الميلاد وكنيسة الضعفاء

الميلاد وكنيسة الضعفاء

الأرشمندريت توما بيطار

باسم الآب والابن والروح القدس، آمين.

هذا الإنجيل، يا إخوة، إنّما المقصود به هو الربّ يسوع المسيح. هو إيّاه الابن الذي شاء عمّال الكرم أن يقتلوه، لأنّهم رغبوا في أن يستولوا على ميراثه ويُبيدوا ذكره. بإيراد هذا الإنجيل، تشاء الكنيسة المقدّسة، اليوم، أن ترسم لعيوننا خطوط النموذج الأول للشهادة بالربّ يسوع المسيح. الربّ يسوع، في الحقيقة، هو إيّاه الشهيد الأول وأبو الشهداء. هو آدم الشهداء. وما سبق أن حصل قبل الربّ يسوع لا يوازي بحال ما حقّقه الربّ يسوع بجسده. طبعاً، ثمّة قوم حافظوا على الأمانة لله قديماً. ثمّة مَن كابدوا ضيقات جمّة من أجله، صوناً للكلمة وحفظاً للأمانة. هذا لا شكّ فيه. لكن هذا لا يعادل في شيء ما فعله يسوع. كان فقط يشير إلى ما كان ابن الله المتجسّد مزمعاً أن يفعله. فالربّ يسوع، كما في الرسالة إلى العبرانيّين، وُضع قليلاً عن الملائكة، وقد رأيناه مكلَّلاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت الذي ذاقه من أجل كل واحد. الربّ يسوع اتّخذ موت الجميع في جسده. وإذ فعل ذلك اشترك في ما لأولاد آدم العتيق، اشترك في اللحم والدم، ليُبيد الموت ومَن له سلطان الموت، أعني الشيطان. فعل ذلك لأنّه شاء أن يُعتق أولئك الذين كانوا، خوفاً من الموت، كلّ حياتهم، تحت العبودية. إذاً شاء أن يحرِّر البشر من العبودية التي فرضها واقع الموت. بعد السقوط كل سلوك الآدميّين كان محكوماً بالخوف من الموت. مذ ذاك والناس يتحرّكون بدافع الخوف العميق الدفين في نفوسهم. لذا لم يكن ممكناً، قبل الربّ يسوع، أن يموت أحد من أجل الخطأة. ربما، كما قال الرسول المصطفى بولس، يموت أحد لأجل البار، أمّا المسيح، فإذ كنّا بعد خطأة، مات لأجلنا ليحرّرنا من عبودية الخوف من الموت، فلا يعود الإنسان، من بعد، مستعبداً للخطيئة. الاستعباد للموت مردّه استعباد الإنسان للخطيئة. فإذا ما ضُرب الموت – والربّ يسوع المسيح ضربه في الصميم – يكون بإمكان الإنسان أن يتحرَّر من الخطيئة، ولا تعود للخطيئة ربقة عليه، من بعد.

القدّيس استفانوس، المعيَّد له اليوم، هو باكورة هذا الإنتاج الجديد، باكورة هذه الحرّية الجديدة، هذا الإنعتاق من الموت. وكما سمعنا في الرسالة، كان استفانوس ممتلئاً من الإيمان وقوّة الله. فلأنّه كان كذلك كان على جرأة ما بعدها جرأة. قال لليهود حقيقة ما هم فيه. بكّتهم وأدانهم. لا أحد بعد المسيح، يا إخوة، يقول الحقّ كلّه إلاّ إذا كان ممتلئاً من الإيمان وقوّة الله، إلاّ إذا كان قد تحرّر من الخطيئة. الإنسان الذي يمتلئ من نعمة الله هذا لا تعود حياته ثمينة في عينيه. الثمين بالنسبة إليه يصير المسيح. الحياة لي هي المسيح، كما هتف بولس الرسول، والموت ربح. مَن يذوق الربّ يسوع ويذوق فيه، بالروح القدس، ما حقّقه يصير له الموت ربحاً. ومتى تحرّر الإنسان من الخوف من الموت، إذ ذاك لا يعود يبالي بمقاييس البشر. لا يعود يبالي باللياقات ولا بالسياسات ولا بترتيبات الناس. يكون همّه، إذ ذاك، أن يكون شاهداً لربّه أولاً وأخيراً. الشهيد عندنا هو الشاهد. كلمة شاهد تتضمّن المعنيَين معاً. هو مَن يقول الحقّ لوجه يسوع ومَن يجعل دمه على كفّه ثمناً لقول الحقّ.

في تاريخ الكنيسة، حين كانت الشهادة تضعف كان المؤمنون في الكنيسة يتعرّضون للهزّات والتجارب. نحن لا ثبات لنا، في كنيسة المسيح، إلاّ بروح الشهادة. لا ثبات لنا في هذه الدنيا إلاّ شهوداً للربّ يسوع. بغير الشهادة لا كيان لنا. لذا كان لا بدّ للمسيحيّين، جيلاً بعد جيل، أن يُصابوا بالنكبات والمصائب والويلات. كان لا بدّ لهم أن يُصابوا بالإحباط وأن يخسروا الأمبراطوريات. هذا كلّه، من ناحية، تأديب العليّ لكي لا تكون عين أحد على أمور هذا الدهر ولا على سلاطين هذا الدهر. هذا افتقاد ومحبّة إلهية. ومن ناحية أخرى لأنّ الربّ الإله يشاؤنا، دائماً، في حركة روح الربّ، في التاريخ، أن نبقى له خاصةً، أي أن نبقى في الضعف. تجربة القوّة تجربة للابتعاد عن الله. الله يريدنا أن نبقى في الفقر. إذا لم نفتقر إرادياً يُفقرنا ليعطينا فرصة أن نغتني به وبه وحده لأنّه وحده الغنى الحقيقي. يشاؤنا الربّ الإله أن نبقى خرافاً ولا نتحوّل إلى ذئاب باسم حمل الله لأنّنا، إذ ذاك، نعرف أو تكون لنا الفرصة أن نقتدي بسيّد الحملان، بحمل الله. الكنيسة ركْب حملان. هؤلاء يعرفون أو يجب أن يعرفوا أنّه ليس لهم في هذه الدنيا مكان يرتاحون إليه، لا مكان يسندون إليه رأسهم. موضع واحد فقط أُعطي لهم أن يسندوا رأسهم إليه: صدر المعلّم! القدّيس يوحنّا الحبيب، في ذلك، كان الصورة. فيما عدا ذلك، ليست لنا ههنا مدينة باقية بل نطلب الآتية. فلأنّ الربّ الإله لا يشاء المؤمنين به أن يرتاحوا لأمور هذا الدهر ولإنجازات هذا الدهر ومؤسّسات هذا الدهر، يُسلّمهم لسلطان بابل هذا الدهر لكي يُستعبَدوا له في الجسد. ليس للمسيحيّين حقوق في هذه الدنيا. حقّهم أن يحملوا حمل الناس، امتداداً لمعلّمهم، إلى الخلاص. فقط متى عانى شعب الله الضيق في هذا العالم يصرخ، يصير شعباً لله بمعنى الكلمة. “في العالم سيكون لكم ضيق ولكن لا تخافوا أنا قد غلبتُ العالم”. بلى، قد أُعطينا، في هذا العالم، أن نبقى في بَرَكة الضعف والفقر لأنّنا، في هذه الحال، وفقط في هذه الحال، نقدر أن نقتني كل غنى المسيح، أن نبلغ ملء قامة المسيح. لمّا قال يسوع لخرافه: “لا تخف أيّها القطيع الصغير لأنّ أباكم سُرَّ أن يُعطيكم الملكوت” إنّما حدّد لنا موهبة. مهما كان عديدنا، علينا أن نسلك كقطيع صغير، بخوف ورعدة، عرضة للذئاب، لمَن ينهشون في هذا الدهر. إذا لم نفعل ذلك بملء إرادتنا، يفعله الله لنا لتتحقّق كلمته فينا لأنّ لنا في هذه الموهبة ذُخراً عظيماً. الربّ الذي ارتضى أن يكون حَمَلاً وغلب كل الذئاب العقلية، غَلَب الموت وأباد إبليس، هو أعطانا، بروحه القدّوس، إذا ما ثبتنا في الأمانة له إلى المنتهى، أن نصير من نسله الروحي، أن نكون جسداً له، أن نُكمل في أجسادنا آلامه، تلك الآلام النورانية التي تشهد أنّ الربّ يسوع هو الألف والياء، هو البداية والنهاية، هو الكل في الكل، هو نفْسُنا ونَفَسُنا، هو حياتُنا، الذي به وله كل شيء منذ البدء.

فإذا ما أدركنا هذا الأمر نكون، إذ ذاك، مصونين بنعمة الله، وإلاّ نُسلَّم إلى أهواء ذواتنا لنَبيد في تيّارات هذا الدهر الصاخبة. أجل، كان لا بدّ لكنيسة المسيح، في هذا الدهر، أن تبقى في غربة، أن تبقى غريبة، إن تكون إرث الذين يحفظون الأمانة كقلّة. والربّ الإله يعرف خرافه جيِّداً. يعرف الذين له بخلاف كل تصنيفات الناس. فليكن الله صادقاً وكل إنسان كاذباً. أجل لا بدّ لنا أن نحمل لواء هذه الشهادة، أن نكون في هكذا فقر عن طيب خاطر، أن نتشبَّه بحَمَل الله. ونحن عارفون أنّه كما كان الربّ يسوع طفلاً عرضة لظلمات هذا الدهر، فنحن كذلك باقون عرضة لهذه الظلمات. ولكن كما غَلَب الربّ يسوع الموت، هكذا نصير نحن به، إذا ما آمنّا وحفظنا الأمانة، لا محالة، إلى حياة جديدة. فليكن اسم الرب مبارَكاً من الآن وإلى الدهر.

عظة في ذكرى القدّيس استفانوس أول الشهداء ورئيس الشمامسة، 27 / 12 / 2003

Leave a comment