السعادة وموانعها

السعادة وموانعها

الأم دومينيكا

نقلتها إلى العربية اسرة التراث الأرثوذكسي

في بداية حديثنا أود أن أقرأ مقطعًا من رسالة القديس نيكولا (فيليميروفيتش) مطران أوخريدا وزيكا رداً على سؤال من ابنته الروحية: “لماذا لم يقل الإنجيل شيئًا عن السعادة؟” هذا ما قاله: “أيتها العزيزة، لماذا تعتقدين  أنه لم يقل شيئاً. يبدو أن الإنجيل تحدّث عن سعادة الإنسان أكثر من أي شيء آخر! أعتقد أن الإنجيل يمكن أن يسمى كتاب السعادة، والدرس الذي يعلّمنا المسيح هو درس عن السعادة. هل تشعرين بالحيرة لعدم وجود كلمة “سعادة” فيه؟ لكن هناك كلمات أخرى في الإنجيل مكانها، على سبيل المثال، الفرح، الغبطة، الفردوس، النعيم. الغبطة تعني السعادة الفائقة. هل تعلمين ما هو الدرس الرئيسي الذي علّمنا إياه المسيح؟ هو درس عن السعادة تكرره الكنيسة الأرثوذكسية للناس في كل قداس إلهي بترنيم التطويبات.”ـ

هذا كان جواب القديس لابنته الروحية. في الواقع، هل يمكن أن يكون صحيحًا أن الإنجيل لم يقل كلمة واحدة عن السعادة ولم يعطِ إجابة لأحد أكثر ما يثير اهتمام البشر من الأسئلة: “ما هي السعادة وكيف تُقتنى”؟ بدأ الرب الذي جاء إلى الأرض كرازته تحديداً بالإجابة على هذا السؤال. وبإجابته جعل السعادة قريبة جدًا من البشرية جمعاء بل يمكن القول إنه سلّمها إلينا

عادة ما نتخيّل السعادة على أنها شيء بعيد عنا ولن يأتي إلا بعد أن تتغير الظروف الخارجية. يعتقد البعض: “إذا غيرت وظيفتي، سأكون سعيدًا”؛ يقول آخرون: “إذا كان لدي جيران مختلفون، فسوف أشعر أنني بحالة جيدة”؛ ويعتقد آخرون أنه من أجل أن يكونوا سعداء، عليهم القيام برحلة. حتى أن هناك من يعتقدون أنه إذا غيروا شكل أنوفهم، فإن حياتهم ستتغير بالكامل. وهذا ما يفعله الناس. لكن في كثير من الحالات عندما يحصلون على ما يريدون، لا يجدون السعادة فيه. يشعر الناس بالصدمة وفي بعض الأحيان يفقدون هدف الحياة. يحدث هذا في كل مرة يلاحق فيها أحدهم حلمه أو فكرته. فبهذا يضمن تعاسته. يشرح الشيخ إميليانوس فافيديس (سيمونوبترا) سبب حدوث ذلك بهذه الطريقة: “عندما يثير اهتمامنا شيئ ما، عندما نتوق إلى الأشياء الأرضية ونسعى إليها بإصرار، نصبح غير سعداء مفكّرين بطموحاتنا ورغبات قلوبنا وليس بالله.”ـ

يفقد الإنسان سعادته عندما يبدأ بمطاردة الأشياء التي تنشأ من قلبه، أي الأوهام والأهواء… وهذا هو أكثر أخطائه مأساوية. في سعيه وراء نتاج خياله يتغاضى عن الغبطة الحقيقية. إذ رأى الرب هذه المشكلة المؤلمة التي يعاني منها جميع الناس، قدم لها حلّاً. قال: لا تبحثوا عن السعادة بعيدًا. لستم بحاجة إلى الركض أو الاستعجال أو الإسراع للحصول عليها. الغبطة قريبة: إنها في داخلكم.” ثم شرح لنا معنى السعادة الحقيقية بإعطائنا التطويبات التي إذا التزمنا بها ننال الغبطة

قد يجادل أحدهم: “كيف أتبع التطويبات؟ إنها من مستوى عالٍ ويصعب السلوك بحسبها!” في الواقع، من الممكن اتباعها كلّها. وهذا الطريق في متناول الجميع. هذا هو ما يقوله القديس باييسيوس الأثوسي عن هذا الأمر: “مهما حدث لنا فليكن سببًا للامتنان وليس شيئًا للإسهاب فيه”ـ

الامتنان هو الوسيلة التي يتمم من خلالها الإنسان كل التطويبات ويسعد. كل ما يحيط بنا أو يحدث لنا قابل لأن يصبح موضوعًا للإسهاب. “لماذا يتصرف بهذه الطريقة؟ لماذا لدي هذا العمل؟ لماذا يتساقط الثلج أو تمطر مرة أخرى؟ لماذا تسوء الأمور مرة أخرى؟” من ثمّ بالطبع، لن نشعر بالسعادة أو البركة على الإطلاق. ومع ذلك، إذا بدأنا بتقديم الشكر، على سبيل المثال بالقول “يا ربي يسوع المسيح يا ابن الله  المجد لك!”، ليس فقط باللسان بل بكل كياننا، فسنشعر عاجلاً بالغبطة. بشكرنا نعبّر عن تواضعنا العميق ووداعتنا وتشوّفنا إلى نقاوة القلب، أي كل ما أورده المسيح في التطويبات

كتب القديس نيكولاي (فيليميروفيتش) حكاية مثيرة للاهتمام للغاية عن رجل نبيل عاش في قصر في راحة ورخاء. على الرغم من أنه كان لديه كل ما يمكن أن يحلم به، إلا أن حزنًا عميقًا استحوذ عليه. لذلك قرر الذهاب في رحلة للاسترخاء قليلاً. ركب حصانه لفترة طويلة دون أن يرى أيَّ شيء ممتعاً. بعد وقت وصل إلى حقل فيه فلاح وثورَين، ووقعت عيناه على مشهد غير عادي. الآن سوف أقرأ بقية القصة:ـ

“رأى النبيل ثوراً ملقى على الأرض، والثور الآخر واقفاً مربوطاً. أما الفلّاح فَراكعٌ في الأخدود وذراعاه ممدودتان نحو السماء، صارخاً مراراً وتكراراً: “المجد لك يا رب! أشكرك!” اقترب النبيل ونزل عن الحصان في حيرة من أمره، وسأله: “ما الذي تشكر الله عليه بهذه الحرارة؟” أجاب الفلاح: “مات أحد ثورَيّ”. “وأنت تحمد الله على هذا؟” سأل الرجل الغني متفاجئاً. “نعم لهذا بالتحديد”. فتابع الغني: “شخص آخر كان ليبكي ويئن ويشكو من ظلم السماء والأرض وأنت تشكر الله! اشرح من فضلك لماذا؟” تنهد الفلاح وقال: “أنا خاطئ، ولهذا أصابتني هذه المحنة. أخذ الرب ثوري بدلاً من أن يعاقبني بالموت. لا يسعني إلا أن أمدحه!” تفاجأ النبيل وسأله مرة أخرى: “كيف ستحرث بثور واحد فقط؟” أجاب الفلّاح وقد ارتسمت على وجهه المشعّ ابتسامة خفيفة: “الربّ سوف يدبّر الأمور”. فأدرك النبيل أنه على الرغم من أنه كان يعيش في قصر إلا أنه لم يبتسم مثل هذا الفلاح الفقير منذ سنوات. أخذ عدة عملات ذهبية من جيبه وقدمها له: “خذها واشترِ ثورًا آخراً. لقد تعلّمتُ الكثيرَ منك اليوم”. صرخ الفلاح بفرح: “ألم أقل لك يا مولاي أن الله سيحل الأمور؟” رفع الفلاح يديه نحو السماء وكرر مرة أخرى بصوت عالٍ: “أشكرك يا رب! أشكرك يا رب!”ـ

على الرغم من أن هنا كان يمكن أن يكون نهاية القصة إلا أن لها تتمّة. يروي القديس نيكولاي أنه بعد ذلك اللقاء عاد النبيل إلى قصره ليجد النيران تأكله. ماذا فعل النبيل؟ جثا على ركبتيه ورفع ذراعيه نحو السماء وصرخ: “أشكرك يا رب! أشكرك يا رب!” وقال للخدام الذين كانوا منذهلين من سلوكه: “اهدؤوا! لم أشكر الله منذ سنوات عديدة، رغم أنه منحني كل شيء. دعوني أبدأ بفعل ذلك الآن، عندما يأخذ الرب كلّ شيء مني. حان الوقت بالنسبة لي للعمل، هذا ما أحتاجه لاستعادة هدفي في الحياة”. وشرع النبيل ببناء منزل جديد بيديه. وكما يكتب القديس نيكولاي: “تنشّط الرجل الشريف، نقّى فكرَه، وارتفعت معنوياته. ومن ذلك اليوم راح يعطي شكراً لله على كلّ شيء كلّ يوم”ـ

بهذا اختتم القديس نيكولاي حكايته. تبدو هذه القصة وكأنها حكاية خرافية، لكنها تصف أشياء حقيقية. في الواقع، لم يَخِبْ أيّ شخص شَكَر الله. الشكر يفتح أعيننا، حتى نبدأ في رؤية كيف يعمل الله في ظروف الحياة المختلفة ويسكب محبته علينا. من الطبيعي أن نكون شاكرين للرب باستمرار، فكل إنسان لديه ما يشكر الله عليه في كل دقيقة

على العكس من ذلك، إن الذين لا يشكرون الله يخدعون أنفسهم طوال الوقت. هؤلاء الناس ينخدعون بأفكارهم. في معظم الحالات كل شيء على ما يرام معهم وقد باركهم الرب كثيرًا، باستثناء بعض الأشياء المحددة التي يعتبرونها مشكلة خطيرة. وقد يفكرون في هذا “الاختلال” لمدة ثلاثين عامًا متتالية، مما يجعلهم غير سعداء. على سبيل المثال، يعتقد البعض أن لديهم آباء سيئون: “أتمنى لو ولدتُ في عائلة مختلفة؛ كنتُ لأكون سعيداً”. آخرون يجزمون أن كل مصائبهم كانت بسبب شعرهم الزنجبيلي، وهو شيء عرّضهم للتنمر في المدرسة. يشتكي آخرون من أنهم لم يذهبوا إلى أفضل مدرسة ولم يحصلوا على تعليم عالٍ. تغشى هذه الأفكار على أذهانهم فلا يرون بركات الله العديدة التي تمتلئ بها حياتهم. لقد وهب الله المرء مواهب كثيرة والجميع يقدّره، لكن فكرة سلبية طفيفة قد تجعله غير سعيد! وهذا ما كان يقوله القديس باييسيوس الأثوسي عن هذا الأمر: “لماذا نسمح لأنفسنا بالتفكير في الهراء ونُجرَّب بتفاهات مثل: ’لماذا قال هذا لي؟ لماذا نظر إلي بهذه الطريقة؟ لماذا أخذ كأسًا وذهب إلى هناك وليس هنا؟’ وآلاف من الأشياء الطفولية الأخرى!”ـ

إذاً، الأفكار يمكن أن تخدعنا وتعمينا وتجعل حياتنا قاتمة. لتجنّب هذا يجب علينا دائمًا التحكم بقلوبنا. بمجرد أن نلاحظ أن شيئًا ما سوف يزعجنا وأن الفكرة التالية تتسلل إلى أذهاننا: “أنا غير سعيد لأن كذا وكذا قد حدث لي أو ليس لدي شيء كذا وكذا”، لنكن يقظين، مع العلم أن الثقة في مثل هذه الأفكار هو خطأ فادح. قد تظهر أفكار من هذا النوع في مواقف يومية غير متوقعة أو عندما يحمل شخص ضغينة أو حزنًا لفترة طويلة. دعونا نبذل جهودًا، كونوا يقظين، اتركوا هذه الأفكار تمر دون التحدث معها؛ ودعونا نشعر باستمرار بامتنان الله في قلوبنا. لنتذكر الكلمات الحكيمة للشيخ باييسيوس مرة أخرى: “كل ما يحدث لنا فليكنْ سبباً للامتنان وليس سبباً للإسهاب”ـ

يكمن سر السعادة في هذه الكلمات القليلة. السعادة ليست في امتلاك بعض الأشياء الخارجية أو تغيّر الظروف؛ هو الشكر على كل شيء، ومن خلال هذا الشعور بسلام مع الله والشعور بمحبته. كما قال القديس سلوان الأثوسي: “كنت أعتقد أن السعادة هنا على الأرض، لأنني كنت بصحة جيدة ووسامة وغنى ومحبوباً من الآخرين. ملأني هذا بالمجد الباطل. لكنني اعتبرت كل السعادة في العالم على أنها ضباب تحمله الريح منذ أن عرفت الرب بالروح القدس. ونعمة الروح القدس تسعِد وتفرّح النفس التي تتأمل الرب بعمق في العالم الروحي.”ـ

* من حديث للأم دومينيكا كوروبايينيكوفا رئيسة دير القديس ألكسندر نيفسكي في نوفو تيخفين، أيكاتينبرغ، روسيا، إلى أخوية الدير*