اشتراك الطبيعة في العبادة: تبريك العنب

جورج مانوليس

نقلتها إلى العربية أسرة التراث الأرثوذكسي

بحسب القديس باسيليوس الكبير، ما من شيء بلا هدف وجيه، لا شيء يأتي من الحظ، في كلّ شيء بعض الحكمة السرية وغير المعلَنة. وبالتالي، في ما يتعلّق بالنباتات وثمارها، وبغضّ النظر عن أهميتها البيئية كمنتجات للأنظمة البيئية، فهي أيضًا مدارس للكائنات العقلية ومدارس لمعرفة الله، التي تدرّب الفكر وتقوده من المرئي والملموس إلى التأمل في الأشياء غير المرئية.

تشكّل النباتات عنصراً هاماً في عبادة الكنيسة الأرثوذكسية. في القداس الإلهي، يُستخدَم الخبز والنبيذ، ومنتجات الحبوب والعنب. في خدمة الخبزات الخمس تُبارَك الحبوب والخمر والزيت. بالإضافة إلى ذلك، وبحسب الممارسة الليتورجية، يتمّ تقديم ثمار الأرض كالعنب والتين وتبارَك عندما تنضج. في الواقع وبشكل عام، فإن كل عمل ومهمة مرتبط بالأرض وزراعتها يكون مصحوبًا إما بالشكر للخالق أو بالطلبات لأن تؤدّي الحراثة والحصاد إلى وفرة من الثمار الصالحة.

لطالما كان في الكنيسة تقليد قوامه أن عند تقديم الخبز والخمر في القداس الإلهي تُقَدَّم أيضًا ثمار الأرض ومنتجاتها الأخرى وتُبارَك. ولكن للحفاظ على التقليد المتمثل بتقديم الخبز والخمر فقط في القداس الإلهي، أوقفَت الكنيسة تقليد تقديم المنتجات غير المرتبطة باﻹفخارستيا خلال القداس.

ما سمحت به الكنيسة كان تقديم الحبوب والعنب فقط، مع الإيضاح بأنّ هذه التقدمة تتمّ عندما تنضج هذه الثمار على أنها تبريك للثمار الأولى كطريقة للتعبير عن الشكر لله على خصوبة الأرض ووفرة ثمارها. منذ مطلع القرن الثالث، تبنّت الكنيسة صلوات من أجل الثمار الأولى كشكر الله الذي أعطاها لتعزية الناس وغذائهم. يؤتى بالثمار الأولى إلى الكنيسة كبادرة امتنان لله.

في ما يتعلق بمباركة ثمار الكرمة، يمكننا ملاحظة أن هذا تقليد كنسي قديم، له خدمتان في كتاب خدمة الكهنة في كنيسة القسطنطينية والطقوس الإمبراطورية. لذلك وفقًا للعادات القديمة، تبارك الكنيسة دائمًا الحصاد والعنب. حتى أنه في الواقع أدخِل قانون يقضي بأن تُبارَك الحبوب والخبز قبل أكلهما في بداية موسم الحصاد والقطاف.

إن تبريك العنب في عيد تجلي المسيح المخلّص هو استمرار لهذا التقليد. يوجد مخطوط من القرن العاشر يحتوي على صلاة تشكر فيها الكنيسة الله الذي سُرّ بأن تنضج الثمرة وتُقطَف وتجلب السعادة للناس بمذاقها. كما يتمّ تقديم الخمر، وهو من نتاج العنب، كهِبَة ليتم تضمينها في الاحتفال بسرّ الافخارستيا. كما يوجد صلاة أخرى لاحقة، تذكر تبريك العنب فقط، مع إشارة واضحة إلى الحرية الروحية التي يضمنها المسيح من خلال القداس الإلهي.

من المثير للاهتمام أنه في بعض التقاليد الليتورجية، تتمّ مباركة ثمر الكرمة في عيد رقاد والدة الإله، بعد القداس الإلهي. هكذا كان الحال في القسطنطينية، حيث كان البطريرك يبارك العنب في ذلك اليوم، في كنيسة سيدة فلاخرن، بحضور الإمبراطور. من النصوص الأخرى، يبدو أن التقدمة كانت تتمّ في عيد رفع الصليب الثمين. من الواضح إذن أن وقت مباركة ثمرة الكرمة يعتمد على الظروف السائدة في الطبيعة في كل منطقة وعلى الوقت الذي تنضج فيه.

إذا رغبنا في النظر إلى العلاقة اللاهوتية بين العيد وتبريك العنب، فإن أفكارنا ستنتقل حتماً إلى مَثَل الكرمة، حيث يتم تقديم المسيح ككرمة حقيقية. بمباركة العنب، يتمّ التأكيد على أن الناس يحتاجون إلى إنتاجية روحية وتقدم تحوّلي نحو القداسة والتمجيد بالنعمة والشركة مع الله. إلى ذلك، المسيح هو الكرمة التي جذورها في السماء وفروعها على الأرض. لقد تمّ تشذيب الجسد، وليس الجذر، ومن ثمّ في اليوم الثالث جلب ثمر القيامة.

من ثمّ يتبع أن مع تجلي الربّ حيث ظهر مجده استنار العالم وتمجّد. بالنتيجة، استجابت الخليقة بالتمجيد والشكر لهذه العطية والكنيسة تستمر في مباركة العالم وباكورة أثماره. هذه المباركة للأثمار تشدد على أن الخليقة تقدّم المديح والامتنان للخالق. إلى هذا، العنب هو الثمر الذي يعطينا الخمر الذي نقدّمه مع الخبز ليصيرا جسد ودم المسيح. بالاشتراك في هذه نصير وحدة في الجسد والدم مع المسيح.

نحن كبشر تسلّمنا العالم مبارَكاً ومقدساً من يد الله. كان هناك تناغم وتعاون بيننا وبين بيئتنا. السقوط جلب الفساد للخليقة لأنها تبعت الطريق نفسه الذي سلكناه. بعد عصياننا وتغربنا عن الله بدأنا باستغلال الخليقة وإساءة استعمالها. ثارت الطبيعة عدّة مرات ضدنا وقاومتنا، وكانت النتيجة أنها بدلاً من السلوك بشكل بناء وإيجابي نحونا، أنها بالغالب ما صارت سلبية وهدامة. إذاك نشعر بأنها تهددنا. إن الهيجان في علاقاتنا مع الله جلب لنا الخراب في علاقاتنا مع الطبيعة خليقته.

مع ذلك، كمسيحيين علينا أن ننظر إلى الطبيعة كفاقدة التقديس بل علينا أن نراها كهبة من الله. علينا أن نشعر بأننا في العالم نكون في محبة الله. كمسيحيين نحن نشعر بالحاجة إلى الاستجابة لهذه المحبة، بأن نأخذ عناصر من العالم المادي ونقدمها لله. نحن نجلب الخبز والخمر، عناصر ممثِّلة للعالم المادي بشكر لله ومن بعد تقديسها يُعاد تقديمها إلينا كجسد ودم المسيح. بهذه الطريقة نحن نتذوّق مسبَقاً العالم كما سوف يتجلّى في المسيح في آخر الزمن.

ملاحظة:

بالحقيقة يلاحظ الكاتب أعلاه أن عيد التجلّي هو تذوق مسبَق لآخر الزمن. بحسب إنجيل مرقس: “وَقَالَ لَهُمُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْمًا لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ». “وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ” ((1:9-2). يأتي الالتباس هنا من عبارة “بقوة”. إذا أخذَت العبارة مفصّلة ففيها (حرف الجر) “بِ” و”قوة”. معاً، يشكّلان عبارة تتعلّق بالإمكانية. إذاً، في الفيزياء، “الطاقة الممكنة” هي في اليونانية “في قوة الطاقة”. لذا الترجمة المثالية ممكن أن تكون”لن يذوقوا الموت حتى يذوقوا مسبقاً ملكوت الله” كما حدث بعد ستة أيام من ذلك.