نحن وفَلسَا الأرملة

نحن وفَلسَا الأرملة

الأرشمندريت توما بيطار

باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

يا إخوة، في هذا الأسبوع، أسبوع الفرّيسي والعشّار، تُطالعنا، في إنجيل اليوم، مقابلة ما بين الكتبة والأرملة المسكينة في خطّ الفرّيسي والعشّار. الكتبة يرومون أن يمشوا بالحلل. يُحبّون أن يَظهروا في الجلال. ينتشون للتحيّات في الأسواق. أن يناديهم الناس سيّدي سيّدي، وأن يُحَيُّوا هم الناسَ أيضاً ليلفتوا الأنظار إليهم ويتمجَّدوا. يُحبّون صدور المجالس في المجامع. يهمّهم أن يكونوا في الطليعة، بارزين متقدِّمين بين الناس. كذلك يحبّون أوّل المتكآت في العشاء. طاقتُهم يصرفونها على أمور كهذه. عقلهم مجبول بالتّبجيل والتعظيم والتمجيد. علاقتهم بالشريعة، وهم الخبراء بالشريعة، إنما هي، بالدرجة الأولى، بقصد الظهور بمظهر العارفين، بمظهر العلماء. كل ذلك من أجل أن يغذّوا في أنفسهم هذه النزعة إلى المجد الباطل.

هنا علينا أن ننتبه! القلب، يا إخوة، إذا لم يتنقَّ من النزعات التي قد تسود عليه، لجهة المجد الباطل، فإنه يستحيل عليه أن يتعاطى الإلهيات بسلامة النفس. على الواحد منّا أولاً أن ينقّي نيّته حتى يتمكّن من تعاطي الإلهيات، وإلاّ يكون مستغلاً لها. يكون، بمعنىً من المعاني، لصّاً وسارقاً، لأنّه بدل أن يهتمّ بتمجيد الله وإعادة المجد لله، يخطف الأضواء ليسلّطها على أمجاده هو. هؤلاء تنالهم دينونة أعظم.

الكتبة يُعرِّفنا الإنجيل إلى المساعي التي يبذلونها لتزكية أنفسهم وتمجيد ذواتهم والتماس المكانة الأولى بين الناس. يتظاهرون بالتقى وهم يأكلون بيوت الأرامل وبعلّة يطيلون صلواتهم. ماذا يعني أنّهم يأكلون بيوت الأرامل؟ الأرامل في ذلك الحين، كانوا، متى فقدوا أزواجهن، بحاجة إلى وكلاء. الأرملة كانت بحاجة إلى وكيل يضمنها ويُيَسِّر أمورها لدى السلطات القائمة. هؤلاء الكتبة، إذ كانوا محبّين للمجد الباطل، محبّين للظهور، كانوا يرغبون في أن يكونوا وكلاء للأرامل، طبعاً اللواتي تكون عندهنَّ ثروة يُعتَدّ بها. ولكي يبلغوا مأربهم كانوا يطيلون صلواتهم أمام الناس، ليظهروا أتقياء، ليصير لهم رصيد طيّب بين الأرامل. ثمّ متى عُيِّنوا وكلاء، إذ ذاك كانوا يأكلون بيوت الأرامل. إذاً، هم جماعة مرائين، سارقين، من الذين لا يبالون بضعفاء الشعب.

في المقابل عندنا هذه الأرملة المسكينة الضعيفة التي لا يبالي بها أحد لأنّها فقيرة. الأغنياء كانوا يُلقون تقادمَهم في الخزانة. إذاً، كانوا ينظرون هناك هذه المرأة، ولا يُبالون بها. كان يهمّهم، نظيرَ الكتبة، أن يظهروا بمظهر التقوى والبِرّ والسخاء، بإزاء الخزانة، بإزاء الهيكل. كانوا يلقون تقادمهم في الخزانة الخشبية ولا يبالون بالخزانة البشرية التي هي الأرملة المسكينة. هذه كانت، إذاً، مهَمَّشة. الضعفاء في هذا الدهر يُهَمَّشون، الضعفاء، على أنواعهم. الضعفاء أيضاً لا يلاحَظون. لا ينتبه لهم الناس. الكتبة والأغنياء، والناس بعامةٍ، يلاحظون ما هو لصالحهم. يلاحظون ما يوافقهم. يلاحظون ما له علاقة بأمجادهم. لكنّهم لا يلاحظون أو، بالأحرى، لا يبالون بما هو نكِرة من جهة منفعتهم الشخصية. ولكنْ، هؤلاء، بالذات، هم الذين تقع عينُ الله عليهم.

الربّ يسوع الذي كان واقفاً عند الخزانة مع تلاميذه لاحَظَها ولاحظَ مَسْكنَتَها ولاحظَ كونَها أرملة وعرف مقدار ما ألقتْ في الخزانة: فلسان. المبلغ زهيد لدرجة أنّه لا قيمة له قياساً بما كان يلقيه الأغنياء في الخزانة. الفلسان يعني ثمن عصفور. أما الربّ يسوع فقال: “في الحقيقة أقول لكم إنّ هذه الأرملة الفقيرة، ألقتْ أكثر من الجميع”. ألقتْ أكثر من الجميع لأنّها ألقتْ من عَوَزها.

إذاً، الربّ الإله لا ينظر إلى ما يقدّمه الإنسان ولا يوليه قيمة إلاّ بمقدار ما تكون تقدمَتُه من حاجته إليها ومن عَوَزِه. مَن يعطي من عَوَزه هذا، في الحقيقة، هو مَن يقدِّم للخزانة خير تقدمة، لأنّه يقدِّم الله على نفسه، على خبزه وعلى حاجته. حين يكون الربّ الإله أعزَّ لدينا من الخبز، من قضاء حاجاتنا الأساسية، إذ ذاك، في الحقيقة، تكون محبّتنا لله محبّةً أصيلة وكاملة. الربّ يلتمس مثلَ هؤلاء المحبِّين الذين يحبّون الله أكثر من أنفسهم. وهم إذ يحبّون الله أكثر من أنفسهم، يتشبّهون بالله الذي أحبَّ البشرية أكثر من نفسه حتى إنّه بذَل نفسه عنها. بهذا تكون هذه الأرملة المسكينة قد حقَّقت المثالَ الإلهي. صارت على مثال الله. فإنّها، إذ تشبَّهت بصنيع الله، ألقتْ رجاءها بالكامل عليه واستبانَتْ إنساناً مؤمناً بكل معنى الكلمة. الإيمان شيء حيّ. الإيمان واقع كياني. الله لا يُتعاطى معه إلاّ في مستوى الكيان. طالما الإنسان يبذل من فَضْلَته، فإنّه، في الحقيقة، لا زال في حيِّز البشرة. لا زال في إمكانه أن يسخِّر اللهَ لغاية في نفسه على طريقة الكتبة، على طريقة الأغنياء، ليَظهر، ليتمجّد، ليتعظَّم. هَمّ الأغنياء، إلاّ قلّة عزيزة، أن يَضمنوا لأنفسهم مكاناً جليلاً عند ربّهم. يظنّون، بمعنىً، أنّ في طاقتهم أن يبتاعوا الملكوت بأموالهم. يظنّون أنّ بإمكانهم أن يتّخذوا لأنفسهم مكاناً عند الله بمظاهر التقوى التي يُبدونها. ولكنْ، الله، الذي ينظر إلى مكنونات القلوب، يعرف مَن الذي يحبّه عن حقّ ومَن الذي يَظهر لديه بمظهر المحِب فقط. الله لا يُشمَخ عليه. الله لا يُكذَب عليه. لهذا، يعطي الربّ الإله كلّ إنسان فرصة، لا بل فرصاً، في مستوى الكيان. ربما كانت الفرصة وجعاً. ربما كانت الفرصة ضيقاً. ربما كانت الفرصة اختناقاً. ربما كانت الفرصة عوَزاً شديداً. فإذا سلك الواحد منّا باستقامة، بِبَرارة، في كلّ من هذه الفرص، إذا عرف أن يسلك بإيمان، إذا عرف أن يُسْلِم نفسه بالكامل لله، إذا عرف أن يقدِّم الله على نفسه، إذا عرف أن يبذل ما عنده في سبيل الله، من أجل الله، باسم الله، على كلمة الله، فإنّه، إذ ذاك، يستبين مؤمناً بالله، يستبين محبّاً لله، لأنّه يعطي من عَوَزه أو من تعبه أو من ضيقه.

لنأخذ لأنفسنا أمثلة من حياتنا في الدير. قد يكون الواحد منّا، بعد نهار طويل، متعَباً، وقد يكون مرهَقاً، وقد لا يجد في نفسه طاقةً كافية لعمَل قد يكون مطلوباً منه. في تلك الساعة بالذات تُطالعنا فرصةٌ. نلاحظ إحدى الأخوات مثلاً، أو أحد الإخوة، في موقع يحتاج فيه إلى بعض السنَد. في تلك الساعة، قد لا نجد في أنفسنا أكثر من فلسَين، قد لا نجد لدينا من الطاقة أكثر من فلسَين، أي كلَّ ما بقي لدينا من طاقة. لا نَنْسَ أنّ الأرملة ألقت كلَّ المعيشة التي كانت لها. لم تُبقِ لنفسها شيئاً. استنفدت نفسها في الله. فإذا عرف الواحد منّا أن يستنفد ما بقي لديه لأجل الله المتمثِّل، في تلك اللحظة، في تلك الفرصة، في هذه الأخت أو في هذا الأخ الذي يحتاج إلى سَنَد، إذ ذاك نكون قد أصَبْنا الحظوة عند الله. نكون، في الحقيقة، قد جعلنا أنفسنا في نفْس موقع هذه الأرملة المسكينة التي أثنى الربّ الإله عليها لمّا قال إنّها ألقت أكثر من الجميع. رغم أنّنا نكون قد تعبنا اليوم كلّه فإنّ تعباً قليلاً بسيطاً، حين يكون الإنسان على وشك أن يستنفد قواه، يساوي أكثر بكثير من كل الجهود التي نكون قد بذلناها طيلة ذلك اليوم. طبعاً، لكي يلاحظ الواحد منّا الفرصة، لكي يلاحظها جيّداً ويعرف أنّها الفرصة التي ينتظر، البركة التي يشاء الربّ الإله أن يعطيها له، عليه، في الحقيقة، أن يتعلّم كيف ينسى نفسه وكيف يستغرق في ذِكْر الله. إذا ما كان همُّه، في الحقيقة، مُرَكَّزاً على ما هو لله، فإنّه يلاحظ الفرصة. أما إذا كان، رغم كل ما بذله في ذلك اليوم، مهتمّاً بنفسه، فإنّ الفرصة تأتي، الفرصة تَسْنَح، ثمّ تتوارى. فنكون قد انتظرنا النهارَ كلّه، أو بالأحرى نكون قد انتظرنا الليلَ بطوله عبثاً، لأنّنا، طالما نسعى ونجاهد ونتعب، فنحن في الليل، وننتظر أن يشرق علينا نور السيّد. السيّد يأتي بعد أن يكون الواحد منّا قد تَعِبَ الليلَ بطوله. ومتى جاء، إذ ذاك، وقال لنا أن نُلقي بالشبكة في جانب السفينة الأيمن، فإنْ أطَعْنا، إنْ سمعنا، إنْ انتبهنا، فإنّنا نُصيب صيداً عظيماً.

لهذا، يا إخوة، على كل واحد منّا أن يتعلّم كيف يَشحذ انتباهَه لمثل هذه الفرص الإلهية. اهتمامنا ينبغي أن يرتكز، كلَّ يوم، على ما هو لله صلاةً وقراءة وتأمُّلاً وخدمةً ومحبّة وطاعة. طالما نحن في هذا السياق، في هذا الإطار، طالما نحن ننتبه ونسعى، فإنّنا سوف نجد أنفسنا، لا سيما متى دَنَت قوانا من نَفاذها، سنجد أنفسنا على قاب قوسَين وأدنى من الحضرة الإلهية. الربّ الإله، لا ننسى، يأتي في آخر الليل، في الهزيع الرابع من الليل، متى أزمَعَ الفجر أن ينبلج، متى تعب الإنسان واستنفد، أو كادَ، نفسَه من التعب. إذ ذاك يأتي الربّ الإله. إذ ذاك تَسْتَنح الفرصة. إذ ذاك يأتي ليُثيبنا. يأتي ليباركنا على أتعابنا، لأنّ تلك اللحظة التي نكون فيها قد بتنا في تعب، في عَوَز، هي اللحظة القمّة، الأوجُ، في الحقيقة، التي كل التعب كان من أجلها. فإذا ما أضعناها في راحة، أو إذا ما أضعناها في التفكير بما هو لأنفسنا، فإنّ تعَبَنا يكون، بمعظمه، قد ذهب سُدىً. المهم أن يبقى الخادمُ، كلُّ واحد منّا، الوكيلُ، كل واحد منّا، ساهراً إلى أن يأتي سيّده فيجده مستيقظاً، واعياً، منتبهاً، مستعداً لأن يؤدّي خدمته، لأن يُكْمِل خدمته إلى المنتهى. ماذا يحدث إذ ذاك؟ السيّد، إذ ذاك، هو الذي يقوم بخدمة خادمه، بخدمة عبده، لأنّه وَجَده ساهراً، لأنّه وَجَده مستعداً، لأنّه وجَدَه مؤمناً، لأنّه وَجَده محبّاً له، باذلاً نفسه من أجله إلى المنتهى.

إذاً، يا إخوة، ليلاحظ كلّ واحد منّا العلامات التي يعطينا إيّاها الربّ الإله كل يوم. ليلاحظ الواحد منّا بانتباه ما يجري هنا وثمّة. لأنّ الربّ الإله دائماً ما يأتي بطريقة لا يَلحظها أكثرُ الناس. يَلحظها فقط الذين كيانُهم مَرُوْضٌ على محبّة الله وعلى الإيمان به وعلى انتظاره وعلى خدمته. نحن، يا إخوة، كلّما عرفنا أن نبذل أنفسنا من أجل الله إلى المنتهى كلّما بتنا حكماء. لأنّنا، إذ ذاك، نبذل أنفسنا حيث ينبغي. والعبد الذي يكون أميناً في القليل، الذي يبذل نفسه في القليل، الذي يَبقى لسيِّده حتى لا يبقى له شيء، هذا هو الذي يقول له سيّدُه: “نِعِمّا أيّها العبد الصالح الأمين، كنتَ أميناً في القليل، فأُقيمكَ على الكثير، ادخل إلى فرح ربِّكَ”

آمين.

عظة في دير مار يوحنا المعمدان – دوما في السبت السابع عشر من لوقا 7 /2 / 2004

Leave a comment