مشروع ليلى وواقع أنطاكية

الأب أنطوان ملكي

عَبَر المجتمع اللبناني بخضّة عنوانها مشروع ليلى. قد تكون انتهت شكلاً لكن آثارها سوف تظهر تباعاً وسوف يظهِر الوقت صحة أو خطأ الشكل الذي اتخذته المعالجة. يوميات هذه الخضّة تتنقل بين المؤسف والمؤلم والمستفّز. اندفاع الأشخاص، من كل الاتجاهات، بالتهديد أو التخوين أو الدفاع عن الخطأ يدلّ على أن هذا المجتمع يعاني. بعض المواقف كانت خارج المنطق والتاريخ والجغرافيا، منها بالتحديد استنهاض الأمّة السريانية المارونية، الذي إن دلً فَعَلى مخاطر اللعب بالتاريخ.

كنسياً، واضح في تاريخ الكنيسة أن غالبية صياغات التعليم، بما فيها دستور الإيمان نفسه، جاءت نتيجة الأزمات التي كانت الكنيسة تمرّ بها. الكثير من الآراء أعطيَت وفي كل منها شيء من الصحة ومن الخطأ. لم يصدر عن الكنيسة الأرثوذكسية أي تعليم إلا ما حملته عظة مطران بيروت، الميتروبوليت الياس، الذي أورد تعليم الكنيسة الأرثوذكسية وموقفها مما يجري واضعاً الأمور في نصابها الصحيح أي في إطار أزمة المجتمع اللبناني وانحراف الشباب عن الإيمان والتقليدات وسوء استعمال الحرية التي من الله. قبل الميتروبوليت إلياس، وبعده، صدرت آراء كثيرة عن أشخاص، من الكهنة والعلمانيين، لهم حرية الإدلاء برأيهم، وعليهم أن يتحمّلوا مسؤولية مواقفهم.

أول ملاحظة تُستَنتَج من الضجة القائمة هي أن كنيسة أنطاكية في واقعها اليوم قليلة المناعة، بشكل تتحول فيه أي قضية إلى أزمة وانقسامات. فقضية مشروع ليلى بحد ذاتها لا تستحق كل هذه الضجة ولا هذا الخطاب، مع هذا من واجب الكنيسة أن تذكّر بتعليمها، لا أن تفترض بأن كل أبنائها يعرفون ويثبتون. لا يكفي أن نكون مقتنعين بأن المسيحي الفعلي لا يمجّ هذا النوع من الفن، بل على الكنيسة أن تقول ذلك.

من جهة أخرى، يحفظ القانون للكنيسة كجماعة حقها في الاعتراض على نشر أحد اعضاء الفرقة عملاً مشوِّهاً لإحدى أهم أيقوناتها. كما أن أكثر من مادة في القانون تعطي الكنيسة حق مقاضاة مغني وكاتب وملحّن ومنتج وناشر أغنية “الجن” التي تورِد عبارات “العمادة” و”باسم الآب والإبن”. يمكن الإثبات علمياً أن هذه الأغنية إساءة للصور المسيحية. وللتذكير أن احترام الصور المادية والمعنوية في المسيحيةن التي عانت لقرون من الحرب على الأيقونات، ليس أمراً ثانوياً. وهنا لا بد من التنويه بأن الذي لا يرى في هذا الاستعمال الهذياني لصور المعمودية والآب والابن إساءة، لا بد أنه فقد حسّه بالصور حتى ولو كان فناناً أو أديباً هو نفسه يستعير الصور للدفاع عن الإساءة.

مع هذا، يبقى سؤال إذا كانت الكنيسة تستعمل حقها في الادعاء او الحراك رداً على الإساءة. هذا أمر لا يمكن التعميم فيه بل يُترَك للرئاسات تقديره بحسب كل حالة. مع التأكيد على أن المغالاة في استعمال هذا الحق تسقِط عن الكنيسة وجهها الإلهي وتحصرها في وجهها المؤسساتي. وهنا لا بد من سؤال الذين اتهموا الكنيسة الأرثوذكسية بالقمع أن يحددوا أين ومتى صار.

إذاً، قد تكون قضية مشروع ليلى انطفأت عند الكنيسة الأرثوذكسية مع كلام مطران بيروت لكن ينبغي التوقف عند ملاحظتين.

الملاحظة الأولى هي أن في كنيسة أنطاكية وجود قوي لليسار المسيحي. اليسار المسيحي هو تيار فكري يوازي بين الإنجيل وفكر العدالة الاجتماعية ويتمسّك بمفاهيم حركة الإنجيل الإجتماعي ويرى في الرب يسوع مصلحاً ثورياً. قد يتمثّل هذا الفكر بأحزاب وحركات سياسيَّة وإجتماعيَّة مسيحية، وليس هذا حالنا، كما بأفراد، وهو ما عندنا. يتحمّس متبنّو هذا الفكر لدهرية الغرب الاجتماعية والعلمانية، على الرغم من انتقادهم لسياساته. نظرتهم غير متوازنة بسبب استنادها إلى قوانين العالم على حساب فكر الكنيسة ووجدانها وتقليدها. لهذا، بتأليههم للعقل البشري يخضِعون كل ما في الكنيسة لعلوم العالم متناسين أنها في العالم وليست منه، وبتبنّيهم لشعارات العدالة والمساواة والحرية يأخذون مواقف تخالف تعليم الإنجيل والكنيسة والتقليد. من أهم ظواهر اليسار المسيحي هو نشوء لاهوت التحرير الذي يتبنّاه بابا روما الحالي فرنسيس، وهذا ما يفسّر الكثير من مواقفه وآرائه المثيرة للجدل.

من الأمثلة المهمة والملحّة على فكر اليسار المسيحي الموقف من الشذوذ الجنسي. فالكنيسة ترفض الشذوذ وتتعاطى مع الشاذّين أبوياً كمرضى إن شاؤوا التعافي، وكخطأة إن أصرّوا على رفض العلاج والشفاء. بينما اليسار المسيحي فيعاني من الفوقية الفكرية التي تبيح له المزج بين الشذوذ والشاذين فيصير مدافعاً عن الإثنين ومتّهماً الكنيسة بالظلم والظلامية معتبراً المتمسكين بالتقليد مرضى نفسيين مطالِباً بمعالجتهم. الأمر نفسه يمكن تطبيقه على المعجزات، وهذا ما نراه كل سنة عند الفصح حيث تتفتق مواهب اليساريين في نقد شعلة القبر المقدس. والأمر يتكرر عند كل موقف من شأنه أن يحافظ على الأرثوذكسية بلا عيب.

اليسار المسيحي موجود في كل الطوائف كفكر يتبنّاه بعض أبنائها، ويختلف أثره من جماعة إلى أخرى ومن بلاد إلى اخرى، كما أن أثره مرتبط بمدى التداخل بين الكنيسة والسياسة. أمّا في كنيسة أنطاكية، فالخطير هو أن الأصوات اليسارية التي نسمع بعضها بين الحين والآخر، ونسمع بعضها الآخر بشكل يومي، فقد وجدت في قضية مشروع ليلى فرصة للبوح بأفكارها. فهذا رأى أن المسيح إلى جانب مشروع ليلى، وآخر رأى أن رفض الإساءة من مشروع ليلى هو انتقاص لحرية الفن والفكر والحياة، وغيره رأى أن الدعوة إلى المقاطعة هي قمع، وما إليه. المثير للانتباه هو أن كل هذه الأصوات تنتمي إلى مدرسة واحدة، ما يؤجج التساوؤل عن دورها وما هي مسؤوليتها عن الكثير من القضايا التي تواجهها الكنيسة.

الملاحظة الثانية هي أن اختيار المجمع للعائلة موضوعاً لدورته في الخريف المقبل أتى في وقته. فمن جهة، هذا يعكس عمل الروح القدس في الكنيسة. ولكن من جهة أخرى، يضاعف حجم التحدي المطروح على المجمع والعاملين معه على هذا الموضوع. لن يكون صحيحاً ولا مقبولاً الخروج ببعض العموميات حول الزواج لمجرّد تكرار تعليم الآباء من دون تأوينه، ولا بإيراد بعض الإحصائيات عن عدد الزيجات ونسبة الطلاق والاختلاف في سن الزواج وغيره. أقلّ المطلوب هو تعليم قابل للتطبيق في مواجهة لا الزيجات المختلطة التي تأكل الكنيسة من داخل وحسب، بل موجات تفكيك العائلة الآتية عبر البرامج المدبلجة وشبكات التواصل الاجتماعي وانقلاب المعايير وتبخر القيَم وتفكك العلاقات. سوق يكون مطلوباً إعادة صياغة معنى الحرية والعدالة والمساواة في قلب العائلة كما وصفها الإنجيل لا كما يقرؤها قارئو الكتب الدهرية.

أخيراً، عندما لا تتكلم الكنيسة يتكلّم منتحلو الصفة الكنسية، وهذا ما جرى. اليقظة ليست موهبة مجانية بل هي نتيجة السهر، وعلى الكنيسة أن تكون ساهرة كي تبقى يقظة تقطع كلمة الحق باستقامة.