حول الهدوئية ومعاينة الله في رسائل الرسول بولس

الميتروبوليت ييروثيوس فلاخوس

نقلها إلى العربية اﻷب أنطوان ملكي

عندما يقرأ المرء الكتاب المقدس والآباء القديسين بتأنٍّ وبفكر منفتح، من دون تحليلات تخمينية وفلسفية، يكتشف أن اللاهوت الذي أوحي إلى الرسل والآباء كان مادة إعلان واختبار، وأنهم بذاتهم اشتركوا في هذا الإعلان، بمعنى أنهم سلكوا بحسب تقليد الكنيسة. الهدوئية بمعناها الأرثوذكسي هي هدوء القلب وسلامه، وهي تقود بشكل لا يحتمل الخطأ إلى اللاهوت الاختباري، واللاهوت الإعلاني يدسر الكائن البشري بعمق أكثر في الهدوئية الأرثوذكسية المقدسة.

عندما نشير إلى هذه الأمور، يقدم اللاهوتيون المعاصرون اعتراضين. الأول هو أن الهدوئية، أو ما نسميه الهدوئية المقدسة، هو لعدد قليل من البشر، أي النساك والزاهدين فقط. الاعتراض الثاني هو أن الآباء القديسين غيّروا كلام المسيح والرسل ببعض الطرق. أي أنهم غيّروا أقوال الرسل لتتوافق بشكل أكبر مع التعليم النسكي، أو حتّى أنهم ربطوا هذه الكلمات بتصنيفات كيانية وبنظرة زمانهم إلى العالم، ما يعني أن الرسالة الآبائية ينبغي إسقاط الأسطورة منها (demythologized) حتى يصير ممكناً الرجوع إلى رسالة الرسل. كلا الاعتراضان على خطأ.

الاعتراض الأول خاطئ لأن ما يقوله التقليد الآبائي عن الهدوئية المقدسة لا يتعلّق بطريقة عيش النسّاك والزاهدين وحسب، بل يشكّل الحياة الروحية لكل المسيحيين الذين عليهم أن يسلكوا بحسب وصايا المسيح. كلّ مَن يقرأ الإنجيل بتأنٍّ يكتشف جو الهدوئية المقدسة بأكمله، وهو ما يرتبط بيقظة النوس، تطهير المَلَكَة العقلية من الأفكار والقلب من الشهوات الجامحة. بشكل أكثر عموماً، إنه يرتبط بتجدد الكائن البشري وتحوّله اللذي يتحقق بأسرار الكنيسة والحياة النسكية. في الحقيقة، الهدوئية المقدسة هي اختبار سر صليب المسيح وقيامته، التي على كل المسيحيين أن يعيشوها. طريقة الحياة هذه ليست امتيازاً لبعض الرهبان أو النسّاك، بل هي الحياة المسيحية التي يتبعها كل المسيحيين بدرجات متفاوتة.

الاعتراض الثاني أيضاً خاطئ، لأن الآباء لم يغيّروا رسالة الإنجيل والرسل. ببساطة، لقد استعملوا عبارات جديدة في بعض الأماكن، ليتعاملوا مع الهراطقة الذين عبّروا عن آرائهم باستعمال مُصْطَلَحَات زمانهم. لقد عاش الآباء القديسون في جو كلمة الإنجيل وتميّزوا بطريقة حياتهم الرسولية. لقد اختبروا معنى الحقيقة المستعلَنة. عند الضرورة استعملوا العبارات المعاصرة لهم. فالمعنى لا يتغيّر بل الكلمات فقط.

لكي نظهر أن الحياة الهدوئية هي طريقة الحياة الإنجيلية، سوف نترك جانباً تعليم الآباء القديسين ونركّز على تحليل التعليم الهدوئي عند الرسول بولس كما يظهر في رسائله. بهذا نؤكّد أن الرسول العظيم كان فعلاً لاهوتياً تجريبياً وهدوئياً كبيراً في الوقت نفسه. كل تعليم الآباء والفيلوكاليا موجود ملخصاً في تعليم الرسول بولس أو، ابتغاءً للدقة، كل تعليم النسكي والهدوئي للآباء الذين مارسوا اليقظة الروحية (الآباء اليقظون “neptic”) ولاهوت آباء الكنيسة الكبار هو تطوير لتعليم الرسل من خلال خبرتهم، تماماً كما نجده في الرسائل. كل القديسين عاشوا الخبرة نفسها.

نجد كلمة “هدوئية” ثلاث مرات في النص اليوناني لرسائل القديس بولس. في المرة الأولى تشير بشكل عام إلى طريقة حياة: ” فَإِنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذلِكَ أَيْضًا لِجَمِيعِ الإِخْوَةِ الَّذِينَ فِي مَكِدُونِيَّةَ كُلِّهَا. وَإِنَّمَا أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَزْدَادُوا أَكْثَرَ، وَأَنْ تَحْرِصُوا عَلَى أَنْ تَكُونُوا هَادِئِينَ، وَتُمَارِسُوا أُمُورَكُمُ الْخَاصَّةَ، وَتَشْتَغِلُوا بِأَيْدِيكُمْ أَنْتُمْ كَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ” (1 تسالونيكي 10:4-11). المرة الثانية تشير إلى طريقة العمل: ” فَمِثْلُ هؤُلاَءِ نُوصِيهِمْ وَنَعِظُهُمْ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِهُدُوءٍ، وَيَأْكُلُوا خُبْزَ أَنْفُسِهِمْ” (2 تسالونيكي 21:3). المرة الثالثة تشير إلى طريقة تصرّف النساء: ” بَلْ كَمَا يَلِيقُ بِنِسَاءٍ مُتَعَاهِدَاتٍ بِتَقْوَى اللهِ بِأَعْمَال صَالِحَةٍ. لِتَتَعَلَّمِ الْمَرْأَةُ بِسُكُوتٍ فِي كُلِّ خُضُوعٍ.” (1 تيموثاوس 10:2-11). واضح أن استعمال كلمة “هدوئية (hesychia)” ليس بالمعنى الذي يعطيه آباء الكنيسة اليقظون أي “علم الأفكار”، إماتة الأهواء وتحويلها، الصلاة النوسية، اليقظة، “فن السلام”، وغيره. في أي حال، بالرغم من أن الرسول بولس لا يستعمل عبارة “الهدوئية المُقَدّسة” بالمعنى الآبائي للكلمة، إنما مجمل مفهوم تعليمه يصف الحياة الهدوئية كما نكتشف من التحليلات التي ينبغي قراءتها في هذا الإطار.

من الفصل السادس من كتاب Μεταφράσεις: Μυστήρια και άσκηση، منشورات دير ميلاد السيدة، ليفاذيا، 2011، ص. 231-241