العظة الثالثة على كولوسي 1: 15-18

للقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم

ترجمة الأب الحارث إبراهيم

من الضروري بالنسبة لي اليوم، أن أدفع الدين الذي قمت بتأجيله أمس، حتّى أتمكّن من تقديمه لعقولكم عندما تكون في جاهزيّتها الكاملة. كما أظهرنا، يتكلّم بولس عن كرامة الابن، فيقول هذه الكلمات: “الذي هو صورة الله غير المنظور”. على صورة مَن ستعتبرونه؟ على صورة الله؟ إذًا، هو بالضبط كالذي يُمثّله. لأنّه إذا كان يقول على صورة إنسان، فأكون قد تكلّمتُ كمجنون. ولكن إذا كان يقول على صورة الله، فابن الله، على صورة الله، يُظهِرُ الشبه الدقيق له. لماذا لم يتمّ إطلاق تسمية “صورة” أو “ابن”، في أي موضع، على ملاك بل أطلق هاتَين التسميتَين على الإنسان؟ لماذا؟ لأنّه في الحالة الأولى، قد يؤدّي تعظيم طبيعتها فعلاً إلى دفع الكثيرين في الوقت الحاضر إلى العقوق؛ لكن في الحالة الأخرى، الطبيعة الحقيرة والدنيا تحفظ من العقوق، ولن تسمح لأيٍّ كان، حتّى لو رغب في ذلك، أن يشكّ في أي شيء من هذا القبيل، ولا تُقلِّل هذه الطبيعة من شأن “الكلمة” إلى هذه الدرجة. لهذا السبب، حيث تكون الحقارة كبيرةً، يؤكّد الكتاب المقدّس الشرف بقوة، ولكن حيث تكون الطبيعة أعلى، فإنه يتمنّع. “صورة غير المنظور” هو نفسه غير منظور أيضًا، وبطريقة مماثلة غير منظور، وإلّا ما كان صورة. لأنَّ الصورة، بقدر ما هي صورة، حتّى عندنا، يجب أن تكون مطابقة تمامًا للأصل، على سبيل المثال، من حيث السمات والشبه. لكن في الحقيقة، عندنا هنا، هذا غير ممكن على الإطلاق؛ لأنَّ فَنَّ الإنسان يفشل في كثير من النواحي، أو بالأحرى يفشل في كلّ النواحي، إذا ما فحصنا بدقّة. لكن حيث الله، لا يوجد خطأ ولا فشل.ـ

ولكن كمخلوق: كيف هو صورة الخالق؟ لأنّه لل يمكن للحصان أن يكون صورة للإنسان. لأنّه إذا لم تكن “الصورة” تعني الشبه الدقيق لغير المنظور، فما الذي يعيق الملائكة أيضًا عن أن يكونوا صورته؟ لأنّهم هم أيضًا غير منظورين؛ ولكن ليس لبعضها البعض. لكنّ الروح غير منظورة، ولكونّها غير منظورة، تكون ببساطة صورة بحسب هذا المنطق، ولكن ليس كما هو والملائكة صورًا.ـ

“بكر كلّ خليقة”. يقول أحدهم: “يا للعجب. إنّه مخلوق”. منذ متى؟ أخبرنى. لأنّه قال “بكر”؟ لاحظ، إنّه لم يقل “أول خليقة” بل “أول مولود = بكر”. وإلاّ يصبح منطقيًّا أن يُطلق عليه أسماء كثيرة، كأن يسمّى أيضًا أخًا “في كلّ شيء” عبرانيين 2: 17، وأن نأخذ منه كينونته كخالق، ونصرّ على أنّه لا يتفوّق علينا لا في الكرامة ولا في أيّ شيء آخر! ومَن هو الفهيم الذي يمكن أن يقول هذا؟ لأنّ كلمة “بكر” ليست معبرةً عن الكرامة والشرف، ولا عن أيّ شيء آخر، وإنّما عن الزمن فقط. ماذا تعني كلمة “بكر”؟ يجيبون: إنّه مخلوق. حسنًا. إذا كان الأمر كذلك، فللكلمة أيضًا معاني مرادفة. إذ من ناحية أخرى، يكون البكر من نفس الجوهر مع مَن وُلِدَ منهم أولاً. وعليه، سيكون الابن البكر لكلّ شيء – لأنّه مكتوب “كلّ خليقة”؛ لذلك، سيكون الله الكلمة هو بكر (المولود الأول) من الحجارة أيضًا، ومنّي. ولكن مرّة أخرى أخبرني: عن ماذا تعلن كلمات “بكر من بين الأموات” كولوسي 1: 18؛ ورومية 8: 29؟ أليس أنّه هو قام أولاً؟ لأنّه لم يَقُل ببساطة “من بين الأموات”، بل “بكر من بين الأموات”، ولا حتّى قال، “إنّه مات أولاً”، لكنّه قام كَبِكْرٍ من بين الأموات. بحيث لا يعلنون أيّ شيء آخر غير هذا، أنّه هو أول ثمر القيامة. بالتأكيد ليس المقصود أيًّا من هذه هنا. [ليس يقصد الرسول بولس أنَّ يسوع بكرٌ لكونه مولودًا من الآب، بل لأنَّ الخليقة به ظهرَت إلى الوجود. وتاليًا هو يُشير إلى أنَّ يسوع هو بداية الخليقة] بعد ذلك ينتقل إلى العقيدة عينها، لكي لا يفتكروا في أنّ وجوده حديث، لأنّه في الأوقات السابقة كان التواصل من خلال الملائكة، ولكنّه الآن من خلاله. لقد أوضح أولاً أنّه لم يكن لديهم قدرة (وإلا لما أنقذهم من سلطان الظلمة، الآية 13)، ثمّ بعد ذلك، يقول هو أيضًا كان قَبلَهم. ويستخدم كدليل على وجوده قَبلَهم، هذه العبارة أنّه “خلقهُم”. لأنّه “فيه”، كما يقول، “خُلِقَ الكلّ”. فماذا يقول هنا أتباع بولس الساموساتي؟ [يعتبر بولس الساموساتي الكلمةَ الإلهيّ والحكمة صفات وليس شخصًا. لذلك فشخص ربّنا ببساطة بشريّ تحت تأثير إلهي.] لقد وضع في المرتبة الأولى “ما في السماوات”، أي ما كان السؤال عنه مطروحًا، ثمّ “ما على الأرض”. ثمّ أردف يقول “ما يُرى وما لا يُرى”. ما لا يُرى، مثل الروح، وكلّ ما خُلِقَ في السماء؛ وما يُرى، مثل الإنسان والشمس والسماء، “سواء كان عروشًا”، مؤكّدًا ما هو مشكوك فيه وتاركًا ما هو معروف. “سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ”. نفهم من كلمَتَي: “سواء” و “أم”، الكلّ. وهكذا بالكلام عن الأشياء الأعظم يُظهِر أنّها تشمل الأقلّ أيضًا. لكنّ الروح ليست من بين “السلاطين”. لقد قال: “الكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ”. يا للعجب، “فيه” (الآية 16 “فِيْهِ خُلِقَ الكُلّ”) تعني “به”، لأنّه إذ قال “فيه” أضاف هنا “به”. ولكن ماذا تعني “له”؟ المعنى هو هذا: الكُلّ يَعتمد عليه من أجل ديمومته. ليس أنّه هو نفسه أخرجهم من العَدَم إلى الوجود فقط، بل هو نفسه يحفظهم الآن، بحيث أنّه لو كانت العناية الإلهيّة نبذتهم، لعادوا إلى العدم من ساعتهم وفنوا. وهو لم يَقل إنّه “يجعلهم يستمرّون”، والتي كانت طريقة أكثر جرأة في الكلام، بل ما هو أكثر دقة: “إنّهم يعتمدون عليه“. أن يكون الاعتماد عليه فقط كافٍ لأن يجعل أيّ شيء مستمرًا ويرتبط به بسرعة. هكذت أيضًا كلمة “بكر”، بمعنى الأساس. لكنّ هذا لا يُظهر المخلوقات أنّها من ذات جوهره، بل أنَّ الكلّ به، وأنّها قائمة فيه. لأنَّ بولس، عندما يقول في مكان آخر: “لَقَدْ وَضَعْتُ الأساس” (1 كورنثوس 3: 10)، لم يكن يتحدّث عن الجوهر، بل عن العمل. ولكي لا تَفتكر به أنّه خادم، يقول إنّه يجعلهم يستمرّون، وهذا لا يَقِلُّ شأنًا عن خلقهم. بالتأكيد، معنا هي حتّى أعظم: إذ بالنسبة للسابق، فإنّ المبادئ تَهدينا، لكن ليس كذلك بالنسبة إلى الأخير، إذ لا يبقى شيئًا منحلاً.ـ

يقول: “الذي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ”. هذا يليق بالله. أين بولس الساموساتي؟ ويقول أيضًا: “وفيهِ يَقُوْمُ الكُلّ”، أي إنّها مخلوقة فيه! يُكرِّر هذه التعبيرات في تسلسل وثيق، وكأنَّ تعاقبها الوثيق يعمل كطرقات سريعة تقتلع العقيدة المُميتة من الجذور. لأنّه حتّى لو أنَّ الإعلان عن مثل هذه الأشياء العظيمة قد تمّ، ينبت بعد فترة طويلة بولس الساموساتي، فكم [سيكون الحال] أعظم، إنْ لم تكن هذه الأشياء قد قيلَت من قَبْلُ؟ يقول: “وفيهِ يَقُوْمُ الكُلّ”، كيف تقوم (تتكوَّن) في مَن لم يكن، لأنَّ ما تمّ في الملائكة تمّ من خلاله؟

“وَهُوَ رَأسُ الجَسَدِ: الكَنيسَةِ”. إذ تحدَّث عن كرامته، يتكلّم بعدها عن حُبّه للإنسان أيضًا. يقول: “هُوَ رَأسُ الجَسَدِ: الكَنيسَةِ”. ولم يقل “[رأس] الملء” [المسكونة هي المقصودة بالملء هنا، مثلما يقول الرسول بولس في 1 كورنثوس 10: 26 “للرب الأرض وملأها τοῦ πληρώματος”]، (بالرغم من أنّ هذا مشارٌ إليه أيضًا)، بدافع من الرغبة في إظهار مودّته الكبيرة لنا، لأنّه وهو فوق، وفوق الكلّ، يربط نفسه مع أولئك الذين أدناه. لأنّه هو الأول في كلّ مكان: هو الأول فوق، والأول في الكنيسة، لأنّه هو الرأس، وهو الأول في القيامة. وفي قوله: “لكي يكون متقدِّمًا في كُلِّ شَيءٍ” (الآية 18)، يكون هو الأول أيضًا في الأجيال. وهذا ما كان بولس يسعى لإظهاره بشكلٍ رئيسيّ. لأنّه إن كان حسنًا أنّه كان قَبل جميع الملائكة، فمن ثمّ تكون النتيجة المواكبة أيضًا أنّه قام بأعمالهم من خلال أمرته لهم. وكم هو رائع حقًا، أنّه أشار إلى أنّه هو الأول في الأجيال اللاحقة. ومع أنّه يدعو آدم، في مكان آخر، أولاً (1 كورنثوس 15: 45): “صار آدَمُ، الإنسانُ الأولُ”، وهو هكذا في الحقيقة، لكنّه هنا يجعل الكنيسة مكان الجنس البشريّ بأكمله، فهو الأول من الكنيس، والأول من الناس بحسب الجسد، كأول الخلق. وعلى هذا، فهو يستخدم هنا كلمة “بكر”.ـ

فما هو معنى “بكر” في هذا الموضع؟ مَن الذي خُلِق أولاً، أو قام قبل الكلّ، كما كان المعنى في الآية السابقة “الذي هو قَبْلَ كُلِّ شيء”. وهنا يستخدم في الواقع كلمة “الثمرة الأولى” قائلاً: “مَن هو الثمرة الأولى، بكر من بين الأموات، لكي يكون هو مُتقدِّمًا في كلّ شيء”. موضحًا أنَّ الباقين هم أيضًا مثله؟ لكن في المقام الأول ليس الثمرة الأولى للخليقة. وهناك، هو صورة الله غير المنظور، ثمّ “بكر”.ـ

الآية 19 و20. لأنَّ الآبَ سُرَّ أنْ يَحُلَّ فيه كُلُّ الملء. وإذ صنع السلام بدم صليبه، لكي يُصالِحَ بِهِ الكُلَّ لنفْسِه، سواء ما كان على الأرض، أم ما في السماوات”.ـ

كلُّ ما للآب، يقول إنّه للابن أيضًا، وذلك بكثافة أكبر، لأنّه قد مات عنّا وأَتْحد نفسه بنا. قال “الثمرة الأولى” كأنّه من الثمر. لم يقل “القيامة”، بل “الثمرة الأولى”، مُظهِرًا أنَّه قدَّسَنا جميعًا، وكأنّه قدَّمَ لنا ذبيحة. يعتبر البعض أنَّ مصطلح “الملء” يشير إلى الله، كما قال يوحنا، “ومِن ملئه كُلّنا أخذنا”. إذًا، أيًّا كان الابن، الابن كُلُّه حَلَّ هناك، وليس نوع من القوى، بل جوهر.ـ

ليس لديه سبب إلا مشيئة الله: لأنَّ هذا هو المغزى من قوله “فيه سُرَّ … ويصالح به الكُلَّ لِنَفْسِه”، خشية أن تعتقد أنّه اتَّخَذ رتبة خادم فقط، قال: “لنفسه” (2 كورنثوس ٥: ١٨). ومع ذلك يقول في مكان آخر، إنّه صالحنا مع الله، كما كتب في رسالته إلى الكورنثيّين [“18ولكنَّ الكلَّ مِنَ الله، الذي صالحَنا لنَفْسِه بيسوع المسيح، وأعطانا خِدمةَ المصالحة، 19أي إنَّ اللهَ كان في المسيح مصالِحًا العالَم لنفسِه، غير حاسِبٍ لهم خطاياهم، وواضعًا فينا كَلِمَةَ المصالحة” (2 كور 5: 18 و19)]. وقال حسناً “به لينهي المصالحة”. لأنّهم كانوا قد تصالحوا بالفعل، بل يقول بالتمام، بحيث لن تكون في عداوة معه في ما بعد. كيف؟ لأنّه ليس أنَّ المصالحة انطلَقَت فحسب، بل أيضًا طريقة المصالحة. “إذ صنع السلام بدم صليبه”. تُظهِر كلمة “مصالحة” أنَّ هناك عداوة، كما تُظهِرُ كلمة “صنع السلام” أنَّ هناك حربًا. “وإذ صنع السلام بدم صليبه، بنفسه، سواء ما كان على الأرض، أم ما في السماوات”. إنَّ المصالحة أمرٌ عظيم حَقًّا، فإن تمّمها بنفسه فهي أيضًا أعظم؛ وأعظم بكثير – كيف بنفسه؟ بدمه. بدمه، ولم يقل بدمه فقط، بل بما هو أعظم، بالصليب. حتّى صارت خمسٌ تدعو للعجب: صالحَنا، مع الله، بنفسه، بالموت، بالصليب. مثير للعجب مرّة أخرى! كيف خلطهم! فلئلا تظنّ إنّه أمرٌ واحد فقط، أو أنَّ الصليب هو شيء في حَدِّ ذاته، قال: “بنفسه”. ما مقدار معرفته أنَّ هذا كان أمرًا عظيمًا. لأنّه ليس بالكلام، بل بإعطاء نفسه للمصالحة، هكذا أبدع الكلّ.ـ

ولكن ما هي “ما في السماوات”؟ لأنّه بالعقل فعلاً يقول: “ما على الأرض”، لأنَّ أولئك كانوا ممتلئين عداوة، ومتعدِّدي الإنقسامات، وكان كلّ واحد منّا في اختلاف تامّ مع نفسه، ومع الكثيرين، لكن كيف صنع السلام بين “ما في السماوات”؟ هل كانت هناك معركة وحربٌ أيضًا؟ فكيف نصلّي إذًا قائلين: “لِتَكُن مشيئَتُكَ كما في السماء كذلك على الأرض”؟ (متّى 10: 6) ما هو إذن؟ انفصلَت الأرض عن السماء، وأصبح الملائكة أعداءً للناس، لرؤيتهم الربَّ مُهانًا. قال في أفسس 1: 10: “ليجمَعَ كُلَّ شيءٍ في المسيح، ما في السماوات، وما على الأرض”. كيف؟ ما في السماء فعلاً هكذا: لقد نقل الإنسان إلى هناك، لقد أحضر إليهم العدو الذي يكروهنه. لم يكتفِ بصنع السلام بين ما على الأرض، بل أحضر إليهم مَن كان عدوهم وخصمهم. هنا كان السلام عميقًا. فعادت الملائكة للظهور مرة أخرى على الأرض بعد ذلك، لأن ذاك الإنسان عاد فظهر أيضًا في السماء. ويبدو لي أنَّ بولس قد اختُطِفَ بهذا الأمر (2 كورنثوس 12: 2) [“أعرِفُ إنسانًا في المسيح قَبلَ أربع عشرةَ سنةً. أفي الجسد؟ لستُ أعْلَم، أمْ خارج الجسد؟ لستُ أعْلَم. الله يعلَم. اختُطِفَ هذا إلى السماء الثالثة”]، ولكي يُظهِر أنّ الابن أيضًا قد استُقبِلَ هناك. لأنّه في الحقيقة كان السلام في الأرض ذا شِقَّين: مع ما في السماء وفي ما بينهم؛ في حين أنَّ السلام كان في السماء بسيطًا. لأنَّه إذا كانت الملائكة تبتهج بخاطئٍ واحد يتوب، فكم بالأكثر سيبتهجون بكثيرين!ـ

يقول: إذا كانت قوة الله قد عملَت كلّ هذا، لماذا إذن تضعون ثقتكم في الملائكة؟ لأنّهم حتّى الآن كانوا بعيدين جدًّا عن قَبولهم بقربكم، إذْ كانوا أعداءكم الأبديّين، لولا أنّ اللهَ نفسه قد صالحكم معهم. فلماذا تركضون إليهم؟ هل تعرف مدى الكراهية التي كان الملائكة يكنّونها لنا، كم كانت عظيمة، وكيف كانوا ينفرون منّا دائمًا؟ لقد أُرسلوا للانتقام في قضيّة بني إسرائيل، وداود، والصادوميّين، ووادي البكاء. (خروج 23: 20). لكنّهم ليسوا كذلك الآن، بل على العكس من ذلك، رنّموا على الأرض (2 صموئيل 24: 16) بفرح شديد. وهو الذي أحدرهم إلى الناس (تكوين 19: 13)، وأصعد الناس إليهم.ـ

وأصلّي من أجلكم لتلاحظوا المذهل في هذا: لقد أتى بهؤلاء إلى هنا أسفل، ثمّ أصعد الإنسان إليهم، فأصبحت الأرض سماء، لأنَّ تلك السماء كانت على وشك استقبال ما على الأرض. لذلك، نقول عندما نشكر: “المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض سلام، وللناس المسرّة”. يقول: أنظروا، حتّى الناس بدوا سعداء به بعد ذلك. ما هي “المسرّة”؟ (أفسس 2: 14؛ التثنية ٣٢: ٨، السبعينيه) هي المصالحة. لم تَعُد السماء جِدارًا فاصلاً. في البداية كانت الملائكة حسب عدد الأمم، لكنّهم الآن، ليسوا بعدد الأمم، بل بعدد المؤمنين. مِن أين يتّضح هذا؟ إسمع المسيح قائلًا: “أنظروا، لا تَحتَقروا أحد هؤلاء الصغار، لأنّ ملائكتهم ينظرون كلَّ حين وَجْهَ أبي الذي في السماء”. (متّى 18: 10) لأنّ لكلّ مؤمن ملاك. لأنّه حتّى منذ البداية، كان لكلّ مَن اعتُمِدَ ملاكه، كما يقول يعقوب: “الملاك الذي يُطعمني، ويخلّصني منذ شبابي”. (تكوين 48: 15-16)، فإذا كان عندنا ملائكة، فلنكن متيقّظين، كما لو كنّا في حضور معلّمين؛ لأنّه يوجد شيطان أيضًا. لذلك نصلّي، نطلب ملاكَ سلامٍ، وفي كلّ مكان نطلب السلام (لأنّ لا شيء يعادله): يمنح للكنيسة السلام، في الكنائس، في الصلوات، في الطلبات، في التحيات؛ مرّة، ومرّتين، وثلاث مرّات، ومرّات عديدة، حين يقول: “السلام لكم”. لماذا؟ لأنَّ هذا هو أمّ كلّ الصالحات. هذا هو أساس الفرح. لذلك، أمر السيّدُ المسيحُ الرسلَ أنّهم عند دخولهم إلى المنازل يقولون هذا على الفور، باعتباره رمزًا للأشياء الصالحة. فقد قال: “عندما تدخلون إلى منزل، قولوا: السلام لكم”. لأنّه حيثما يكون هذا مطلوبًا، لا نفع من أي شيء آخر. وقال السيّد المسيح لتلاميذه: “السلام أترك معكم، سلامي أعطيكم”. (يوحنا 14: 27) هذا يُمَهِّدُ الطريق للحبّ. والناظر على الكنيسة [المتقدِّم الذي يرأس العبادة ὁπροεστὼς]، لا يقول ببساطة: “السلام لكم”، بل: “السلام لجميعكم”. ماذا لو كان لدينا سلام مع هذا الإنسان، ولكن مع غيره، حرب وقتال؟ ما هو الربح؟ لأنّه هل من الممكن الحفاظ على الصحة، إذا كانت بعض عناصر الجسد في حالة راحة وأخرى في اختلاف، بل فقط عندما تكون كلّها في انتظام جيد، ووئام، وسلام؟ فإن لم تكن كلّها في راحة، ومستمرة في حدودها الصحيحة، ستنقلب كلّها. وعلاوة على ذلك، إنْ لم تكن كلّ الأفكار في أذهاننا في حالة راحة، لن يوجد السلام. السلام هو الخير العظيم، بحيث أنَّ صانعيه ومخرجيه، بمنطق، يُدعَون أبناء الله (متّى 5: 9 و45)؛ لأنَّ ابن الله من أجل هذا السبب جاء على الأرض، ليثبّت السلام في ما في الأرض، وفي تلك التي في السماوات. فإذا كان صانعو السلام هم أبناء الله، فإنَّ صانعي الاضطراب هم أبناء الشيطان.ـ

ماذا تقول؟ هل تثير الإدّعاءات والقتال؟ وهل يسأل أحدهم مَن هو غير سعيد؟ هناك الكثيرون الذين يفرحون بالشر، والذين يمزّقون جسد المسيح، أكثر من طعنة الجند بالحربة، أو من ثقب اليهود له بالمسامير. ذاك كان أقلَّ شرًّا من هذا. أولئك الأعضاء المقطوعين، اتّحدوا مرّة أخرى، لكنّ هؤلاء المفصولين، إذا لم يتمّ توحيدهم هنا، فلن يتمّ توحيدهم أبدًا، بل سيبقون بعيدين عن الملء. عندما تفكّر في شنّ حرب ضدّ أخيك، تصوَّر أنّك تحارب أعضاء المسيح، وتوقّف عن جنونك. ماذا لو كان منبوذًا؟ ماذا لو كان دنيئًا؟ ماذا لو كان معرّضًا للاحتقار؟ هكذا يقول هو: “ليست إرادة أبي أن يهلك أحد هؤلاء الصغار”. (متّى ١٨: ١٤) وأيضًا: “إنَّ ملائكتهم ينظرون دائمًا وجه أبي الذي في السماء”. (متّى 18: 10) الله أصبح عبدًا من أجله ومن أجلك أيضًا، وذُبح، أفأنت تعتبره لا شيء؟ بالتأكيد، أنت بهذا تحارب الله، من خلال إصدارك حُكمًا مخالفًا لحُكمه. عندما يدخل الناظر على الكنيسة، يقول من فوره: “السلام لجميعكم”، وعندما يعظ: “السلام لجميعكم”، وعندما يبارك: “السلام لجميعكم”، وعندما يحَيّي: “السلام لجميعكم”، وعندما تنتهي الذبيحة: “السلام لجميعكم”: وأيضًا في الوسط: “نعمة لكم وسلام”، أفلا يكون ذلك وحشيًا، إذا كنا نسمع أنَّ علينا أن نكون في سلام مرات كثيرة إلى هذا الحدّ، ونكون في حالة من الخلاف مع بعضنا البعض؟ أفلا نكون في حالة حرب مع الذس يعطينا السلام حين نأخذ السلام ونردّه؟ أنت تقول: “ومع روحك”، أترميه خارجًا؟ ويحي! أنَّ استخدامات الكنيسة المهيبة أصبحت مظاهر فقط، وليست حقيقة. وَيحي! أن كلمات سرّ هذا الجيش لا تتعدّى كونها مجرّد كلمات. فإنْ كنت تجهل أيضًا قول المسيح: “السلام لجميعكم”، اسمع ما يعقبه: “وأيّ مدينة أو قرية تدخلونها … عند دخولكم إلى البيت، تحيّونه، فإن كان المنزل مستحقًا، يأتي سلامكم عليه، وإنْ لم يكن مستحقًا، يعود سلامكم إليكم”. (متّى 10: 11 و13) لذلك نحن جهلة، لأنّنا نعتبر هذا مجرّد صورة من الكلمات، ولا نؤيّدها في أذهاننا. فهل أنا أعطي السلام؟ إنّه المسيح الذي يتنازل ليتكلّم بنا. حتّى لو كنّا في جميع الأوقات الأخرى خالين من النعمة، لسنا نخلو منها الآن، من أجلكم. لأنّه إن كانت نعمة الله قد فعَلَت في حمارٍ ورائٍ، من أجل تدبير ومنفعة الإسرائيليّين (عدد 22)، فمن الواضح تمامًا أنّها لن ترفض العمل حتّى فينا، بل من أجل مصلحتكم سوف تحتمل حتّى هذا.ـ

فلا يقل أحدٌ عنّي إنّي خسيس ودنيء ولا أستحق أيّ اعتبار، ويستمعني بهذه الذهنيّة. وإنْ كنتُ أنا هكذا، لكن طريقة الله دائمًا هي هذه: أن تكون حاضرةً مع أمثالي من أجل الكثيرين. ولعلّكم تعرفون هذا، أنّه قَبِل أن يتكلَّم مع قايين من أجل هابيل (تكوين 4)، ومع الشيطان من أجل أيوب (أيوب 1)، ومع فرعون من أجل يوسف (تكوين 41)، ومع نبوخذنصَّر من أجل دانيال (دانيال 2؛ 4)، كما ومع بيلشاصّر من أجل دانيال أيضًا (دانيال 5)، وأعطى إعلانًا للمجوس (متّى 2)، وتنبّأ في قيافا، رغم أنّه قاتل المسيح، ورجل غير مستحق، بسبب استحقاق الكهنوت. (يوحنا ١١: ٤٩) ويقال إنّ هارون لم يُضرب بالجُذام [البرص] لهذا السبب. أخبرني، لماذا، عندما تطاول كلاهما [مريم وهارون أخوَي موسى] بالكلام على موسى، نالت وحدها العقاب؟ (عدد 12) لا تتعجّب: لأنّه، من حيث الكرامة الدنيويّة، إذا تمّ رفع عشرة آلاف دعوى ضدّ إنسان، فلا يُقدَّم للمحاكمة قَبل أن يترك منصبه، حتّى لا يُلام شرف المنصب معه؛ الأمر أهمّ بكثير من جهة المنصب الروحيّ، أيًّا كان شاغله، لأنَّ نعمة الله تعمل فيه، وإلّا فُقِدَ كُلُّ شيء. لكن مَتَى ترك منصبه، سواء توفّي أو حتّى ههنا، حينئذٍ سينال عقابًا أمرّ فعلاً.ـ

أتوسَّل إليكم ألّا تفتكروا أنَّي أتكلَّم هذه الأمور من عندي، بل هي نعمة الله التي تعمل في غير المستحق، ليس من أجلنا، بل من أجلكم. فاسمعوا إذن ما يقوله المسيح: “إذا كان المنزل مستحقًّا، فيأتي سلامكم عليه”. (متّى 10: 13-15) وكيف يصبح مستحقًّا؟ كما يقول: “إذا استقبلوكم” (لوقا 10: 8). أمّا إنْ لم يستقبلوكم، ولم يسمعوا كلامكم، … فإنّي الحقّ أقول لكم: إنّه يكون لأرض سدوم وعمورة في يوم الدينونة حالةً أكثَرَ احتمالاً مِمّا لتلك المدينة”. ما الذي يجعلك تستقبلنا إذن، ولا تسمع ما نقول؟ ما هو المكسب الذي تنتظره منّا، ولا تهتمّ بما نتكلّم به معك؟ هذه الخدمة الرائعة، النافعة لكم ولنا، ستكون شرفًا لنا، إن سمعتمونا. واسمع أيضًا قول بولس: “لم أكُنْ أعرف، أيّها الإخوة، أنّه رئيس كهنة”. (أعمال الرسل ٢٣: ٥) واسمع أيضا قول المسيح: “اعملوا بكل ما يوصونكم به” (متّى ٢٣: ٣)، فالوصية والعمل لا يحقّرانني أنا بل الكهنوت. احتقرني إذًا عندما تراني مُجَرِّدًا من الكهنوت، إذ حينها لن أجرؤ على فرض وصايا. لكن طالما نحن نجلس على هذا العرش، طالما أنَّ لدينا المركز الأول، فلنا الكرامة والقوة كليهما، بالرغم من عدم استحقاقنا. إذا كان لعرش موسى كلّ هذا التوقير، لدرجة أنّهم يطيعونه بسبب المقام، فكم بالأحرى أكثر عرش المسيح، الذي استلمناه بالتسلسل، والذي منه نتكلّم، منذ أن عَهَدَ لنا المسيح بخدمة المصالحة.ـ

يتمتّع السفراء، مهما كان نوعهم، بسبب كرامة السفارة، بشرف كبير. من أجل الوصيّة يذهبون بمفردهم إلى قلب أرض البرابرة، وسط أعداء كثيرين؛ ولأنّ قانون السفارة يتمتّع بقوة هائلة، يكرّمهم الجميع، وينظر الجميع إليهم باحترام، وجميعهم يرسلونهم بأمان. وها نحن الآن تلقينا كلمة سفارة، وقد أتينا من الله، لأنَّ هذه هي كرامة الأسقفيّة. لقد أتينا إليكم بسفارة، طالبين منكم وضع حَدٍّ للحرب، ونحن نقول شروطها؛ غير واعدين بإعطاء مدن، ولا كميات كثيرة من الحبوب، ولا عبيد، ولا ذهب؛ بل ملكوت السماوات، والحياة الأبديّة، والاجتماع إلى المسيح، والصالحات الأخرى، التي لا نستطيع أن نخبركم بها، طالما نحن لا نزال في هذا الجسد، والحياة الحاليّة. إذاً نحن سفراء، ونودّ أن نتمتّع بالشرف، ليس من أجل مصلحتنا الخاصّة، لا سمح الله، لأنّنا نعرف عدم جدواها؛ بل من أجلكم، لكي تسمعوا بجدّية ما نقوله، حتّى تنتفعوا، لكي لا تحضروا للإستماع إلى ما يقال بعدم اكتراث أو لامبالاة. ألا ترون سفراء، وكيف يبجّلهم الجميع؟ نحن سفراء الله إلى الناس. لكن، إن كنت منزعجًا، فمن رئاسة الأسقفيّة، وليس منّا، وليس من هذا الإنسان أو ذاك، بل من الأسقف. لا يَسمعني أحدٌ إلا الكرامة. لنعمل كل شيء إذًا وِفقًا لإرادة الله، حتّى نعيش لمجد الله، ونُحسَب مستحقين الخيرات التي وعد بها أولئك الذين يحبّونه، من خلال النعمة والمحبة، إلخ.ـ

Source. Translated by John A. Broadus. From Nicene and Post-Nicene Fathers, First Series, Vol. 13. Edited by Philip Schaff. (Buffalo, NY: Christian Literature Publishing Co., 1889.) <https://ccel.org/ccel/schaff/npnf113.iv.iv.iii.html> .Revised and edited for New Advent by Kevin Knight. <http://www.newadvent.org/fathers/230303.htm>.