أزمة أوكرانيا وحال الأرثوذكسية في العالم

أزمة أوكرانيا وحال الأرثوذكسية في العالم

الأب أنطوان ملكي

بعض التاريخ

عرفت أوكرانيا المسيحية منذ القرون الأولى. يحكي التقليد عن أن الرسول أندراوس الذي تنقّل على شواطئ البحر الأسود في بلاد الإسكيثيين وصل إلى أوكرانيا وعلّم على بعض التلال وزرع صليباً وتنبأ بأن هناك سوف تنشأ مدينة مسيحية عظيمة، هي ما صار لاحقاً كييف. نشأ في المنطقة التي تشكّل اليوم أوكرانيا عدد من الأبرشيات، وكان من بين أساقفتها مَن شارك في المجامع المسكونية بدءً من الأول. هذه الأبرشيات تبع بعضُها روما والبعض الآخر القسطنطينية، بحسب منشئيها.

القديسان كيرللس ومثوديوس خرجا من القسطنطينية مبعوثَين إلى تبشير الخزر بطلب من ملكهم مورافيا الكبير. توقّف القديسان في أوكرانيا حيث وضعا الأبجدية الغلاغوليتية، التي صارت لاحقاً السلافونية، والتي منها استُنبِط الخط الكيرللي. هذه اللغة أتاحت ترجمة الإنجيل والكتب الطقسية من اليونانية إلى السلافونية لاستعمال المؤمنين المنضمّين إلى المسيحية على يدي القديسَين. على ما يظهر من التاريخ أن القديسَين وجدا بعض الكهنة اللاتين في أوكرانيا ونشأ بعض التوتر بينهم ما استدعى أن يستنجد القديسان بأسقف روما الذي قدّم لهما الدعم.

الوضع القائم

اليوم يوجد في أوكرانيا 3 مجموعات أرثوذكسية. الأولى والأقدم هي التابعة لبطريركية موسكو، وهي الأكبر من حيث عدد الرعايا والمؤمنين وتضمّ حوالي السبعين بالمئة من الرعايا والمؤمنين الأوكرانيين، اي ما يزيد عن العشرة آلاف كنيسة. وجود هذه الكنيسة شامل في الشرق ويضعف في الغرب أما في كييف فهي الأكبر ولكن بفرق قليل عن بطريريكية كييف (الثانية من حيث الحجم). تتمتّع هذه الكنيسة باستقلال ذاتي ضمن الكنيسة الروسية وتمارس علاقات طبيعية مع كل الكراسي الأرثوذكسية. على رأسها الميتروبوليت أونوفريوس منذ 2014.

الثانية هي كنيسة أوكرانيا الأرثوذكسية، بطريركية كييف. هذه نشأت في 1992، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال أوكرانيا عن موسكو. هذه لا تعترف بها أي من الكراسي الأرثوذكسية، وهي تتمتّع بدعم من الحكومة الأوكرانية. يرأسها (البطريرك) فيلاريت الذي كان قبلاً رئيس أساقفة كييف وهو اليوم محروم من الكنيسة الروسية. تضمّ هذه المجموعة ما أقلّ من الثلاثين بالمئة من الرعايا الأوكرانية ولها امتداد في أميركا الشمالية وأوستراليا.

المجموعة الثالثة هي كنيسة أوكرانيا الأورثوذكسية المستقلة. هذه نشأت في 1921 ودعمها الحكم السوفياتي ثم عاد فاضطهدها ثم أحياها الوجود النازي في الحرب العالمية الثانية ما دفع السوفيات إلى نفي رؤسائها بعد الحرب. عاد السوفيات واعترفوا بها في 1980 مع بقاء بطريركها في المنفى. بعد وفاة البطريرك في 1993 حصلت على اعتراف رسمي من الدولة بأنها كنيسة مستقلة من بعد وحدةٍ قصيرة مع بطريركية كييف. ومن بعد هذه المرحلة تطوّر الحوار مع الكنيسة الروسية دون أن يصل إلى نتيجة إلى اليوم. في داخل أوكرانيا هي المجموعة الثالثة من حيث الحجم، لكن قوتها كانت في المهاجر حيث أنشأت في 1990 الكنيسة الأوكرانية في كندا والكنيسة الأوكرانية في الولايات المتحدة الأميركية، اللتين ضمّهما البطريرك المسكوني في 1995 إليه مستنداً إلى نصوص نقل كرسي كييف إلى كنيسة موسكو في 1686، معتبراً أن النص لا يحكي عن نقل كامل. هذه الفذلكة أنتجها يوحنا زيزيولاس، مطران برغامون في الكرسي القسطنطيني، وهو لاهوتي معروف في العالم، وهو صاحب فذلكات عديدة أدّت إلى مشاكل مع كنائس أخرى، كاليونان مثلاً.

في أيلول 1997، التقى في أوديسا (اوكرانيا) البطاركة المسكوني برثلماوس والروسي ألكسي والجيورجي إيليا. في حديث مع الصحفيين كان البطريرك المسكوني واضحاً في إدانته للمجموعات المنشقة عن الكنيسة القانونية التابعة لمجمع كنيسة موسكو. كان المفترض أن ينتهي اجتماع البطاركة الثلاثة ببيان يوزعونه في مؤتمر صحفي، ما لم يحدث. حيث تبيّن أن البيان والمؤتمر الصحفي أُلغيا بطلب مباشر وضغط من السفير الأميركي في كييف الذي اتصل بكل واحد من البطاركة مؤكّداً دعم بلاده لبطريركية كييف المنشقّة.

في الحرب الداخلية الأخيرة في أوكرانيا، وخاصةً من بعد انفصال القرم عنها وانضمامها إلى روسيا، ارتفعت حدة العلاقات بين المجموعات الثلاثة وصار تدخّل الدولة الأوكرانية ضد الكنيسة التابعة لبطريركة موسكو واضحاً. فالعديد من الكنائس تعرّضت لوضع اليد حيث كانت المجموعات التابعة لبطريركية كييف تهاجمها أثناء الصلاة فتطرد الكهنة وتعيّن مكانهم، مدعومة من الشرطة الأوكرانية. وأثناء المعارك التي دارت في السنوات الأخيرة، تعرضت العديد من الكنائس التابعة لموسكو إلى القصف المباشر ومنها أثناء الصلاة. في الأصل لم يكن الشعب الأوكراني مبالياً بالانقسامات، حيث أن الغالبية كانت تمارس عبادتها في الكنيسة القريبة منها بغض النظر عن انتمائها. اليوم ما زال هذا الأمر قائماً في المناطق التي لم تتعرّض لهزات أمنية، إجمالاً في الوسط. أظهرت بعض الإحصائيات أن غالبية الأوكرانيين لا يعرفون بالضبط الخلفية الحقيقية لتعدد الكنائس في بلادهم.

في كانون الثاني 2017 كتب فيلاريت بطريرك كييف إلى بطريرك موسكو داعياً إلى الاتفاق، لكن الضغط السياسي ألزمه على سحب رسالته في اليوم التالي ما استدعى توقف الإعلام عنده.

ما أجج الخلاف مؤخراً هو ارتفاع وتيرة التواصل بين القسطنطينية وبطريركية كييف، واستقبال المطران يوحنا زيزيولاس، ممثلاً البطريرك برثلماوس، وفداً من الأوكران حيث أعلن أمامهم أن نقل متروبوليتية كييف إلى بطريركية موسكو، في 1686، كان ذا طبيعة مؤقتة. ما زاد من حدة الخلاف هو موقف الدولة الأوكرانية حيث أن رئيسها بترو بوروشينكو أيضاً قام بزيارة القسطنطينية وطلب من البطريرك الاعتراف بكنيسة أوكرانية مستقلّة تضمّ كل المجموعات.

موسكو اعتبرت، على لسان الميتروبوليت إيلاريون رئيس قسم العلاقات الخارجية، أن كلام القسطنطينية عن أن نقل متروبوليتية كييف إلى بطريركية موسكو كان مؤقتاً كلاماً غير مؤكّد ولا وثائق تظهره. إيلاريون أكّد أن حجم الوثائق الموجودة يفوق 900 صفحة من السلافونية واليونانية ولا يوجد أي إشارة فيها إلى أنّ النقل كان مؤقتاً، وأن أياً من البطاركة المسكونيين لم يشكك بانتماء كييف إلى كنيسة موسكو خلال كل هذه السنوات. كما ركّز على أن حجم الميتروبوليتية عندما تمّ ضمها إلى موسكو كان دون الحجم الحالي بكثير، حيث أن أوديسا أو دونتسك والقرم لم يكونا جزءً منها.

توقّع العديد أن يتطرق مجمع كنيسة القسطنطينية، في جلسة عقدها في أول حزيران 2018، إلى استقلال أوكرانيا، والمتحمسون توقعوا إعلانه. لم يكن هناك أي إشارة إلى هذا الأمر. بالمقابل أرسلت القسطنطينية موفدين إلى الكنائس الأرثوذكسية الأخرى لمناقشة الأمر معها. في عيد الرسول برثلماوس، اعلن البطريرك المسكوني أن الكلام عن انشقاق يعني أن الملايين من الإخوة هم خارج الكنيسة، لهذا نحن مدعوون إلى يقظة روحية رسولية، وهذا ما تقوم به الكنيسة الأم (القسطنطينية) في حالتَي أوكرانيا ومقدونيا، حيث أن مسؤوليتنا هي جلب كل الأمم إلى الحق وقانونية الكنيسة“. هذه الحادثة تلاها كلام على لسان أحد أرشمندرية القسطنطينية بأن أحد عباقرة اللاهوت في جامعة أثينا قد كتب قراراً بشأن أوكرانيا والقرار ينتظر توقيع البطريك المسكوني.

ردّ الروس أتى على لسان الميتروبوليت إيلاريون الذي ذكّر بوثيقة اتفق عليها ممثلو الكنائس الأرثوذكسية في اللجنة التحضيرية في اجتماعهم في شامبيزي سنة 1993 ومن ثمّ أُقرَّت في 2009، عنوانها الاستقلالية وسبل إعلانها“. أهمّ ما في الوثيقة أمران: الأول هو أن الاستقلالية تُعطى إلى كنيسة محلية بموافقة الكنيسة التي سوف يتمّ الاستقلال عنها. والثاني هو أن الاستقلالية تُعطى على أساس إجماع أرثوذكسي.

في الأول من تموز الحالي، أجج البطريرك المسكوني الخلاف بقوله بأن القسطنطينية لم تعطِ أوكرانيا لأحد وبأنها ما زالت ضمن سلطتها. ودعماً لكلامه استشهد بقرار إعطاء الاستقلال لكنيسة بولونيا في 1924، حيث الشرط هو انتخاب رئيس الأساقفة م مجلس يضمّ إكليروساً وعلمانيين على أن توافق القسطنطينية، وفي حالت أوكرانيا، تقوم موسكو بالسيامة.

ماذا بعد؟

لا بشائر حلول في الأفق بالنسبة لأوكرانيا. التناغم القوي بين الكنيسة الروسية والدولة ممثلة بالرئيس فلاديمير بوتين، يزيد من الضغط الغربي لخلق انقسامات في المجتمعات الأرثوذكسية المرتبطة بشكل أو بآخر بالروس. على هذا الضوء تُفهم المشاكل القائمة اليوم حول كنيسة مكدونيا والتي تطال كنائس صربيا وبلغاريا والقسطنطينية. وكونه لا يمكن فصل قضية كنيسة مكدونيا عن أزمة اسم مكدونيا، فإن كنيسة اليونان تصير معنية أيضاً.

أغلب رؤساء الكنائس الأرثوذكسية عبّروا عن مواقفهم والتي لا تبدو في صالح المجموعتين المنشقتين عن الكنيسة الأم، أي كنيسة موسكو في أوكرانيا. أول موقف أنطاكي عبّر عنه الأسقف قيس صادق في كانون الأول 2016، حيث أعرب عن رفض تدخل السياسيين في أمور الكنيسة. البطريرك الأنطاكي يوحنا العاشر عبّر عن موقف واضح رافض لللانشقاق الحاصل وداعماً للكنيسة القانونية الروسية. بطريرك الاسكندرية ثيوذوروس الثاني كان واضحاً أيضاً في دعوته فيلاريت إلى التوبة والعودة إلى الكنيسة التي انشق عنها. روستيسلاف ميتروبوليت كنيسة تشيكيا وسلوفاكيا طلب من السياسيين عدم التدخل في أمور الكنيسة متحدثاً عن الدولة الأوكرانية. مجمع الكنيسة الأرثوذكسية البولونية دعا المنشقين إلى التوبة والعودة عن انشقاقهم حتى تكون الكنيسة الواحدة واحدة بالفعل. ييرونيموس رئيس اساقفة اليونان تلافى الإجابة على سؤال حول أوكرانيا بعد اجتماعه بالبطريرك المسكوني.

حال الأرثوذكسية اليوم

بالمقابل، على المقلب الآخر، أزمة أنطاكية مع القدس صارت من الماضي. لا أحد مهتمّ بها في العالم الأرثوذكسي إذ إن أوكرانيا أخذت كل الاهتمام وإليها تشخص الأنظار اليوم.

إن هذا الواقع المشحون خطير ومؤذٍ للكنيسة الأرثوذكسية حيث أن الخلاف الذي كان حول الشتات، أوروبا الغربية وأميركا وأوستراليا، انتقل اليوم ليصير داخل الكنائس. فقد أُهمِل الخلاف حول إنشاء كنائس مستقلة في الأميركيتين وأوستراليا، لينتقل إلى مناطق هي بالأصل من ضمن كنائس محددة.

من جهة أخرى، وهنا الخطر الأكبر، إن هذا الواقع معثِر للمؤمن الذي يرى الرئاسات الأرثوذكسية تختلف مع بعضها البعض على السلطة، بشكل يستنفد طاقتها وموارد الكنيسة. فيما المؤمنون يواجَهون يومياً بأسئلة كثيرة يطرحها هذا العصر وتستدعي إجابات سريعة غير متوفّرة. فاللاهوتيون في الكنائس مشغولون بتلبية طلبات الرؤساء من الدراسات التي تبرهن سلطتهم أو تدعمها في وجه الكنائس الأخرى، بدلاً من التفرّغ لمجابهة الأفكار والدعوات والتيارات الدهرية التي تهاجم الكنيسة وتستفرد بالمؤمنين.

العثرة الأخرى، خاصةً بوجود وسائط التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي، هي في أن يرى المؤمن أن رؤساءه يتهافتون على الحوار واللقاءات مع غير الأرثوذكس ويصدِرون البيانات التي تطفح بالمحبة وبالكلام عن الوحدة والتغنّي بها، بينما يتقاتلون ويتجافون ويقاطعون ويقطعون بعضهم البعض.

يا رب يا رب اطلع من السماء وانظر وتعهّد هذه الكرمة وأصلحها لأن يمينك غرستها. لا شكّ عندنا أن أبواب الجحيم لن تقوى عليها وأن مَن يصبر إلى المنتهى يخلص. نحن نؤمن يا رب فأعِن ضعف إيماننا.