيلاجيوس، وكأنّ كلّ أساس الخلاص يعتمد على الإنسان. ولكن إذا اعتُبِرت هذه الطريقة ضمن السياق اللاهوتي العام لا يظهر أيّ تناقض، إذ إنّ هناك دائماً إرادَتين للخلاص: الإرادة الإلهيّة التي تبدأ والإرادة البشريّة التي إذ تستجيب تتقبّل هذه الإرادة. “لستم تعلمون أنّ الذين يركضون في الميدان جميعُهم يركضون ولكن واحدٌ يأخذ الجعالة. هكذا اركضوا لكي تنالوا وكلّ من يجاهد يضبُط نفسَه في كلِّ شيء. أما أولئك فلكي يأخذوا إكليلاً يفنى وأما نحن فإكليلاً لا يفنى. إذاً أنا أركض هكذا كأنه ليس عن غيرِ يقين. هكذا أضارب كأني لا أضرب الهواء. بل أقمع جسدي وأستعبدُه حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً”. في هذا النصّ نواجه السباق (السباق الروحي) والجائزة، بينما نواجه في الجملة التاليّة تركيب “لكي تنالوا” تركيباً يدلّ ضمناً على احتمالٍ وليس على تأكيد. نواجه السباق كصراع روحي يمارَس فيه “ضبط النفس في كلّ شيء” وبعد ذلك يصف القدّيس بولس معركته الروحيّة. انه يعامل جسده بعنف ويقوده كالعبد ولكن إلى أيّة نهايّة؟ حتى لا يُرفَض هو نفسه. ان المقطع بكامله رهباني ونسكي في محتواه.

بالرغم من تأكّد القدّيس بولس من هدف الخلاص الذي حصل من خلال المسيح كعطيّة إلهيّة, لم يعتبر أنّ مصيره الروحي مشتمَل في هدف الخلاص الذي هو الآن هنا إلا إذا اشترك فيه، وحتى نهايّة السباق. ففي 12:10 يحذّرنا: “إذاً من يظنّ أنّه قائم فلينظر أن لا يسقط”. وفي 28:11 يكتب: “ولكن ليمتحنْ الإنسان نفسَه”… في سياق الكلام الأخير، جاءت عبارتا “أن يبرهن” أو “يمتحن” من سياق أكثر جديّة لأنهما ترِدان مرتبطتَين بسرّ الشكر المقدّس الذي تكلم عنه بشكل موضوعي: إذا “أكل الخبز” أحدُهم أو “شرب كأس الربّ” “بدون استحقاق” “يكون مجرماً في جسد الربّ ودمه” وهذا “يجلب دينونة لنفسه”. لهذ السبب يكمل القدّيس بولس أنّ البعض ضعفاء والبعض مرضى والبعض الآخر يرقدون. ولكن تركيزَنا هنا هو على امتحانِ الذّات أي على هؤلاء الذين يظنّون أنّهم قائمون. ومرةً أخرى هذا يشكّل ناحيّةً متكاملةً من الحياة الرهبانيّة والنّسكيّة, بمعنى أن يمتحنَ الإنسانُ حياتَه الروحيّة بشكلٍ دائم. في 2 كورنثوس 5:13 يشدّد القدّيس بولس على امتحانِ الذات :”جرّبوا أنفسَكم هل أنتم في الإيمان. امتحنوا أنفسَكم”.

في 15: 1-2: “وأعرّفكم أيها الإخوة بالإنجيل الذي بشّرتكم به وقبلتموه وتقومون فيه وبه أيضاً تخلصون وإن كنتم تذكرون أيّ كلام بشّرتكم به”. أداة الشرط (إذا) وأداة العطف (أيضاً) هنا مهمتان.

في 1 كورنثوس 15:14 تكلم القدّيس بولس عن الصلاة بالروح والذهن وهذه فكرة ترسم طريقها من خلال الأدب الرهباني والنّسكي. “أصلّي بالروح وأصلّي بالذهن أيضاً. أرتّل بالروح وأرتّل بالذهن أيضاً”. إنّ استخدامَ الذِهن في الصلاة في هذا النص كما في السياق العام للإصحاح واضح. هذا المعنى يجد تعبيرَه الكامل في الإستخدام المتناقض لكلمة “ذهن” في فكر إفاغريوس البنطي.

يشمل نشيدُ القدّيس بولس للمحبةagape الإصحاحَ 13 من رسالة كورنثوس الأولى بكامله. فبالرغم من وجود تفسيرات لاحقة لاستعمال كلمة “إيمان” في هذا الفصل وتحديداً تفسيرات دخلت الفكر المسيحي مع حركة الإصلاح, لا يوجد أي سوء فهم لنشيد المحبة. لقد فُهمت حقيقته في الكنيسة الأولى وفي الفكر المسيحي حتى زمن الإصلاح حيث دخل نهجٌ تفسيريّ معقَّد فرضَه مفهومٌ لاهوتيّ جديد يقول بوجوب فهم هذا النشيد العظيم، نشيد المحبة، عن طريق التمييز بين مختلف المعاني التي تُلصَق بكلمة “إيمان”. إنّ كان أحد يتكلم بألسنة الناس والملائكة وإن كان له نبوة ويعلم جميع الأسرار وكلّ علم وإن كان له كلّ الإيمان حتى “ينقل الجبال” وإن أطعم كلّ أمواله وإن سلّم جسده ليحترق، إنّ كان له كلّ هذا وليس له محبة فليس “شيئاً” وقد صار نحاساً يطنّ أو صنجاً يرنّ، فلا ينتفع شيئاً. لقد أوضح القدّيس بولس ما هي المحبة. “المحبة تتألم طويلاً، المحبة تتأنى وترفق, المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق وتحتمل كلّ شيء وتصدق كلّ شيء وتصبر على كلّ شيء. المحبة لا تسقط أبداً. وأما النبؤات فستبطل والألسنة فستنتهي والعلم فسيبطل… أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة, هذه الثلاثة. ولكن أعظمهن المحبة”. إنّ هدف الجهاد الرهبانيّ والنّسكيّ، هدفَ التجربة، هو المحبة: أن يحبّ الرهبانُ اللهَ والجنسَ البشريَ وكلَّ الأشياءِ المخلوقةِ وأن يتغلغل حبُ الله فيهم وأن يشتركوا في المحبة التي هي الله وتفيض منه وتتّحد معه بالحب. غالباً ما يتكلّم الأدب الرهبانيّ عن إحراز هذا الحبّ كأنّه عملُ الإنسان. ولكن هذا ليس المضمون الكلي للحب في الأدب الرهباني. وحتى ليس في هذه النصوص التي تُظهر كأن لا وجود لشيء إلا لجهاد الإنسان من خلال التجربة. هذه اللغة قيلت لأنها عفويّة ذات طبيعة روحيّة.

لقد استُعملَت هذه اللغة لأنها متوازيّة مع معرفة أنّ الله هو مصدر كلّ شيء. ومع ذلك، فالقدّيس بولس نفسه يستعمل لغة تأتي مباشرة من صِيَغٍ رهبانيّة. وفي الحقيقة يمكن أن تؤخذ كلا اللغتين من السياق الكامل، ولكن الصحيح أيضاً هو أنّ كلا اللغتين مَحْكِيَّتان: اللغة التي تشير إلى الله كمَصْدَرٍ وكمُطْلِقٍ للنعمة الإلهيّة وللعطيّة الروحانيّة بكلّيّتها، واللغة التي تركِّز على عمل الإنسان واستجابته للربّ وللحبّ الإلهيّ ولعمل الله الخلاصيّ في يسوع المسيح ومن خلال الروح القدس. إنّ استعمال خطٍّ واحد من هذا الفكر لا ينكر مطلقاً استخدام الخطِّ الآخر. ولنكون أكثر دِقّة نقول العكس بأن الأدب الرهباني والنّسكي يستطيع أن يتكلّم فقط عن عمل الإنسان، إذ يفترض أنّ الله تمّم عمل الخلاص في ربّنا ومن خلاله. فالله يعمل في الإنسان من خلال الروح القدس، وإلاّ فكلّ ما هو مكتوب بلا معنى ومؤقت ومجرّد. إنّ الروحانيّة النّسكيّة تستجيب مباشرة لوصيّة القدّيس بولس في 1كورنثوس 14: 1 “اتبعوا المحبةَ ولكن جِدّوا للمواهِبِ الروحيّة”.

في 2كورنثوس 2: 9، يكتب القدّيس بولس كأنّه رئيس الدير يخاطب مبتدئيه “لأني لهذا كتبت لكي أعرف تزكيتكم هل أنتم طائعون في كلّ شيء”. إنّ الطاعة موضوع أساسي وحقيقة مهمة في الخبرة الرهبانيّة والنّسكيّة. كما أنّ موضوع الطاعة بالذات، قد تكرّر ذكره في العهد الجديد.

غالباً ما يستعمل الأدب الرهباني والنّسكي عبارتي “رائحة” و “رائحة ذكيّة”، ومن جديد المصدر هو العهد الجديد. في 2كورنثوس 2: 14-15، يكتب القدّيس بولس “ويُظهر بنا رائحة معرفته في كلّ مكان. لأننا رائحة المسيح الذكيّة لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون. لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة”.

في 2كورنثوس 3: 18 يستخدم القدّيس بولس تعبير “من مجد إلى مجد” الذي يتردد في الأدب النّسكي: “ونحن جميعاً ناظرين مجد الربّ بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الربّ الروح”. يصعب، في الترجمة عن اللغة اليونانيّة للعهد الجديد، إيفاءُ التراكيب اللغويّة حقَّها، لأنّ هذه اللغة تنقل نشاطاً ديناميكياً قلّما نجده في اللغات الأخرى وفي الترجمات. ففي هذا النص تشديدٌ على عمليّة “كوننا نتغير” وفي مكان آخر التشديد غالباً هو على “كوننا نخلص”،أي على “كونِنا” أكثر مّما هو على “نتغير” و”نخلص”. فعندما تكون الطبيعة الموضوعيّة للخلاص هي المركز، حينئذ يستخدم في اليونانيّة صيغة الفعل “نخلص”. أمّا عندما تكون العمليّة هي المركز، فيعبّر عن الديناميكيّة بصيغة فعليّة أخرى: “كوننا نخلص”. مهمٌ أن نلاحظ في هذا النص أنّ الطبيعة الموضوعيّة يعبَّر عنها بعبارة “نكشف” بينما يعبَّر عن العمليّة المستمرة لإشتراكنا في عمليّة الخلاص الروحيّة بواسطة “كوننا نتغير” وهذا ما يعبِّر عن ديناميكيّة التعاضد في الإرادة.

في 2كورنثوس 16:4 يشدد القدّيس بولس من جديد على ديناميكيّة الحقيقة الروحيّة وعمليّتها في الإنسان “فالداخل يتجدد يوماً فيوماً”. إنّ نظام الحياة النّسكيّة اليوميّ من الصلاة والتأمل وفحص الذات والعبادة هو محاولة للاستجابة لهذا النص، أي أنّه بالضبط محاولة يوميّة لتجديد الحياة الروحيّة الداخليّة. في 15:10 يشدّد الرسول على الناحيّة الديناميكيّة للنموّ تماماً بحسب الإيمان والقانون: “إذا نما إيمانُكم أن نتعظم بينكم حسب قانوننا”. في 12:4 يضع القدّيس بولس العمق الداخلي للحياة الروحيّة للإنسان في القلب، وهذا من الأمور التي تنمّيها الرهبنة الشرقيّة في حياتها الصلاتيّة.

إنّ الفصل الخامس من كورنثوس الثانيّة هو نصٌّ ذو أهميّة خاصة. هنا كما في أماكن أخرى يستعمل القدّيس بولس لغة لو استعملها غيره لأزعجت على نحو موجع العديد من العلماء الذين يعملون بحسب المنظور الإصلاحيّ. إنّه يستعمل فكرة “إرضاء” الله، الأمر الذي يجده بعض العلماء دلالة على توسل الإنسان حتى يربح رضا الله. ولكن عندما يستعمل هذه اللغة تمرّ بهدوء من غير اعتراض، وهذا بالضبط لأنّ القدّيس بولس قد وطّد موقفه على أنّ الله هو مصدر كلّ شيء. أيضاً الأدب الرهباني والنّسكي يفترض مسبقاً أنّ الله هو البداءة ومصدر كلّ شيء، ولكنّ طبيعة الحياة الروحيّة اليوميّة للروحانيّة الرهبانيّة والنّسكيّة تركّز في الصميم على عمل الإنسان. إنّها بالضبط مركزٌ وليست موقفاً لاهوتياً. “لذلك نحترص أيضاً مستوطنين كنّا أو متغربين أن نكون مرضيين عنده. لأنه لا بدّ أنّنا جميعاً نظهر أمام كرسي المسيح لينال كلّ واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً. فإذ نحن عالمون مخافة الربّ نقنع الناس”. في 2كورنثوس 15:11، يكتب القدّيس بولس أنّ نهايّة الشخص تكون حسب أعماله. أيضاً ليست المرّة الأولى التي يستعمل فيها العهد الجديد كلمة “عمل” التي أصبحت منظّمة في الرهبنة بعد شرح عميق لمبادرة الله في العمل الخلاصي في المسيح (5: 14-20) التي فيها يكتب القدّيس بولس “الكلّ من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح”. ويُورِد في الآيّة 21: “تصالحوا مع الله”. وأكثر من ذلك، لا يكتفي باسعمال صيغة الأمر، با يقدّم لها بـ “نطلب عن المسيح”. هنا تصبح لغته بلا معنى إنّ لم يكن هناك عمل روحي من جهة الإنسان. وأكثر من ذلك، يستخدم القدّيس بولس صيغة هامّة لها علاقة بتعبير “بِرّ الله” إذ يكتب أن العمل الخلاصي في المسيح قد أُتِمّ، “لنصير نحن بِرّ الله فيه”. هنا الأهميّة في عبارة “لنصير” بدلاً من “نحن (نكون)” أو “نحن صرنا”. هذا يعني ضمناً الديناميكيّة المتعاضدة، وهذا ما شدّد أكثر عليه في 1:6 “فإذ نحن عاملون معه نطلب أن لا تقبلوا نعمة الله باطلاً”. و يستشهد الرسول بأشعيا 8:49 التي فيها أنّ الله “يسمع” و “يعين”.

في 2كورنثوس 6: 4-10، يكتب القدّيس بولس عمّا يمكن أن يرشدنا إلى الحياة الروحيّة الرهبانيّة. “في كلّ شيء نظهر أنفسنا كخدام الله، في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضيقات في ضربات في سجون في اضطرابات في أتعاب في أسهار في أصوام في طهارة في علم في آنات في لطف في الروح القدس في محبة بلا رياء في كلام الحق في قوة الله بسلاح البر لليمين ولليسار، بمجد وهوان بصيت رديء وصيت حسن… كمائتين وها نحن نحيا… كحزانى ونحن دائماً فرحون كفقراء ونحن نغني كثيرين. كأن لا شيء لنا ونحن نملك كلّ شيء”. الأسهار والأصوام والعلم: هذه كلها تظهر في الحياة الرهبانيّة والنّسكيّة. وأكثر من ذلك، يستعمل القدّيس بولس صورة الحرب ويشير إلى “سلاح البِرّ”. إنّ للّغة التي يستعملها القدّيس بولس في هذا المقطع أهميتها فقط إذا اشترك الإنسان بتعاضُدٍ في عمليّة الخلاص. إذا كان لعقيدة البِر في فكر القدّيس بولس معنى واحد هو “بِر الله” الذي هو بالطبع مصدر كلّ بر، فلماذا الكلام إذاً عن “سلاح البر” الموضوع بين يدي الإنسان، يميناً ويساراً؟ إذا كان الإنسان باراً فقط بواسطة “فديّة” ربّنا يسوع المسيح له، فلماذا إذاً الكلام عن “سلاح البِرّ” إلا إذا كان هناك ناحيّة ثانيّة في عمليّة الخلاص تشمل وجوديّاً الاشتراك الروحيّ للإنسان؟ في 2كورنثوس 10: 3-6 يتابع القدّيس بولس مستعملاً كلمة “الحرب”، ومن جديد يشدد على الطاعة: “لأننا وإن كنا نسلك في الجسد لسنا حسب الجسد نحارب. إنّ أسلحة محاربتنا ليست جسديّة بل قادرة بالله على هدم حصون. هادمين ظنوناً وكلّ علو يرتفع ضد معرفة الله ومستأسرين كلّ فكر إلى طاعة المسيح ومستعدّين لأن ننتقم على عصيان متى كملت طاعتكم”.

يكتب القدّيس بولس في 2كورنثوس 1:7 عن الطهارة وتكملة القداسة وخوف الله. بعد الإشارة إلى حصولنا على هذه المواعيد، يحرّضنا “لنطهّرْ ذواتَنا من كلّ دنس الجسد والروح مكمّلين القداسة في خوف الله”. هذا التحريض هو بالضبط ما قامت به الحياة الرهبانيّة والنّسكيّة. في 9:13 يكتب القدّيس بولس “نصلي من أجل أبنائكم”. حتى يتمّ إصلاحُ الشخص يجب أن يكون مسبقاً على مستوى معيّن. يحمل النصّ شهادة على طبيعة الإيمان النشيطة، والحياة الروحيّة في المسيح، والقيامة، والسقوط ثمّ إعادة البناء.

في 2كورنثوس 10:7، يستعمل القدّيس بولس تعابير مشابهة لتعابير الأدب الرهباني والنّسكي فيذكر “الحزن” الذي يُنشِئ “التوبة” التي تقود إلى الخلاص :”لأنّ الحزن الذي بحسب مشيئة الله يُنشِئ توبةً لخلاص بلا ندامة”. يقابل القدّيس بولس بين “الحزن بحسب مشيئة الله” “وحزن العالم الذي ينشِئ موتاً”. موضوع الآلام والحزن بسبب الخطيئة، وأكثر دقّة “الحزن بحسب مشيئة الله”، ثابتٌ في الحياة الروحيّة الرهبانيّة.

يُنهي القدّيس بولس نصّ الرسالة الثانيّة إلى كورنثوس بتحريض أخير “ابنوا بعضكم اهتموا اهتماماً واحداً عيشوا بالسلام وإله المحبة والسلام سيكون معكم”. الإصرار هنا على البناء من جديد. فتواتر لغة القدّيس بولس إذا أُخِذ بذاتِهِ وخارج المضمون، يُساء تفسيرُه بسهولة، ويُفهم على أنّ الإنسان هو الذي يسبّب عمل الله، لأنه يكتب “عيشوا بالسلام و”. إنّ أداة العطف (و) هذه تقدّم عمل الله: الله “يكون معكم” إذا حقّقتم السلام. لو لم نملك كلّ أعمال القدّيس بولس لكان هذا النص فُسِّر على هذا الشكل، أي كان يمكن أن يُشوَّه فكرُ القدّيس بولس، كما شُوِّه الفكر المعبَّر عنه في الأدب الرهبانيّ والنّسكيّ.

الرسالة إلى أهل غلاطية

إلى جانب الرسالة إلى أهل روميّة، تشكّل رسالة القدّيس بولس إلى أهل غلاطية عملاً آخر من بين أعمال هذا القدّيس التي كثيراّ ما استشهد بها لاهوتيّو اللوثريين والكالفينيين الإصلاحيّين وغيرهم من اللاهوتيين الذين تبعوا هذه التقاليد اللاهوتيّة. كذلك أوغسطين غالباً ما استشهد بهاتين الرسالتين ليدعم عقيدته في النعمة غير المقاوَمة والقَدَريّة. ولكننا نصادف المشكلة ذاتها في غلاطية، إذ إنّ هناك خطّاً فكريّاً ثانياً ممكن تفسيره بذاته في الإتجاه البلاجيوسي. ما يجب توضيحه هو أنّ كلا النظريتين تأخذان منحى واحداً، وأنّ فكر القدّيس بولس أغنى بكثير مما يسمح به أيّ تفسير من زاويّة واحدة، لأنّه أكثر واقعيّة في التعاطي مع مجد الله ومع مأساة خبرة الإنسان في الشرّ والفساد والموت. ولكن القدّيس بولس لم يُشِدْ فقط بذكر مجد الله وقدرته وبراءة النعمة، بل أيضاً بالابتهاج بالخلاص الفعليّ الذي فيه يجب أن يشترك كلّ شخص حتّى يكتمل خلاص الإنسان.

في الفصل الأوّل من غلاطية، يستعمل القدّيس بولس في الآيّة 10 لغة تتضمّن معنى التفتيش عن كسب إرضاء الله. “أفأستعطف الآن الناسَ أم الله؟ أم أطلب أن أُرضي الناس؟” في بعض الجوانب في غلاطية 9:4 يوقع القدّيس بولس نفسه باستعماله لغة البشر الحقيقيّة: “وأما الآن فقد عرفتم الله بل بالحري عُرفتم من الله”. فعدم الدقّة في اللغة يحصل حتى مع القدّيس بولس.

الفصل الثاني من غلاطية، يسلّط الضوء على موضوع الخلاف الأساسي في لاهوت القدّيس بولس. في السياق العام، يخاطب القدّيس بولس رياءَ القدّيس بطرس في انطاكية، لأنّ القدّيس بطرس أكل مع الأمم إلى أن وصل قوم من جماعة “الختان” من أورشليم. في ذلك الوقت انسحب القدّيس بطرس من احتفال الأمم “خائفاً من الذين من الختان”. القدّيسُ بولس انتهر القدّيسَ بطرس وجهاً لوجه. من جديد ان الخلاف كلّه هو بين “أعمال الناموس” و “أعمال الروح”، بين الناموس اليهودي وناموس المسيح الروحي كونه النتيجة المباشرة لعمله الخلاصي المقدّس. لهذا يضع القدّيس بولس عقيدة التبرير على بساط البحث في هذا السياق. يكتب القدّيس بولس في الآيّة 16 “إذ نعلم أنّ الإنسان لا يتبرّر بأعمالِ الناموس بل بإيمانِ يسوع المسيح. آمنّا نحن أيضاً بيسوع المسيح لنتبرّر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس. لأنه بأعمال الناموس لا يتبرّر جسد ما”. ففي التأويل اليوناني الذي استعمله القدّيس بولس نجد الديناميكيّة مستمرة، “لنتبرر” و “بالإيمان”. هذا التعبير الأخير فيه دلالة على مدى اتّساع الحياة الروحيّة التي يؤكّدها الإيمان. إنّه تعبير غنيّ يجب أن لا تنتقص التفسيرات المجتزأة من ديناميكيته وميزاته. وحتّى استخدام التعبير “حتّى” له مفاهيم لاهوتيّة، كما للصّيغة التاليّة “كي نبرَّر”. لقد كان بمقدور القدّيس بولس أن يكتب “آمنّا ومن ثم تبرّرنا”، ولكن ليس هذا ما كتبه. حقيقة الخلاص الموضوعيّة أي حقيقة تبرير الجنس البشريّ بالمسيح الموضوعيّة هي شيء واحد. أمّا حقيقةُ فرديّةِ مشاركةِ كلِّ شخصٍ في عملِ التبريرِ الخلاصيّ وصدقِه مع الله، فهو بُعدٌ آخر يتطلّب ويخاطب كاملَ التركيب الروحيّ للإنسان. ففي النص التالي يكتب القدّيس بولس “طالبون أن نتبرَّر في المسيح”. وفي 5:5 يكتب “فإننا بالروح من الإيمان نتوقع رجاء بِرّ”. ما هو المعنى الحقيقيّ الوجوديّ لرجاءِ البِرّ، إذا كان البرّ يعود إلينا كما لو أنّه إجراء قانونيّ، وإذا كان بِرّ الله المنفصل هو الذي يبرّرنا؟ كلاّ، إنّ رؤيّةَ القدّيس بولس هي أكثر عمقاً، “فرجاء البر” هو بالضبط رجاؤنا كي نشترك في “بِرّ الله” الموضوعيّ الذي أعطاه الله مجاناً في المسيح ومن خلاله. ولكننا “نأمل” إذ لنا “عمل” يجب أن نعمله حتى نتمسّك ونشترك بالبِرّ أبداً. الله يخلق في حريّته. وقد خلق الله الإنسانَ في صورة الحريّة هذه، وقد قَبِلَ المسيحُ الصليبَ بملءِ حريّتِه. الحريّة هي أساس الخلق والخلاص. وحريّة الإنسان مهما ضعفت يبقى بمقدورها أن تُستوحى بواسطة عطيّة النعمة المجانيّة. وفي هذه الحريّة، كما كتب القدّيس بولس في رسالته إلى أهل فيليبي 12:2، على الناس أن يتمموا خلاصَهم بخوف ورعدة. من غيرِ الممكن إنكار أنّ الروحانيّة الرهبانيّة والنّسكيّة قد أخذت هذه الوصيّة بجديّة. في غلاطية 1:5، يكتب القدّيس بولس: “اثبتوا في الحريّة التي قد حرَّرَنا المسيح بها”.

إنّ الأهميّةَ اللاهوتيّة كاملة في كلّ الذي حصل في مجيء المسيح: في تجسّد الإله-الإنسان، وفي حياته، وتعاليمه، وموته، وقيامته، وتأسيسه للكنيسة، والحياة الأسراريّة الروحيّة فيها، وصعوده، وإرساله الروح القدس، والمجيء الثاني والدينونة. كلّ هذا بَدَّل ناموسَ الأعمال القديم جذرياً، والمعنى أصبح واضحاً للكنيسة الأولى. صحيح أنّ ما قاله القدّيس بولس بأن “ناموس الأعمال” يمكن أن يطبّق على أيّ شكل من المسيحيّة التي تحيد عن ضبط الميزان والتي تحيد عن “أعمال الروح” الحقيقيّة مبدّلاً إياها بموقف ميكانيكي وآلي. في غلاطية 27:3، يربط القدّيس بولس “التبرُّر بالإيمان” بشكل مباشر بسرّ المعموديّة المقدّس: “لأنّكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. لأنّ كلّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح”. في هذا المضمون، ما هو الفرق بين “التبرير بالإيمان” و “الإيمان”، وأن تكونوا “اعتمدتم بالمسيح” ومن ثم أن “تلبسوا المسيح”؟ يخاطب القدّيس بولس المسيحيين الذين اعتمدوا وقبلوا الإيمان. ومع أنّ لغته عن “التبرير بالإيمان” و “لبس المسيح” في المعموديّة والناحيّة الموضوعيّة للخلاص تعني أنّ كلّ هذا قد تمّ، ما زال قادراً أن يكتب في غلاطية 19:4 إنه “يتمخض بهم إلى أن يتصوّر المسيح فيهم”. هل يعني هذا الكلام أيّ شيء غير أنّ عمليّة الخلاص للإنسان هي عمليّة جهاد وقيام وسقوط ونشاط روحيّ مستمرّ؟ في 7:5 يكتب أنّهم كانوا “يسعون حسناً” ويسأل “من صدَّكم؟” مستدعياً من جديد صورة السباق.

في غلاطية 14:5، يكرّر القدّيس بولس وصيّة المسيح بالمحبة. هذه الفكرة لم تكن غريبة عنه، لا سيّما غذا أخذنا نشيد المحبة بعين الإعتبار. فهو يقول في 1كورنثوس 13: “لأنّ كلّ الناموس في كلمة واحدة يُكمَل: تحب قريبك كنفسك”. وبعد ذلك يميّز أعمال الروح من أعمال الجسد ويربط بوضوح هذه الأخيرة بالناموس القديم بشكل واضح. ومجدداً بعد ذلك يوعز ويوصي من خلال واقعيّة الحياة الروحيّة (25:5): “إن كنا نعيش بالروح فلنسلك أيضاً بحسب الروح”. ماذا يعني هذا التحريض؟ إنّ معناه قائم على الواقعيّة فقط. يشير “العيش بالروح” إلى تماميّة عمل المسيح الخلاصي الذي تمّ الآن فصار متاحاً للجنس البشري ومحيطاً بهم بواسطة حياة الكنيسة التي يعيشونها. ولكنه خلاص يجب أن يشاركوا فيه بنشاط وأن يسلكوا فيه إذا أرادوا أن يحصلوا على نهاية عمل الخلاص ويتسلّموها، أي على اتّحاد الإنسان بالله في الحبّ والصلاح والحقّ. “السلوك” هو تعبير واضح عن النشاط أو الحركة نحو هدف ما. في غلاطية 2:6، يربط القدّيس بولس وصيّة المحبة بالسلوك في الروح مع ناموس المسيح: “وهكذا تمّموا ناموس المسيح”. إنّ عبارة “ناموس المسيح” بالذات وعبارة “إتمام الناموس” هامتان لاهوتيّاً، لأنّ ناموس المسيح يشير إلى كلّ ما يرتبط بالكنيسة في المسيح. فالحياة الرهبانيّة والنّسكيّة هي بالضبط محاولة لإتمام ناموس المسيح هذا. إنّ جملته الختاميّة في غلاطية هي: “فكلّ الذين يسلكون بحسب هذا القانون عليهم السلام والرحمة”. الخليقة الجديدة التي يتكلم عنها القدّيس بولس هي حقيقة خلاصيّة قد تُمِّمَت، وبالنسبة لنا كأفراد أحرار روحياً، الخليقة الجديدة هي الحقيقة التي يجب أن تتشكّل، هي التي تتأتّى فقط من عمليّة (process)، عندما تتشكل الحقيقة الذاتيّة لكلّ شخص في داخل الحقيقة الموضوعيّة “للخليقة الجديدة” التي صنعها ربّنا يسوع المسيح.

أفسس

في أفسس 14:1 يستخدم القدّيس بولس لغة مثيرة للاهتمام بالنسبة لخلاصنا في المسيح: “إذا آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدّوس الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى”. إنّ المعنى هنا واضح: فختم الروح القدس هو عربون الميراث الذي نملكه عندما نكتسبه. إنّه نصّ ديناميكيّ. إمتلاك هذا الميراث يتطلّب أن نسلك في “الأعمال الصالحة” كما يظهر بوضوح في أفسس 10:12 :”لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها”. في أفسس 11:6، يستعمل القدّيس بولس من جديد صورة الحرب ووضع سلاح الله الكامل. فكرة السلوك تُثار من جديد في 8:5 و 15:5 “أسلكوا كأولاد نور”، “فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق”. في 9:5، يكتب “لأنّ ثمر الروح هو في كلّ صلاح وبر وحق”. إنّ السلوك في الروح هو الذي ينتج الثمر الذي هو في كلّ صلاح وبر وحق ويعبر عنه الرسول “مختبرين ما هو مرضي عند الربّ”.

في أفسس 14:5 يستشهد القدّيس بولس بنص من المحتمل أنّه كان ترنيمة في الكنيسة الأولى. لهذا النص رنين رهباني: “استيقظ أيها النائم”. وإلى أيّ هدف يجب أن يستيقظ؟ في 1:5 يوصي القدّيس بولس: “فكونوا متمثلين بالله”. في 23:4 يكتب أنّه يجب أن “تتجدّدوا بروح ذهنكم”. وقد طلب إلينا: “أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دعيتم بها”. في 15:4 يحرص على أن “ننمو في كلّ شيء إلى المسيح”. في 18:6 يصرّ القدّيس بولس على أهميّة الصلاة “مصلين بكلّ صلوة وطلبة في كلّ وقت”. كلّ هذه هي مظاهر من الحياة الرهبانيّة والنّسكيّة.

فيليبي

تحتوي الرسالة إلى أهل فيليبي عدّة تعابير متعلّقة مباشرةً بالحياة الروحيّة النشيطة. في 25:1، يتكلّم عن “تقدمكم وفرحكم في الإيمان”. في 27:1، يتكلّم عن أن يعيش المرء كما يحق للإنجيل: “اثبتوا في روح واحد مجاهدين معاً لإيمان الإنجيل”. الجهاد هنا هو ما يكرهه نيغرن كثيراً.

يرى القدّيس بولس أن المطلوب منّا لا أن نؤمن فقط بل أن نتألّم أيضاً. في فيليبي 29:1، يكتب: “لأنّه قد وُهِب لكم من أجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألّموا لأجله”. ويشير إلى هذه “كجهاد” و”تجربة”. في 16:2 يتكلّم عن إمكانيّة “السعي والتعب باطلاً”. في 8:3 يتكلّم القدّيس بولس عن رِبح المسيح وهذا في مضمون البِرّ بالناموس كمعارِض للبِرّ بالإيمان. تؤلّف الآيات 11 إلى 16 من فيليبي 3 واحداً من أكثر النصوص أهميّة: “لعلّي أبلغ إلى قيامة الأموات. ليس أنّي قد نلت أو صرت كاملاً ولكني أسعى لعلّي أدرك الذي لأجله أدركني المسيح يسوع. أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسي أنّي قد أدركت ولكني أفعل شيئاً واحداً إذا أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدّام أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع. فليفتكر هذا جميع الكاملين منّا وأما ما قد أدركناه فلنسلك بحسب ذلك القانون عينه”. هنا يتكلّم القدّيس بولس عن إدراك المسيح وإدراك المسيح له. إنّ العمل التعاضدي واضح وواقعيّ. لغة المقطع تدلّ على وتؤكّد عمل الله وعمل الإنسان والحقيقة المجرّدة للخلاص المتمّم وعمليّة إدراك الإنسان والإمتداد إلى الأمام إلى الهدف الحقيقي الذي لا يتحقّق بدون أن يصبح الإنسان نشيطاً روحياً. الصِّيَغ الفعليّة اليونانيّة لعبارتي “لعلّي أبلغ” و”لعلّي أدرك” ليست بلا معنى.

في فيليبي 4: 8-9، يتكلم القدّيس بولس بشكل جامع كما يفعل في روميّة 1: “كلّ ما هو حقّ، كلّ ما هو جليل، كلّ ما هو عادل كلّ ما هو ظاهر كلّ ما هو مسرّ كلّ ما صيته حسن، إنّ كان فضيلة وإن كان مدح ففي هذه افتكروا”. الحقّ والعدل والطهارة والمَسرَّة هي صفات لم تتغيّر بشكلّ ثوريّ بواسطة الخليقة الجديدة التي صنعها تجسّد الإله-الإنسان ولم تأتِ إلى الوجود بواسطة الفكر المسيحي بل هي موجودة داخل الطبيعة البشريّة والوجود، ويعرفها كلّ ضمير بشكل عفويّ. ما فعلته المسيحيّة، مهما يكن، هو أنّها فتحت طريقاً جديدة للجنس البشريّ حتى يشارك في الحقّ والعدل والطهارة بطريقة جديدة وبقوة جديدة بالمسيح. لم تعد هذه الصفات موجودة كمثال وكمطلق، ولكن صار ممكناً للطبيعة البشريّة الحصول عليها وجوديّاً من خلال الخلاص. فلغة القدّيس بولس هنا قريبة من الأفلاطونيّة ولكنها مسيحيّة بالكامل.

كولوسي

يرسم القدّيس بولس التعاضد في الآيات 1: 22 – 23 و29 من الرسالة إلى أهل كولوسي: “وقد صالَحَكم الآن في جسمِ بشريّتِه بالموت ليحضرَكم قدّيسين وبلا لوم ولا شكوى أمامَه. إنّ ثبتّم على الإيمان متأسّسين وراسخين وغير منتقلين عن رجاء الإنجيل الذي سمعتموه”.

إن المصالحة الحقيقيّة موجودة الآن ولكن حتى يشترك بها المرء يجب عليه أن يكون مقدّساً وبلا لوم وبلا شكوى، وهذا متوقف على أهميّة أداة الشرط (إن): “إن ثبتم على الإيمان”. في الآيّة 29 نواجه أفكار الكمال والتعب والجهاد والشدة: “لكي نحضر كلّ إنّسان كاملاً في المسيح يسوع الذي لأجله أتعب أيضاً مجاهداً بحسب عملِه الذي يعمل فيّ بقوة”. تعبّر كولوسي 10:1 عن نفس الفكرة التي في آيات “كما يحق للربّ” و”مثمرين في كلّ عمل صالح” و”نامين في معرفة الله”. ولكن هذه القوة بالذات تأتي من قدرة مجد الله: “متقوّين بكلّ قوة بحسب قدرة مجده”. وتعبّر كولوسي 2: 6-7 عن الإرادتين الروحيتين والأعمال في عمليّة الخلاص: “فكما قبِلتم المسيح يسوع الربّ اسلكوا فيه وموطّدين في الإيمان كما علّمتم”.

إنّ عمق فكرة التعاضد ليس في الإشتراك بموت المسيح وآلامه بل أيضاً في الاشتراك في قيامته. في كولوسي 1:3 يكتب القدّيس بولس :”فإنْ كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق”. يستمر القدّيس بولس باستخدام الإرشاد بلغة الأمر في الإصحاح 3، في 5:3، “فأميتوا أعضاءَكم التي على الأرض: الزنا، النجاسة، الهوى، الشهوة الرديّة، الطمع الذي هو عبادة الأوثان” وفي 8:3 “فاطرَحوا عنكم أنّتم أيضاً الكل”. وأيضاً يوصي في 2:4 بالمواظبة على الصلاة والسهر.

تسالونيكي الأولى والثانيّة

يكمِل الرسول بولس في الرسالة الأولى إلى تسالونيكي فكرتَه حول الناحيّة الثانيّة من عمليّة الخلاص بإشارته إلى “عمل الإيمان” (3:1)، وبالتعبير عن الاهتمام في أن “يصير عملنا باطلاً” في (5:3)، بإيعازه “إذا ثبتم أنتم في الربّ” (8:3)، وبإرشاده كي نلبس “درع الإيمان والمحبة” (8:5)، وبوصيته ان “امتحنوا كلّ شيء، تمسكوا بالحسن، إمتنعوا عن كلّ شبه شر” (5: 21- 22). ففي 10:3 يكتب القدّيس بولس: “طالبين ليلَ نهارَ… ونكمّل نقائص إيمانكم”. ما الحاجة لنسوّي نقائص الإيمان، إذا كان الإيمان وحدُه هو المقياس الوحيد للخلاص، كما تؤمن به بعض المدارس اللاهوتيّة المتجذرة في تقليد الإصلاح؟ في 4: 4-5، يكتب القدّيس بإهتمام: “هذه هي إرادة الله: قداستكم… أن يعرف كلّ واحد منكم أن يقتني إناءَه بقداسة وكرامة”. إذاً هدف الحياة الروحيّة في المسيح هنا هو القداسة، والمهم في النص هو أن يعرف كلّ واحد كيف يقتني هذا الإناء. هذه اللغة تعبّر عن ديناميكيّة في عمليّة التعاضد للخلاص. في 9:5، يستعمل القدّيس بولس تعبير “لاقتناء الخلاص” كما يستعمل في 2تسالونيكي 14:2 تعبير “لاقتناء مجد ربّنا”. أما في 2تسالونيكي 11:1 فيصلي القدّيس بولس أن يؤهلهم للدعوة ويكملوا كلّ “مسرة الصلاح وعمل الإيمان بقوة”.

تيموثاوس الأولى والثانيّة

نقرأ في 1تيموثاوس 1: 5-6: “وأما غايّة الوصيّة فهي المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء. الأمور التي زاغ قوم عنها انحرفوا”. في 1: 18-19، تُستخدم صورة الحرب من جديد: “هذه الوصيّة أيها الإبن تيموثاوس استودعك إياها… لكي تحارب فيها المحاربة الحسنة ولك إيمان وضمير صالح الذي إذا رفضه قوم انكسرت بهم السفينة من جهة الإيمان”.

في 1 تيموثاوس 2: 1-3، توجد نفس كثافة العمل الروحي الموجود في الأدب الرهبانيّ والنّسكي: “فأطلب أوّل كلّ شيء أن تُقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب لكي نقضي حيوة مطمئنة هادئة في كلّ تقوى ووقار. لأنّ هذا حسن ومقبول لدى مخلصِنا الله الذي بربد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون”. إنّ هذا التأكيد نفسه يستمر في 4: 7-10 خاصة في تعابير “روّض نفسك” و”لأننا لهذا نتعب ونعيّر”. وفي 6: 11-12 من تيموثاوس الأولى يشدّد من جديد على “الجهاد” من أجل الإمساك بما تُمِّم واقعياً في الخلاص: “جاهد جهاد الإيمان الحسن وأمسك بالحياة الأبديّة”. وفي الآيّة التي تسبقها يطلب “اتبع البر والتقوى والإيمان والمحبة والصبر والوداعة”. ما هو المعنى الروحي الذي يستطيع هذا التعبير “اتبع البر” أن يدل عليه سوى أن يشير حقيقةً إلى أنّه بالرغم من أنّ “بر الله” ثُبِّّت في المسيح يسوع، ما زال علينا أن نجاهد بنشاط في الحرب الروحيّة حتى نمسك هذا البر؟ في 1تيموثاوس 9:5، كان من الواضح أن الأرامل من عمر معين لهن مكان خاص في حياة الكنيسة الروحيّة: “لتكتتب أرملة”. تكتتب في ماذا؟ من الواضح أنّ العمل الخاص في حياة الكنيسة الروحيّة الذي اكتتبت فيه الأرامل كان شكلاً خاصاً من العمل الروحي في حياة الكنيسة الأولى.

في 2 تيموثاوس 6:1، يظهر بوضوح أنّ كلا الحقيقة الموضوعيّة لهبة الخلاص والعمل الفردي النابع من الذات ضروريّان حتّى “يمسك” هذا العمل الخلاصي: “أُذكِّرك أن تُضرِم موهبة الله فيك”. التعاضد الخلاصي قيل في 11:2-12 مع كلّ أهميّة أداة الشرط (إن): “إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضاً معه. إنّ كنا نصبر فسنملك أيضاً معه”. في 21:2، القداسة متوقّفة على التنقيّة الذاتيّة: “فإن طهّر أحد نفسه… يكون إنّاء للكرامة مقدّساً”. في 22:2 يعظنا من جديد “أما الشهوات الشبانيّة فأهرب منها” و”اتبع البر والإيمان والمحبة والسلام” و”دعوة الربّ” يجب أن تكون “من قلب نقي”. في 7:4، يُقدّم طريق الخلاص من جديد كجهاد: “قد جاهدتُ الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان”.

عبرانيين

الرسالة إلى العبرانيين غنيّة بفكرتها من ناحيتي الخلاص: عمل الله وجهاد الإنسان الروحي. اللغة في 14:3 لافتة للنظر: “لأننا قد صرنا شركاء المسيح إنّ تمسكنا ببراءة الثقة ثابتة إلى النهايّة”. وفي 1:4 الفكرة مشابهة: “فلنخفْ أنّه مع بقاء وعد بالدخول إلى راحته يرى أحدٌ منكم أنّه قد خاب منه”. وتستمر فكرة الدخول لهذه الراحة في 11:4: “فلنجتهد أن ندخل تلك الراحة لئلا يسقط أحد في عثرة العصيان”. في 1:6 بداءة العمليّة قيلت ورافقها الطلب: “لنتقدم إلى الكمال”. في 11:6 يقول الرسول أنّه يجب على المرء أن يُظهِر الإشتياق “ليقين الرجاء إلى النهايّة!”. استعمال لام الأمر متكرر في هذه الرسالة: في 10: 22-23، “لِنتقدم بقلب صادق” و”لنتمسك بإقرار الرجاء راسخاً”.

يأتي تعريف الإيمان في 1:11: “وأما الإيمان فهو الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا تُرى”. هذا التعريف غالباً ما يُصرَف النظر عنه بسرور. وفكرته عميقة خاصةً عندما يعتبر التركيب الأصلي اليوناني. فالإيمان هو الثقة والحقيقة التي عليها بُني رجاء الإيمان المسيحيّ. وفي حقيقتِه يحتوي على البرهان الصحيح، والشهادة على الملكوت السماويّ. فالأحد عشر إصحاحاً بكاملها تبيّن أنّ الإيمان كان نشيطاً تحت الناموس القديم، بالرغم من أنّ إيمان المسيح والإيمان به له أهميّة وجوديّة عميقة، بالضبط لأنه الثقة في الحقيقة الجديدة التي لم تكن موجودة في الناموس القديم. فبعد عرضٍ مطولٍ لأمثلة عن الإيمان تحت الناموس القديم، تمتلىء الرسالة إلى العبرانيين في 1:12 بالإرشادِ المرتبطِ بلُبّ نشاطِ الإيمان الجديد الروحيّ: “لنطرحْ كلَّ ثقلٍ والخطيّةَ المحيطةَ بنا بسهولةٍ ولنحاضرْ بالصبرِ في الجهاد الموضوعِ أمامَنا”. ويشدّد الرسول على حقيقة التأديب في هذه الرسالة، خاصةً في 7:12: “إن كنتم تحتملون التأديب”، وعلى إمكانيّة أنّ أحداً “يخيب من نعمة الله” (15:12).

بطرس الأولى والثانيّة

يذكر الرسول بطرس في رسالته الأولى 9:1، أنّ ما يجلب الخلاص هو بالتحديد غايّة الإيمان وليس بداية الإيمان أو الإيمان بشكل عام. المواضيع الرئيسيّة التي تشتمل عليها رسالة بطرس الأولى هي الطاعة والطهارة: “طهّروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح للمحبة الأخويّة العديمة الرياء فأحبّوا بعضكم بعضاً من قلب طاهر بشدّة” (22:1). في 2:2، يشدّد على عمليّة النموّ في الحياة الروحيّة: “لكي… تنموا في الخلاص”. أمّا الحرب بين الشهوات والنفس فيحكي عنها في 11:2: “أطلب إليكم كغرباء ونزلاء أن تمتنعوا عن الشهوات الجسديّة التي تحارب النفس”. في الرسالة الثانية 11:4، يعبّر الرسول بطرس عن فكرة لاهوتيّة عميقة مفادها أنّ المواعيد التي أعطاها الله عظيمة وثمينة وأن الفساد في العالم هو بسبب الشهوة، وأن بمقدور الإنسان لا أن يهرب من الفساد فقط بل أن يصبح شريكاً في الطبيعة الإلهيّة. هذه الفكرة قد نَمَت في المسيحيّة الأولى وفي فكر اللاهوت الأرثوذكسي الشرقي وهي تضع الأساسَ لعقيدة التألّه: “قد وُهب لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهيّة هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة”. لذلك بالضبط يطلب منّا في الآيات التالية أن نكمّل إيماننا وثم يقدّم عمليّة النمو الروحيّة الديناميكيّة: “ولهذا عينه وأنتم باذلون كلّ اجتهاد قدّموا في إيمانكم فضيلة وفي الفضيلة معرفة وفي المعرفة تعفّفاً وفي التعفّف صبراً وفي الصبر تقوى وفي التقوى مودّة أخويّة وفي المودّة الأخويّة محبة”.

في 2بطرس 10:1، يذكر الرسول دعوة الإنسان واختياره، ومع ذلك يطلب منه في نفس النص أن يكون مجتهداً تماماً كي يُثبت هذه الدعوة والإختيار: “اجتهدوا أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتَين”. وفي 20:2-22، يذكر الرسول أنّ السقوط من طريق البِرّ ليس فقط ممكناً ولكنه يحصل حقيقةً، وأنه أكثر سوءً بعد أن عرف المرء طريق البِرّ. كما يتكلم عن الذين عندهم معرفة الربّ كاملة: “لأنّهم إذا كانوا بعدما هربوا من نجاسات العالم بمعرفة الربّ والمخلص يسوع المسيح يرتبكون أيضاً فيها فينغلبون فقد صارت لهم الأواخر أشرّ من الأوائل. لأنه كان خيراً لهم لو لم يعرفوا طريق البِرّ من أنّهم بعدما عرفوا يرتدّون عن الوصيّة المقدّسة المسلِّحة لهم”.

رسائل القدّيس يوحنا

نجد في رسائل القدّيس يوحنا لغةَ الرسول بولس ذاتَها حول إرضاء الله، وحقيقة ناحيتي الخلاص، وأداة الشرط (إذا) نفسَها، والتأكيد على الطهارة نفسَه (أنظر 1 يوحنا 3:3)، ونفس التشديد على حفظ الوصايا وعدم الخطيئة. فالعلاقة بين محبة الله وحفظ وصاياه علاقة عضويّة تشكّل المدى الكامل لوصايا المسيح.

رسالة القدّيس يعقوب وتقييم لوثر لها

إنّ موقف لوثر من رسالة القدّيس يعقوب معروف جدّاً. فهو لم يضعْها فقط في القسم الأخير من الإنجيل الألماني، بل أيضاً وضع رسائل العبرانيين ويهوذا والرؤيا. والمعيار الذي اعتمده في هذا الترتيب هو أنّ هذه الرسائل تشكو نقصاً في “النقاوة” الإنجيليّة. ولم يكن لوثر أوّل مَن فعل ذلك، فزميلُه كارل شتادت في وتنبرغ، الذي ما لبث أن انقلب ضدّه، كان قد بيّن قبله الفرق بين أسفار العهد الجديد وكتب أسفار العهد القديم. ففي أوائل سنة 1520، قسم كارل شتادت النصوص الكاملة للكتاب المقدّس إلى ثلاثة أقسام: أولاً Libri Summac dignitatis (الكتب من المنزلة الأولى) التي تشمل كتب التوراة الخمسة وكذلك الأناجيل، Libri secundac dignitatis (الكتب من المنزلة الثانيّة) التي ضم إليها الأنبياء والرسائل الخمسة عشر، و Libri tertiac dignitatis (الكتب من المنزلة الثالثة).

لقد رفض لوثر رسالة يعقوب لاهوتياً، ولكنّه للضرورة احتفظ بها كملحق في الإنجيل الألماني. فخاتمة مقدمةِ لوثر لترجمته للإنجيل الألماني، والتي أُلغيَت فيما بعد في ترجمات هذا الإنجيل الأخرى، تقول في لغة ذلك العصر الألمانيّة: “لهذا السبب إنّ رسالة القدّيس يعقوب هي بكليّتها لا قيمة لها لأنّ ليس لها بالحقيقة أيّة أهليّة إنجيليّة”. لقد رفضَها لاهوتياً “لأنها تعطي التبريرَ للأعمال وبهذا تتناقض مع بولس وكلّ نصوص الكتاب المقدّس الأخرى… إذ فيما الغايّة منها هو تعليم الناس المسيحيين، لم تذكرْ مرةً واحدة الآلامَ والقيامةَ وروح المسيح. كلمة “المسيح” وردت مرتين دون أن تعلّم شيئاً عنه، لقد دعت الناموس ناموس الحريّة بينما دعاه بولس ناموس العبوديّة والغضب والموت والخطيئة”.

وقد أضاف لوثر كلمة “وحده” في الرسالة إلى أهل روميّة 28:3 قبل “من خلال الإيمان”، لكي يناقض ما ورد في رسالة يعقوب 24:2 “ترون إذاً أنّه بالأعمال يتبرر الإنسان لا بالإيمان وحده”. وعلاوة على ذلك فقد أصبح لوثر عنيفاً ومتعجرفاً في ردّه على الانتقادات التي وُجّهت إليه بسبب إضافة كلمة “وحده” إلى النصّ الإنجيليّ: “فإذا أثار أحد ينتمي إلى المذهب الكاثوليكي عندكم ضجّةً كبيرة حول كلمة Sola، وحيد allein، أخبروه حالاً: أنّ الدكتور مارتن لوثر قد وضعها هكذا وهو يقول: إنّ المنتمي إلى المذهب الكاثوليكيّ والدابةَ هما شيءٌ واحد، (sic volo, sic jubeo, sit pro ratione voluntas). إذ لا نريد أن نكون تلامذةً وأتباعاً لهم، بل أسيادَهم وقضاتَهم”. يتابع لوثر بطريقة ساخرة، في محاولة لتقليد القدّيس بولس عند ردّه الأخير على خصومه، فيقول: “هل هم دكاترة؟ فأنا كذلك. هل هم متعلّمون؟ فأنا كذلك. هل هم واعظون؟ فأنا كذلك. هل هم لاهوتيون؟ فأنا كذلك. هل هم فلاسفة؟ فأنا كذلك. هل يؤلّفون كتباً؟ فأنا كذلك. وسأتَباهى بأنّني أستطيع أكثر منهم تفسير سفري المزامير والأنبياء, بينما هم لا يستطيعون ذلك. أنا أستطيع الترجمة، أما هم فلا… وهكذا ستبقى كلمة “وحده” “في العهد الجديد خاصّتي ولو غضب البابوات-الدواب وجُنّوا فلن يستطيعوا نزع هذه الكلمة”. قد طبعت كلمة “وحده” في بعض الترجمات الألمانيّة بأحرف كبيرة! لقد اتّهم لوثر بعضُ نقّادِ ترجمته بأنّه قد عمد قصداً إلى الترجمة غير الدقيقة لكي يدعم آراءه الدينيّة. ففي أوائل 1523 ادّعى د. امزر Dr. Emser، الذي كان معارضاً للوثر، أنّ ترجمة الأخير للكتاب المقدّس قد احتوت على ألف غلطة في قواعد اللغة وألف وأربعمائة غلطة منافية للدين”. هذا مبالَغ فيه، ولكن الحقيقة تبقى أنّ في ترجمة لوثر أخطاء عديدة.

في الواقع، أنّ موقف الإصلاح برُمَّتِه إزاء كُتُب العهد الجديد يتعارض مباشرة مع رأي أوغسطين الذي حظي بمنزلة كبيرة في نواحي كثيرة عند لاهوتيّي الإصلاح. فقد استوحَوا منه، خاصةً لوثر وكالفن، أُسُس رؤيتهم اللاهوتيّة خاصة في القَدَريّة والخطيئة الأصليّة والنعمة التي لا تقاوَم. ولكن لا يوجد في موضوع الكتاب المقدّس، كما في أمور غيره، أيّة أرضيّة مشتركة بين لوثر وكالفن من جهة وأوغسطين من جهة أخرى. لقد كتب أوغسطين “يجب أن لا أصدّق من الإنجيل إلاّ ما تطلبه السلطة في الكنيسة”. وتجدر الإشارة إلى أنّ موقف كالفن من رسالة يعقوب لم يكن معارضاً.

لقد وقع لوثر في أُحبولة استخلاصه البِرّ سلبيّاً. وكراهب، فقد كان مستاءً من خبرته في ممارسة ما أسماه البِرّ بالأعمال. كما أخطأ أيضاً في محاولته إيجاد معنى خاصٍ لخطٍّ واحد من فكر القدّيس بولس لدرجة أنّه افتقد الأساس الأصلي الذي منه انبثقت آراء القدّيس يعقوب واعتبر ذلك مشيئة الله وإرادته. إنّ انتقاد لوثر بأن القدّيس يعقوب لم يذكر الآلام والقيامة وروح المسيح هو انتقاد تافه لأنّ قرّاء القدّيس يعقوب عرفوا ما أودع الرسل: لم يكن هناك أيّة حاجة ليذكر كُنْهَ الإيمان الحي وجوهرَه المعروفَين لدى قرّاء الرسالة. إنّ هذا النقد يكشف نقصاً كبيراً عند لوثر في حِسّ الحياة التاريخيّة لكنيسة العصور الأولى أو فهمها. فالكنيسة كانت موجودة، ومن الكنيسة ولها كُتبت الرسائل. تاريخياً، وُجدَت الكنيسة قبل أن يُكتَب أيُّ نصٍّ من العهد الجديد. لقد وُجِدَت الكنيسة وتأسّست على التقليد الشفوي الذي تسلَّمه من الرسل، كما يظهر بوضوح من صفحات كتاب العهد الجديد.

إن إرادة الله هي الأساس المحدَّد الذي ترتكز عليه رؤيّة القدّيس يعقوب اللاهوتيّة. ففي 1: 17-18، يكتب القدّيس يعقوب: “كلّ عطيّة صالحة وكلّ موهبة كاملة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران. شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه”. وفي 15:4، يكتب: “عوض أن تقولوا إنّ شاء الله وعشنا نفعل هذا أو ذاك”. من الوجهة اللاهوتيّة، يُعتبر نص الآيّة 8:4 في رسالة القدّيس يعقوب ضعيفاً: “إقتربوا إلى الله فيقترب إليكم”. فهذه الآيّة بمفردها فيها صدى لآراء بلاجيوس وفي الأدب الرهبانيّ والنّسكيّ نصادف كثيراً من هذه التعابير. ولكن المعنى في كلا الرسالة والأدب الرهبانيّ والنّسكيّ يجب أن يُفهم من ضمن سياقها العام. فعندما يحدث التعاضد في عمليّة الخلاص داخل القلب الإنسانيّ، عندئذ تصبح النسبة الوجوديّة بين النعمة والتجاوب معها فاعلة كثيراً حتى يصبح ممكناً، كما يفترض، استخدام هذه التعابير. ذلك بالضبط لأنّ الله يكون قد بدأ عمل النعمة التي تعمل دائماً في قلب الإنسان وفي كلّ أعماق داخله كما في خارجها. يجب أن يُفهَم نص رسالة يعقوب من سياق الآيتين 18:1 و 15:4، وأكثر من ذلك يجب أن نلاحظ أنّ هذا النصّ قد سَبَقه “اخضعوا إذاً لله”. وقد تحدّدت العلاقة في كونِنا “خاضعين لله”، هذه العلاقة التي تفترض مسبقاً مبادرةَ الله وتجاوبَ الإنسان.

إن رسالة يعقوب تضمّ تعابير كثيرة استُخدمت في الحياة الرهبانيّة والنّسكيّة: التجربة (14:1) والشهوات (1:4) والتنقيّة والتطهير واتضاع الذات “اكتئبوا ونوحوا وابكوا” (9:4)، كما الكلمات الجارحة ضدّ الأغنياء (1:5-6) في الفقر الرهباني.

حياة الكنيسة الأولى

إن حياة الكنيسة في العصور الأولى، كما وصفتها أعمال الرسل، واضحة جداً، حتى أنّه من غير الضروريّ أن نعرض أو نحلّل النصوص لنبرهن وجود أُسُس شكل من الروحانيّة المماثلة لتلك التي تتصّف بها المسيحيّة الرهبانيّة والنّسكيّة. كما تجدر الإشارة أيضاً إلى حياة القدّيس يوحنّا المعمدان التي تشكّل قاعدةً صلبةً يتخذها تلميذ ذو أصول رهبانيّة مثل دوم جرمان مورين (Dom Germain Morin) ليرفع تناقض المعمدان الظاهر: “الجديد في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع لم تكن الحياة الرهبانيّة بل بالأحرى حياة التكيّف التي عاشها أعداد كثيرة من المسيحيين مع العالم في زمن توقف الإضطهادات. إنّ الرهبان في الحقيقة لم يعمَلوا شيئاً سوى حِفظ مُتُل الحياة المسيحيّة التي من الأيام الأولى وسط ظروف متغيّرة… وثمّة سلسلة أخرى مستمرّة من الرسل إلى المتوحّدين النساك، وبعدئذ إلى الرهبان من الأديار. مثالُهم هو أقلّ غرابة مّما يظهر، وقد انتشر بسرعة كبيرة في الصحراء المصريّة في نهايّة القرن السادس الميلاديّ. هذه السلسلة تتألّف من الرجال والنساء الذين عاشوا في ورع ونسك وبتوليّة، ولم يتوقف تكريمهم في الكنيسة القديمة”.

Leave a comment