نظام المسيح الحقّ
ملكوت جديد… شرعته المحبّة
ماريـــــــــَّا قبارة
إنَّ يسوع الكلمة الأزليّة واكبَ الإنسانية منذ البدء، ويسوع الكلمة المتأنس- عمانوئيل- ما زال يواكبها إلى يومنا هذا وإلى الأبد. حضوره الدائم بيننا وتفاعله معنا يجعل الإنسانية في مخاضٍ دائم، فيرتكض الملكوت-الجنين في أحشائِها كما ارتكض يوحنا -الجنين في أحشاء أمّه أليصابات ساعة وجد نفسه في حضرة يسوع.
لم يأتِ يسوع ليؤسس ديانة جديدة بين الديانات، أو يبني مجتمعاً ونظاماً خاصّاً. لقد جاءَ ليعطي الله للإنسان ويرسم طريق الخلاص. لقد دعانا يسوع لتأسيسِ عالمٍ جديد يُعيد اللُحمة بين الإنسان والله، وبين الإنسان وأخيه الإنسان. هذا العالم روحيّ النظام يُروحن كلّ الأنظمة السائدة. وكلّ نظامٍ، مهما كان، إن لم يكن محوره كلّ إنسان ولأجل الإنسان هو مرفوض وفاسد.
لم يأتِ يسوع ليعطي دروساً في المشاكل الاجتماعيّة، بل ليجعل الإنسان ابناً لله ساعياً إلى الكمال نحو الله، وليزيل الشرّ والخطيئة والنظام العنفيّ. لقد أرادَ يسوع ترميمَ صورة الإنسان وكرامته ورفضَ ترميم الأنظمة والشرائع بالرغم من قوله: “ما جئت لأنقض بل لأكمّل” (مت17:5). نظامه الجديد اختصرَ التوراة والأنبياء بالوصيّة الأولى والعظمى:”أحبب الربّ إلهك من كلِّ قلبك ومن كلِّ نفسك ومن كلِّ قدرتك ومن كلّ فكرك وقريبك مثل نفسك”(لو27:10-29). فالله يجب أن يكون مركزاً لحياتنا وأفعالنا، وعلاقتنا مع الخالق تحكم وتنظّم علاقتنا بالناس والعالم من حولنا. وهذه العلاقة مع الإلهي مرتبطاً أساساً بالعلاقة مع الإنساني، فالإيمان الحقيقي هو التزام تجاه الله والقريب.
وعند يسوع القريب هو قصة ذاك الذي “وقع بين لصوصٍ عرّوه وجرّحوه ومضوا وتركوه بين حيّ وميت، فعرضَ أنّ كاهناً نزلَ في تلك الطريق فرآهُ وجازَ مقابله، وكذلك لاويّ أيضاً إذ صارَ عند المكان جاءَ ونظرَ وجازَ مقابله. ولكنّ سامريّاً مسافراً جاءَ إليه ولمّا رآه تحنَّن، فتقدَّم وضَمَدَ جراحاته وصبَّ عليها زيتاً وخمراً وأركبه على دابته وأتى به إلى فندقٍ واعتنى به. وفي الغدِ لمَّا مضى أخرجَ دينارين وأعطاهما لصاحبِ الفندق وقالَ له اعتنِ به ومهما أنفقتَ أكثر فعند رجوعي أوفيك”(لو30:10-36).
هذه المحبّة إنْ لم نعشها نبقَ خارجين عن يسوع ونظامه الجديد. اهتمَّ يسوع في نظامه بالمرضى والخطأة والفقراء وجميع الطبقة المتألمة المحتاجة. كانَ قاسياً مع الأولياء عليها، رجال دين كانوا أم دنيا! اتّخذ موقفاً عنيفاً أمام تعديّات الشعب في الهيكل فطردَ الباعة “ودخل يسوع إلى هيكل الله وأخرجَ جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلبَ موائدَ الصّيارفة وكراسي باعة الحَمَام. وقال لهم: “مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص”(مت12:21-13). دافعَ عن الزانية ضدّ الشيوخ، وكانت مواقفه صارمة وحادّة مع الكتبة والفريسين. ورأى يسوع في الفريسيين “عمياناً، يقودون عمياناً، وكلاهما يسقطان في حفرة” (مت14:15)؛ كانوا “الكرّامين القتلة” (مت33:21)؛ استغلّوا كرسي موسى “فحمّلوا الناس أحمالاً ثقيلة، وهم لا يريدون أن يحرّكوها بإصبعهم” (مت1:23). لكنّ هذا لا يعني أنّ يسوع كان يعمل على قسمة مجتمعه إلى أبناء نور وأبناء ظلمة، لا بل وطدّ علاقته مع العشارين والخطأة والمنبوذين وغيرهم. كانَ مع السلطة ضدّ المتسّلط، ومع العدالة ضدّ الشريعة المحدودة الجامدة. لم يكن في نظام يسوع مكان لحاكمٍ بالمطلق. رفضَ العنفَ والمعنفين، فقتلُ الإنسان هو نوعٌ من قتل الله، واحتقاره وظلمه وتحجيمه هو احتقار وظلم وتحجيم لله نفسه.
عارضَ يسوع سلطة الرؤساء المستبدة على شعوبها وهذا نراه في جوابه لأمّ ابني زبدى عندما خلطا بين ملكوت الله ومُلك القيصر “أنتم تعلمون أنّ الذين يُحسبون رؤساء الأمم يسودونهم وأنَّ عظماءَهم يتسلَّطون عليهم” (مر42:10-43). وهذا الإعلان يتضمّن رفضاً أساساً لأيّ نوع من الاستبداد والغطرسة بين الرؤساء وشعوبها، ويرفضُ صفة المطلق التي تُمنح للسّلطة السّياسيّة البشريّة.
لهذا فصاحب السُّلطة عليه أن يقاومَ في ذاته روح التسّلط، تلكَ التجربة الدائمة الملازمة للمسؤولية والتي تتستر أحياناً وراء أنبل المبادئ، فيعلّل المتسّلط نفسه بأنّه لم يبغِ سوى المصلحة العامة، متناسياً أنّه بصورة لا شعورية أحياناً يخلط بين المصلحة العامة ورغبته في فرض ذاته. المسؤول الحقّ لا يمارس سلطته من أجل التمتّع بالسّلطة، بل من أجل خير مرؤوسيه. إنّه لا يستخدم غيره ولكنّه يساعدهم على خدمة قضية تفوق مصالحهم الفرديّة. إنّه متجرد، لا يسعى إلى نجاحٍ فرديّ، ولا يعتبر نفسه رئيساً من أجل نفسه بل من أجل الآخرين.
ولا شك أنّ السُلطة الرئاسيّة أو الإداريّة أو غيرها ضروريّة وإلاّ حلّت الفوضى في حياتنا، فالمسألة ليست مسألة مبدأ السلطة بل مسألة طرح نظرة جديدة لبنية السلطة ولشكل جديد لممارستها، وهذه النظرة نقلها لنا يسوع المسيح في تعاليمه وحياته.
نظام يسوع الذي خطّه قضَّ مضجعَ الحكّام وأرعبَ قلوبَ القيّمين على الأنظمة المتسّلطة، ولكنّه في الوقت نفسه أعطى رجاءً للشعب المقهور المنتظر المسيح المخلص. رفضَ امتهان الكرامة بسبب الأخطاء أو بحجّة الأوضاع الاجتماعيّة. فلم يدنْ يسوع السّامرية ولا الخاطئة ولا العشارين ولا الزانية “اذهبي ولا تُخطئي أيضاً”، بل راحَ يُخالطهم ويؤاكلهم، وكان يفضح بشفافيةِ أقوالِه وآياته، وصدقية مواقفه شهوة التسّلط والعنف لدى محدثيه “من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر” (يو7:8). ليسَ في وارد يسوع على الإطلاق رفض إنسان أيـّاً كان؛ الكلّ مدعو إلى فرح ملكوت الله.
رأى بيلاطس أنّ يسوع خطراً محدقاً بحكمه والقيصر، فأرادَ محاكمته قبل اليهود. ووجده الكهنة خطراً على نفوذهم ومراتبهم فاتّهموه بالتجديف دينياً، وجُرّم سياسياً بتهمة التمرّد على السّلطة السّياسيّة، فصُلب. لم يختبئ وراء مواقف رماديّة لا سياسية بل دعا إلى إعطاء “ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”(لو25:20)، رافضاً بذلك جذرياً كلّ سلطةٍ تؤلّه ذاتها، وتُكره مواطنيها على الامتثال لها . أمّا الشعب الذي لم يستطع خروجاً من وطأة النظام الذي تربّى عليه انقلبَ على يسوع بعد أن كانَ ملتفاً حوله يحبّه ويسمعه، فقد كان منتظراً مَلكاً آخر يحرره من الرومان ويعيد مجدَ اسرائيل.أرادَ يسوع أن يردّ إلى البشريّة بهاءها الأول فانتفضَ ضدَّ كلّ منْ وما يستعبد الإنسان محرراً إيّاه من الخطيئة والموت.
أمّا اليوم فما زال الكثير منّا يتقيصر باسم التحرّر الزائف، والبعض الآخر ينصّب نفسه قيّماً ومدافعاً عن ملكوتٍ رسمه لمجده بسلطته، فيتزّمت ويحجّم الله في قالب صغير.
إنّ صليب يسوع يفضح جوهر طبيعة كلّ سلطة هدّامة، سياسيّة كانت أو دينيّة، ويفضح كلّ نظام ظالم مستبد. فلا نظام سياسيّ جديد لقادة العالم اليوم بمعزل عن نظام يسوع الروحي الحياتيّ الجديد الذي يسعى لأن يصالح الإنسان مع الله، والإنسان مع أخيه الإنسان.