الله، العلم والدين

الله، العلم والدين

الأب ستانلي هاراكاس

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

هذا النص مختارات من مقال أوسع كتبه الأب ستانلي هاراكاس في افتتاحية “الأرثوذكسية اليوم” تعليقاً على مقال صدر في مجلة تايم للكاتب دايفيد فان بياما حيث كان عنوان العدد الصادر في 13 تشرين الثاني 2006 “الله مقابل العلم”. وقد وضعت كلمة “مقابل” بالأحمر فيما الصورة حولها هي حلزون الحمض النووي وفي نهايته مسبحة صلاة على طرفها صليب. ويورد المقال مناظرة بين عالِمين، أحدهما ملحد وهو ريتشارد دوكينز وهو أستاذ في أوكسفورد، والثاني مؤمن وهو فرنسيس كولينز. الأول صاحب كتاب “وهم الله” الذي يحاول من خلاله إقناع القارئ بعدمية الخبرة الدينية وعجز الدين عن شرح كيفية عمل العالم. الثاني رئيس مجموعة بحثية ضخمة في علم الجينات وكمثل أغلب العلماء المؤمنين لا يدّعي أي تضارب بين الدين والعلم ويرى ضرورة وجود كل منهما. وتورد مجلة تايم أن العالِمين اجتمعا لمناقشة السؤال التالي: “نحن نوقّر الإيمان والتقدم العلمي لكن هل هاتان النظرتان إلى العالم متجانستان؟”

تظهِر صورة الغلاف تكاملاً ما بين العلم والدين على عكس عنوان المقال. فالمقال الذي هو مناظرة بين عالِمين حول الدين والعلم هو مناقشة لخبرتين وسلوكين بشريين عميقين وليس مناظرة بين الله والدراسة العلمية للعالم. إنه مناظرة بين إنسانين يمثّلان فكرتين من مجموعة كبيرة جداً من الأفكار والمفاهيم المتعلّقة بوجودنا. ثانياً، ظهر العنوان صحفياً وكأنّ الموضوع المقرر سلفاً هو “الله مقابل الدين”، وهذا أمر سيء جداً ومسيء للعقل. إنّه وضعية سخيفة للموضوع لأن العالِم الذي يعترف بحقائق كل من العلم والإيمان ويوصَف في المقال بأنه “مسيحي بغير تردد” يؤكّد ما يراه أغلبية المفكرين المسيحيين، من أورثوذكس وكاثوليك وبروتستانت، من جهة أن العلم والنظرة الدينية ليسا متضاربين بل متكاملان.

هنا أرى أنّه من الضروري إبراز المقاربة الأرثوذكسية للعلاقة بين العلم والدين والإشارة إلى العلاقة بين هذا الموقف وما يقوله كل من دوكينز وكولينز في الموضوع، لكي أختم بوجهة نظر حول العلاقة بين الدين والعلم.

أولاً، لا بد من بعض اللاهوت، أو كما يسميه المقال نظرة دينية للعالم. أهمّ ما عند الأرثوذكسية في هذا الإطار هو أن شخص الله “لا يُدرَك”. هذا لأن الله موجود من ذاته وغير مخلوق. ببساطة، الله كائن الآن وكان دائماً وهو الحقيقة الوحيدة غير المخلوقة وهو يختلف عن الكون الحسّي الذي نحيا فيه. هذا يعني أن فهمنا للعالم الذي نحيا فيه ونواميسه وقوانينه والعمليات التي نصفها لا يمكن تحويلها إلى الله. عندما نستعمل لغتنا وأفكارنا، وهي كل ما نملك، للحديث عن الله، نحن نحاول فقط أن نصف ما لا يُوصَف. إنّه بالأغلب مثل الشعر أو الفن أكثر مما هو قياسات واختبارات. لا يُستَوعَب الله في أي أنبوب اختبار بشري.

إذاً، كيف نحكي عن الله؟ هناك جوابان لا بدّ منهما. الأوّل هو أنّه ينبغي علينا الاعتراف بأنّ الله يتخطّى كل الأفكار البشرية والتصنيفات الموجودة، أي لا يمكن حصره فيها. يختصر القديس يوحنا الدمشقي التقليد في القرن الثامن في الشكل التالي: “الله غير مدرَك وغير قابل للاستيعاب، والأمر الوحيد الذي يمكن أن نعرفه ونفهمه عن الله هو عدم إمكانية إدراكه وفهمه”. هذا التعبير هو طريقة لإعلامنا بأن هوية الله الحقيقية لا يمكن إدراكها بالعقل البشري.

من المثير للاهتمام أن كلاً من كولينز ودوكينز يوافقان على هذا. يقول كولينز: “من وجهة نظري، لا يمكن احتواء الله بالكلية ضمن الطبيعة وبالتالي وجود الله هو خارج قدرة العلم على الإدراك”. ويوافق دوكينز: “إذا كان الله موجوداً، فسوف يكون أكثر اتّساعاً وكمالاً من كل ما يمكن أن يستوعبه سواء كانت لاهوتياً أو ديناً”.

إذاً، أيمكن أن نقول أي شيء عن الله؟ الطريقة الوحيدة لقول أكثر من ذلك هو أن هناك أسباباً حقيقية لوجود الله، حججاً بشرية من الطبيعة، وهي لكي يكشف لنا بعض الأمور المتعلّقة بالوجود الإلهي. الأديان الطبيعية في الشرق والغرب تقول بأن هذا هو عمل العالم ليس إلا. تقول الأديان الشرقية أنّ الكشف يأتي من الداخل بينما تقول الأديان التوحيدية، اليهودية والمسيحية والإسلام، بأن الأنبياء أُوحي لهم من العالم ليكشفوا حقائق عنه. وحدها المسيحية بين كل هذه الأديان تقول بأن الله كشف نفسه في شخصٍ هو ابنه يسوع المسيح. بالطبع، التفكير في هذا الكلام عن كشف الله يتطلب لغة بشرية هي بالحقيقة عاجزة عن وصف مَن هو فائق للوصف. إذاً، الإعلان لا يحمل فقط ما ينبغي بنا معرفته، بل ينبغي تفسير هذا الإعلان. ولكن كيف نميّز أيّاً هو الأكثر كمالاً وصحّة بين هذه الادّعاءات؟ نحن نقارن، نحكم ونقرر ما نؤمن به. هذا هو ما نسمّيه الإيمان. وإذا كنا نثق بالإعلان المسيحي فالإيمان لا ينبغي أن يُقمَع.

إلى هذا، أحد المفاهيم التي تحملها مدوّنات المسيحية واليهودية والإسلام هي أن الله خالق. أوّل ما تعلّمته في معهد اللاهوت هو أنّه لا ينبغي أن نقرأ فصول الخلق في العهد القديم وكأنها علم، بل على أنها إعلان عن الحالة البشرية. وهكذا هو الوضع في الكنيسة الشرقية حيث احترام النشاط العلمي كان وما يزال كبيراً. على سبيل المثال، القديس باسيليوس الكبير، أحد آباء الكنيسة في القرن الرابع، كتب كتاباً عن قصة خلق العالم في ستة أيام. استعمل القديس باسيليوس علم زمانه ليساهم في تفسير القصة الكتابية. كتب القديس يوحنا الدمشقي كتاباً اسمه “نبع المعرفة” من ثلاثة أقسام، الثالث منها عن “الإيمان المسيحي” ويسبقه اثنان يمكننا اليوم تسمية الأول منها “العلم” والثاني “علم النفس”.

“العلم” الموصوف والمستَعمَل في كلا الكتابين تخطاه الزمن اليوم. لكن الأمر المهم للمناقشة اليوم هو أن دراسة هذا العالم هي من اهتمامات الأرثوذكسية وعلينا أن ندرك أن المجهود العلمي دائم التغير حيث تُصَحّح النظرات السابقة وتُراجَع وتُفهم بشكل أكثر عمقاً. هذا ما تعترف به الأرثوذكسية وتحترمه.

لكن العلم يخرج عن طريقته عندما يسعى إلى أنواع أخرى من المعنى. البشر الذين يحوّلون العلم إلى فلسفة أو حتّى إلى دين، كما يحاول البعض اليوم، لا يشوّهونه ويمزّقونه وحسب بل يسيئون إليه. يحقق العلم غايته عندما يصف العالمَ كما هو. عندما تستعمل التكنولوجيا العلمَ لتحسين الحياة البشرية فهي تنجز مهمتها. عندما يسعى الاثنان إلى أن يصيرا مصادر للوحي فهما يدمران ذاتيهما وطرقهما، والذين يقومون بذلك يخدعون أنفسهم ويخونون اختصاصهم. إن إعلان الله عن الحالة البشرية وهدفها واهتمام الله بالغفران البشري والنمو الروحي والعلاقة المطلقة مع “مصدر الكل”، تنتمي إلى محيط آخر. بالنسبة للأرثوذكسية، إعلان الله يساعد على اتحادنا بالعمل الخلاصي للسيد المصلوب القائم من بين الأموات يسوع المسيح. إنّه يقودنا إلى الحضور المقدِّس للروح القدس في الحياة في الكنيسة ومن خلالها. وهو يخبرنا عن الله غير الموصوف الذي هو مصدر كل شيء وخالقه بما في ذلك عالمنا وكل واحد منّا.

بالنسبة للأرثوذكسية، لا يمكن أن يوجَد أيّ تضارب أساسي بين السلوك العلمي الأصيل لفهم العالم المخلوق وبين السلوك المسيحي لاتحادنا بالله وتحويلنا بالنعمة إلى ما قد خُلقنا من أجله، أي صورة الله ومثاله. إن فهم العالم المخلوق جيد وضروري ونافع. إنه جزء من دعوتنا البشرية، لكن الجزء الأوسع والأكبر من هذه الدعوة وذروتها قد وصفه الرسول بولس في رسالتيه إلى أهل روما وأهل كولوسي في آسيا الصغرى.

“وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ” (روما 2:12). “وَلَبِسْتُمُ الْجَدِيدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ” (كولوسي 10:3).

Leave a comment