تنقية القلب

تنقية القلب

المتروبوليت أثناسيوس ليماسول

نقلتها إلى العربية الخورية جولي عطية عيسى

منذ الرابع من آذار 2020، يجري صاحب السيادة المتروبوليت أثناسيوس ليماسول مناقشات أسبوعيّة مع المؤمنين، مفسّرًا الكتاب المقدّس، ومطّلعًا على حاجاتهم، ومجيبًا على تساؤلاتهم

كنّا قد وصلنا إلى الفصل السابع من رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس. في بداية الفصل، يقول الرسول ما يلي: “فَإِذْ لَنَا هذِهِ الْمَوَاعِدُ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ فلنُطَهِّرْ أنفُسنا مِنْ كُلِّ ما يدَنّسُ الْجَسَدَ وَالرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ بِمَخافَةِ اللهِ” (2 كور 7: 1). ثمّ يتكلّم الرسول بولس على الأحزان التي كان على الكورنثيّين أن يقاسوها. من المفيد جدًّا لنا أن نسمع اليوم هذا الكلام، لأنّنا نرى بذلك أنّ المسيحيّين الأوائل واجهوا هم أيضًا مصاعب الحياة والتجارب والخطايا، وأنّ حياتهم لم تكن ملائكيّة. ولكن ما يهمّ هو أنّهم تعاملوا مع ذلك روحيًّا: من خلال التوبة، ومن خلال جهاد تصحيح الذات

يقول الرسول بولس في الفصل السابق إنّ جسدنا هو هيكل الروح القدس، وإنّ الله يسكن في الإنسان. وبما أنّ جسدنا هو هيكلٌ كهذا، فعلينا أن ننتبه لئلاّ ندنّس جسد الله، كما نفعل مثلاً مع أيّ بناءٍ كنسيّ: فنحن نعتبر الكنيسة مكانًا مقدّسًا ولا نفكّر مجرّد تفكيرٍ بارتكاب أيّ فعلٍ دنيءٍ فيها. يجب أن ينطبق الأمر نفسه على جسدنا، وعلى نفسنا، وعلى وجودنا برمّته، الذي هو هيكل الله. ” فَإِنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ الْحَيِّ” (2 كور 6: 16). يدعونا الله إلى أن نرفض الخطيئة والشرّ وكلّ تجربة لكي نصير بحقٍّ شعب الله، ولكي يصير الربّ أبانا ونحن أبناءه وبناته (راجع 2 كور 6: 18).

إذًا، تقول بداية الإصحاح السابع: “فَإِذْ لَنَا هذِهِ الْمَوَاعِدُ…”. إنّ الذي يَعِدُ هو الله نفسه. يَعِدُ بأنّه سيكون أبانا ونحن سنكون أبناءه عندما نرفض الخطيئة وكلّ ما يدنّس وجودنا. وإذا وعد الله بشيء، فهو لا يكذب مطلقًا. مواعد الله تتحقق؛ هو ليس مثلنا نحن الذين نَعِدُ عادةً بالقمر ولا نستطيع حتّى أن نفي نصفه. إذًا، الجهاد الذي نصنعه فيه ترقّب الحياة الأبديّة

عندما ننال موعدًا من الله، لا يمكننا دائمًا أن نفهمه. نحن نرتجي عادةً من الله شيئًا يكون ضمن نطاق إدراكنا وفهمنا. ولكن، كلّ ما نتلقّاه من الله هو بالحقيقة أكبر وأوسع بكثير ممّا يمكننا تخيّله. مواعد الله تعمل مثل التوازن. في الجهة الأولى من الميزان لدينا ثقل أعمالنا الروحيّة وصبرنا ورجاؤنا – والجميع لديهم شيءٌ ما. وفي الجهة الثانية لدينا مواعد الله. النتيجة ليست فقط توازنًا، بل إنّ مواعد الله تبطل مصاعب حياتنا هذه. الله غير مدرَك. من المستحيل أن نفهم ونقتبل بحقٍّ أيّ شيء نتلقّاه من الله. الله غنيّ. هو ليس مثلنا نحن الذين لدينا مقاييسنا الخاصّة وقيودنا الخاصّة. الله فيّاضٌ بالرحمة؛ محبّته لامتناهية ولا يمكن لمخلوقٍ أن يحتويها كلّها. الإنسان الذي يشعر بمحبّة الله يصعب عليه وصفها لأنّها تفوق الوصف

أتذكّر كيف أنّ القدّيس باييسيوس أخبرني ذات مرّةٍ عن رؤيته للقدّيسة أوفيميّة. كان ذلك في الصوم الكبير، كما نحن الآن (في وقت هذا الحديث)، في الأسبوع الثاني منه. ظهرتْ له في الصباح في قلاية الصليب المكرّم في كابسالا، وبقيت معه طول النهار. وصفتْ له القدّيسة أوفيميّة حياتها كلّها، لأنّ الشيخ لم يكن يعرف سيرتها. كان قد سمع عن قدّيسةٍ تُدعى أوفيميّة، ولكنّه لم يعلم أيّ شيءٍ عنها. أخبرته أنّها كانت شابةً تعيش في القرن الرابع في مدينة خلقيدونية، وكان عليها أن تقاسي أمرّ التعذيبات من أجل المسيح. وبينما كانت تخبره عن ذلك، رأى الشيخ حياتها كلّها أمامه، مثل فيلمٍ على التلفاز. ثمّ عندما وصلت إلى عذاباتها، خاف القدّيس باييسيوس ممّا رأى وسألها قائلاً: “كيف استطعتِ احتمال هذه العذابات كلّها؟” لقد كانت شابّةً صغيرة، والعذابات كانت بأكثر وحشيّة يمكن تصوّرها. فأجابته القدّيسة قائلةً: “يروندا، لو علمتُ أيّ مجدٍ سينال الشهداء في السماء من أجل عذاباتهم، لكنتُ جاهدتُ لكي أتعذّب أكثر، لأنّ ذلك كلّه وقتيٌّ ولكنّ مجد الله أبديّ”

دائمًا ما يقول لنا الرسل والآباء القدّيسون أنّه إذا احتملنا تجربةً ما من أجل محبّة المسيح، علينا أن ندرك أنّ مكافأة المسيح ستكون أعظم بكثير. ويجب أن نسعى من أجل نيل المكافأة من الربّ والشركة الأبديّة معه. نعم، قد يبدو الأمر وكأنّنا نخدم مصلحتنا إن طلبنا مكافأة، ولكنّنا أناسٌ ضعفاء في النهاية، ونحتاج ببساطةٍ إلى أن نرى أفق أفعالنا – هكذا هي طبيعتنا. أفق الحياة الأبديّة هو الموعد الذي أعطانا إيّاه الله. إذًا، عندما نمرّ بأوقات صعبة، يجب أن نتذكّر مواعد الله؛ يجب أن نتفكّر بصعودنا إلى الملكوت السماويّ، بأنّ حياتنا لا تنتهي بمضي هذه السنوات القليلة التي أُعطيت لنا لنعيشها هنا على الأرض، بل سوف تستمرّ في الملكوت الأبديّ. حينئذٍ، سنتمكّن من تخطّي أيّة صعوبة نواجهها، أكان على الصعيد الشخصيّ أم الاجتماعيّ أم العامّ، مثل الخطر الناتج عن فيروسات متنوّعة، أو تعدّي الأعداء على أمننا وراحة بالنا. بالطبع، نحن أناس، والقلق على حياتنا داخليٌّ فينا. ولكن مَن يستطيع أن يضمن لنا سلامتنا؟ مَن يستطيع أن يجزم لنا أنّنا لن نصاب بالكورونا؟ الله وحده يمكنه أن يمنح العالم الأمان. عندما يهب الإنسان حياته لله ويقول: “سيهتمّ الله بكلّ شيء”، سيشعر حينئذٍ بسلام النفس. هذا ما اعتاد أجدادنا على قوله، وكانوا أناسًا سلاميّين. دائمًا ما كانوا يقولون: “سيهتمّ الله”، وكانوا يؤمنون بما يقولون. وكانوا في الوقت عينه مستعدّين ليقاسوا أيّ أمرٍ يحدث في حياتهم، ممتلئين إيمانًا بأنّ الله يرى حياتنا كلّها. وحتّى عندما يأتي الموت، أي أسوأ شيء يمكن أن يحدث لإنسان، فهو لن يكون مرعبًا لأنّ الله قد غلبه

نحن نختبر غلبة المسيح على الموت كلّ يومٍ في الكنيسة. لقد دُمّر الموت بموت يسوع المسيح. وإذا كان لنا رجاءٌ في المسيح القائم، سوف نغلب الموت والفساد والمخاوف وعدم الأمان… لقد وعدنا المسيح بأن يكون معنا إلى الأبد. هو لا يطلب منّا سوى شيئًا واحدًا: أن ننقّي ذواتنا من الخطيئة. فكيف نفعل ذلك؟

طبعًا بواسطة الجهاد الذي علينا كلّنا أن نفعله: جهاد التنقية من الأهواء، جهاد الصوم، والصلاة، والمطالعة الروحيّة، والاعتراف، والاشتراك في أسرار الكنيسة، وعمل الإحسان، ومن خلال أيّ جهادٍ روحيّ ضمن طاقة الإنسان. كلّنا لدينا ضعفاتنا الخاصّة بالطبع، ولا يمكننا التغلّب على خطايانا كلّها. إنّ خلاصنا لا يشتمل على خبرةٍ بلا خطيئة، بل على توبة. يجب أن نتعلّم أن نتوب عن خطايانا وضعفاتنا. إذًا، من خلال التوبة والصلاة، ننال نعمة الله، وتصير التوبة سبب خلاص الإنسان. في النهاية، ليست الحياة التي بلا خطيئة هي التي ستخلّصنا (لا أحد منّا يعيش حياته كلّها من دون أخطاء أو خطايا). سوف نرتكب الأخطاء ونقترف الخطايا، كلّ ذلك بسبب ضعفنا. عندما نمارس جهاد محاربة الخطيئة، سندرك أنّنا لا نستطيع أن نتغلّب على كلّ شيء. وعندما نشعر بضعفنا وعدم قدرتنا على غلبة الخطيئة، سوف نحتاج إلى أن نتوب بصدق. التوبة دليلٌ على التواضع. الإنسان المتواضع تائبٌ دائمًا، ولكنّ الإنسان المتكبّر ليس تائبًا مطلقًا، لأنّ لديه فكرة مضخّمة عن نفسه، ولا يشعر بالحاجة إلى التوبة أمام الله

الصوم الكبير الذي نحن فيه الآن هو الزمن الأجمل، المملوء بالتوبة والتواضع. إذا سمعتم صلوات الصوم التي تُقرأ يوميًّا في الكنيسة، سترون أنّها مملوءةٌ بصرخة التوبة والتواضع، التي لا تقود الإنسان نحو ظلام اليأس والقنوط، بل تمنحه شجاعةً، ورجاءً، وصبرًا، ومخرجًا، ونورًا في نهاية النفق، الذي ليس سوى محبّة الله وحضوره في حياتنا

إذًا، يقول بولس الرسول: “فَإِذْ لَنَا هذِهِ الْمَوَاعِدُ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ فلنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ ما يدَنّسُ الْجَسَدَ وَالرُّوحِ”. يبدو هنا وكأنّه يفصل بين الخطيئة الجسديّة والروحيّة. في الواقع، لا فرق بينهما لأنّ الإنسان حين يخطأ، يخطأ بجسده ونفسه معًا. ولكن من أجل أن ندرك كلّ وجوه الخطيئة، يفصل الرسول بينها، ويسمّيها دنس الجسد والروح. ثمّة خطايا جسديّة، أي تلك التي يقترفها الجسد، والتي نعرفها كلّنا جيّدًا ونحاربها. ولكنّ الإنسان بكليّته يخلص. على سبيل المثال، نقول إنّنا نصوم، إنّنا نمتنع عن الطعام. إنّ صومًا جسديًّا كهذا له أثرٌ مفيدٌ بلا شكّ على نفسنا أيضًا لأنّ الإنسان هو وحدة نفسٍ وجسد. إنه شيءٌ أن تتناول حساءً خفيفًا، وشيءٌ آخر أن تتناول شيش كباب. ثمّة فرق بينهما. كذلك، ثمّة فرقٌ بين الإنسان الذي يصوم وذلك الذي لا يصوم، بين الإنسان اليقظ الذي يصلّي وذلك الذي ينام عشر ساعات. كلّ حركةٍ للنفس أو الجسد لها أثرٌ على الآخر. مثلاً، تذكُّر الإساءات والحقد هو هوى روحيّ، ولكنّه يؤثّر أيضًا على الجسد. ينعكس تذكّر الإساءات على جسد الإنسان كلّه، على سلوكه، على مظهره. أمّا هيئة الإنسان النقيّ والتقيّ، فتختلف كليًّا. تنطبع تقواه على وجهه. انظروا إلى القدّيسين كم وجوههم جميلة

أتذكّر عندما جاءت إلى الجبل المقدّس مجموعةٌ من الأساتذة من تسالونيكي، كانوا سبعة أو ثمانية. كان اثنان منهم مؤمنَين، وهما اللذان نظّما الرحلة، بينما كان الآخرون للأسف غير مؤمنين بالله. وبعد أن كان هؤلاء ينظرون إلى الرهبان طول الوقت، قالوا: “إنّ حياة الراهب تستحقّ الاحترام طبعًا؛ ولكن هل فعلاً يختلفون عنّا نحن الذين لا نحيا حياةً مسيحيّة؟” أجاب أحد الأساتذة المنظّمين قائلاً: “لا أعلم إن كنتم قادرين على الاستيعاب، ولكن انظروا إلى وجوهكم وإلى وجوه الرهبان – كيف تبدون وكيف يبدون. ألا ترون حقًّا الفرق؟ ما يشعّ منّا يختلف كليًّا عمّا يشعّ من هؤلاء الناس”. وبالفعل، أنا أيضًا لاحظتُ ذلك حينئذٍ. إذا نظرتم إلى وجوه المسيحيّين الذي يجاهدون روحيًّا، سوف ترون فيها نوعًا من السلام الداخليّ الخاصّ. أمّا الإنسان المتكبّر والغاشّ والشرّير والمحبّ المال، فهيئته تختلف كليًّا. طبعًا يجب ألاّ ندين أحدًا من خلال مظهره، ولكن غالبًا ما يبثّ وجهنا حقيقتنا كلّها

عندما يجاهد الإنسان روحيًّا، يتقدّس وجوده كلّه، النفس والجسد على حدّ سواء، لأنّ الإنسان وحدة نفسيّة-جسديّة. لا يمكننا أن نقسم الإنسان ونقول هنا تنتهي النفس وهنا يبدأ الجسد. كلاّ، خذوا الخبز مثلاً. لكي تصنعوا الخبز، عليكم أن تمزجوا الطحين بالماء وتصنعوا العجينة. ثمّ حين نكون قد خبزنا الخبز، لن نستطيع بعد أن نميّز بين الماء والطحين. هما كلٌّ واحدٌ الآن. ينطبق الأمر نفسه على الجسد والنفس البشريّين. ما دام الإنسان حيًّا، يكون وحدة نفسٍ وجسدٍ لا تنفصل؛ ولهذا يكون الموت عدوّ البشريّة، إذ إنّه يدمّر هذه الوحدة. يموت الجسد وترحل النفس إلى حيث تعيش النفوس. إلاّ أنّ المسيح سوف يبيد الموت وسيقوم الإنسان من جديد. سيقوم الجسد وحده لأنّ النفس لا تموت. حينئذٍ، ستتّحد النفس والجسد من جديد. وسيصير الجسد غير فاسدٍ مثل جسد المسيح بعد قيامته. وسوف يستعيد الإنسان وحدته النفسيّة-الجسديّة

إنّ تدنيس النفس والجسد هو أيّة خطيئة يقترفها الجسد أو النفس. لنجاهد إذًا بمخافة الله من أجل تقديس نفوسنا وأجسادنا. القداسة عملٌ روحيّ. كلّ شيء يظنّ الإنسان أنّه يفعله من أجل الله، هو في الحقيقة يفعله من أجل نفسه. على سبيل المثال، نقول: “أصوم محبّةً بالمسيح”، “أعمل الإحسان من أجل المسيح”، “أذهب إلى الكنيسة من أجل المسيح”. إنّ المسيح لا يحتاج إلى هذا كلّه. إذا لم نَصُم اليوم، بماذا يؤثّر ذلك على الربّ؟ أو ماذا سينال الله حين نصنع الإحسان؟ في الحقيقة، نحن الذين سنستفيد من جرّاء أعمالنا الروحيّة، سننال بركة، سنقدّس ذواتنا. أمّا الربّ فلن ينال شيئًا من ذلك. إنّنا نجاهد من أجل أن نكون مع المسيح. نسعى لكي ننقّي ذواتنا من أجل أن نصير المكان الذي يمكن للربّ أن يأتي ويسكن فيه. يجب فقط أن نفعل كلّ هذه الجهادات بمخافة الله، لكي نحصل على النقاء الداخليّ

ما معنى “بمخافة الله”؟ غالبًا ما نقول ذلك في الكنيسة، أو نصف شخصًا بأنّه يملك مخافة الله. يجب أن نفهم أنّ مخافة الله هذه لا تشبه مطلقًا خوفنا النفسيّ، مثلاً حين نخاف من الكلاب أو القطط أو الطائرات أو الأتراك أو الكورونا. نحن لا نخاف على هذا النحو. عندما تدعو الكنيسة قائلةً: “بمخافة الله، وبإيمانٍ ومحبةٍ تقدّموا…”، لا تعني أنّنا يجب أن نصاب فورًا بالخوف والقلق، ونبدأ بالارتجاف رعبًا. مخافة الله تعني شعورنا بالإجلال، بالمهابة المقدّسة، أي الشعور بأنّ الله قدّوس، وبأنّه أبونا ويحبّنا، وبأنّه الأقدس والأثمن في العالم. وحين يشعر الإنسان بالمهابة والمحبّة والإجلال في قلبه، هذه كلّها مجتمعة تكون مخافة الله

إنّ مخافة الله أساسيّة لبناء علاقةٍ مع الله. هذا هو العمل الأهمّ في حياتنا. كيف نبني هذه العلاقة؟ من خلال حفظ الوصايا، من خلال التوبة عن خطايانا والندم عمّا فعلنا، وذلك عبر الجهاد اليوميّ، وعبر الاشتراك في الأسرار الكنسيّة المقدّسة التي هي عنصرٌ ضروريٌّ في الحياة في المسيح. بالطبع، يجب أن يفعل كلّ إنسانٍ ذلك بحسب قدرته. ثمّ بجهادنا بمخافة الله، نقتني النعمة الإلهيّة في قلوبنا

عندما كنتُ رئيس دير ماخيراس، منذ قرابة الثلاثين سنة، ذهبنا إلى مؤتمر في جورجيا نظّمته الكنيسة الأرثوذكسيّة الجورجيّة. كانت في بداية استعادتها لنشاطها بعد سنواتٍ من الاضطهاد. كلّ شيء كان مدمّرًا. وعندما هبطنا في المطار في تبيليسي، لم أصدّق أنّه مطار. بدا وكأنّنا هبطنا في حقلٍ مفتوح: كان هناك قمحٌ ينمو وأبقار ترعى في أرجائه. وكان مبنى المطار عبارة عن غرفةٍ صغيرةٍ واحدة، فيها خزانةٌ خشبيّةٌ كُتب عليها “السوق الحرّة”، حيث كانوا يعرضون للبيع جرار المربّى وغيرها من المعلّبات! كانت الحالة صعبةً جدًّا في جورجيا في ذلك الحين. وكانت الكنيسة في تراجع. كانت الكثير من الكنائس مدمَّرة، ما يشبه كثيرًا ما نراه اليوم في الأراضي القبرصيّة التي يحتلّها الأتراك. ذهبنا نهار الأحد إلى الخدمة التي يترأّسها البطريرك. إنّ البطريرك الجورجي رجلٌ قدّيس، ما زال حيًّا ولكنّه متقدّمٌ في السنّ. بحسب التقليد، يرتدي البطريرك حلّته الكهنوتيّة خلال الخدمة في وسط الكنيسة. ويساعده الشمامسة ومساعدو الشمامسة. كنتُ واقفًا هناك أراقب الاحتفال متسائلاً: “لمَ كلّ هذا؟” (مَن كان يعلم أنّ الأمر نفسه سوف يحصل لي لاحقًا (كمطران)؟). سمع أفكاري كاهنٌ راهبٌ كان يقف بقربي وقال لي:ـ

“أترى كيف يُلبسون البطريرك؟”

أجبته قائلاً: “نعم”

“أتعلم لمَ يلبسونه كذلك؟”

“لا فكرة لديّ. ألا يمكنه أن يرتدي حلّته بنفسه؟”

“أسبقَ لك أن رأيتَ كيف تجري العمليّة الجراحيّة؟”

” لم يسبق لي أن كنتُ في عملية، ولكنّني رأيتُ واحدةً على التلفاز حين كنتُ صغيرًا”

“عندما يُجري الطبيب عمليةً صعبة، حيث من الممكن أن تكون أيّة حركةٍ من قبله مميتة، لا يجول في غرفة العمليات باحثًا عن مبضعٍ وإبرٍ وغيرها من الأدوات. هو فقط يرفع يده ويجب أن يفهم معاونوه ما الذي يحتاجه، أو في أقصى الحالات قد يقول رقم الأداة. يجب أن يركّز الطبيب كليًّا على العمليّة. والأمر نفسه ينطبق على الكاهن أو الأسقف حين يقيم القدّاس الإلهي – يجب ألاّ يتشتّت بما سيرتدي أو بأيّ شيء آخر. ولهذا يدعى الشمامسة شمامسة (المعنى في اليونانية “خادم” أو “معاون”)، إذ إنّهم يخدمون الأسقف ويساعدونه، حتّى يتمكّن من تكريس نفسه بالكليّة للصلاة والقداس الإلهي من دون تشتّت

يقول بولس الرسول نفسه لنا: “تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ” (في 2: 12). ويعني ذلك أنّ علينا أن نتمّ خلاصنا، وعلاقتنا بالله، وعملنا الروحيّ كلّه بخوفٍ وارتجاف. لا نفعلنّه بعجلةٍ أو تهاون، ولا كنوعٍ من النشاط الجانبيّ، بل بوصفه أهمّ أمرٍ في حياتنا. على سبيل المثال، عندما نقود سيّارة، نثبّت عينينا على الطريق، ولكن ما إن نبدأ بالنظر إلى جانب الطريق حتّى يحصل حادث. يجدر بنا أن نسلك طريق الله على النحو ذاته، مرتقين إلى القداسة بمخافة الله