الصيام إلى قلب جديد

الصيام إلى قلب جديد

الأرشمندريت توما بيطار


“وأدار الربّ يسوع نظره في الحاضرين بغيظ، وهو مغتمٌّ لصلابة قلوبهم”.

كان الربّ يسوع المسيح مغتاظاً من تصرّف الفرّيسيّين. وإلى غيظه كان مغتمّاً. عادةً، حين يكون المرء غاضباً لا يكون مغتمّاً. لا يكون حزيناً. فقط إذا كان القلب نقيّاً، يغتاظ الواحد غيظاً إلهيّاً، لأنّه يعرف معنى الحزن عن محبّة. ألم الربّ يسوع أنّ الفرّيسيّين كانوا صِلاب القلوب.

يا إخوة،

دخولنا في الصوم هو لكي لا تبقى قلوبنا صلبة، لكي لا نسلك في قسوة، لكي نرأف بالآخرين، لكي ننعطف عليهم بحنوّ. “أريد رحمة لا ذبيحة”. ليس أيسرَ على الإنسان من أن يبرِّر صلابة قلبه. قد يتوارى وراء القواعد والأصول، وراء الكتاب المقدّس، وراء حسن التدبير والمراعاة. يتمسّك الواحد، أحياناً، بالطاعة باطلاً وشكلاً ليبرِّر، في قرارة نفسه، قسوة قلبه. والحقيقة أنّ الفضيلة لا تُمارَس إلاّ في إطار حنوّ القلب، في إطار سلامة النيّة، في إطار شفافية المقاصد. الله ينظر إلى القلب. تهمّه حركة القلب. ينعصر قلبه حين يأبى الواحد أن يسلك، برحمة، في تعامله مع الإخوة. نحن، في الحقيقة، نصوم ونقسو على أنفسنا لكي يتسنّى لنا، بنعمة الله، أن نصير على طراوة في القلب. مَن لا يقسو على نفسه لا يمكنه أن يصير ليِّناً في علاقته بالإخوة.

لهذا، يا إخوة، الحبّ عندنا مرتبط بالنسك. الحبّ عندنا مرتبط بالصيام. مَن لا يصوم عن نفسه، عن خطيئته، لا يمكنه أن يحبّ لأنّ الخطيئة هي انتفاء الحبّ. الخطيئة تقتل الحبّ، تنحر الحبّ. إذا كنّا نحن لنصوم عن الطعام والشراب فليس لأنّنا نروم الامتناع عن المأكل والمشرب وحسب، فإنّنا إذا أكلنا لا نزيد وإذا لم نأكل لا ننقص، لكنّنا نتوخّى، في الصيام، أن نتصدّى للخطيئة التي فينا. والخطيئة التي فينا مرتبطة بالطعام والشراب، مرتبطة بالنجاسة التي تطال كل عضو من أعضائنا. إذ نصوم إنما نلتمس، في الحقيقة، عفّة القلب. من دون العفّة مستحيل على الإنسان أن يحبّ. فقط في إطار العفّة يقدر المرء أن يحبّ. في ما عدا ذلك، يحبّ نفسه، يحبّ بطنه، يحبّ ملذّاته، يحبّ أفكاره. يهيم بها. يسرح في خياله. يظنّ نفسه أنّه إنسان عظيم، أنّه إنسان قدّيس، أنّه يطأ عتبات الملكوت. يظنّ نفسه أنّه خير من سواه. كل هذا لأنّه لا يشاء أن يحبّ. لو شاء أن يحبّ لكان يصوم عن نفسه كلّ حين، لكان يُهلك هذا الإنسان العتيق، هذا الروح الخبيث الذي يستبدّ به، الذي يمنعه من أن يكون في عِشرة ووداد مع الله ومع الإخوة. أهميّة الصوم أنّه يعدّنا للمحبّة. حين يمتنع الإنسان عن نفسه، حين يُفرغ الواحد نفسه، إذ ذاك يسكب الربّ الإله فيه أحشاءه، فيُحبّ الواحدُ، إذ ذاك، بالمحبّة التي من فوق، والتي هي وحدها محبّة حقّانية.

لهذا، أعظم السالكين في المحبّة هم أعظم النسّاك. أولاً، يبغض المرء نفسه وبعنف. يبغض نوازع نفسه. يبغض بطنه، يحاربه. يحارب عينيه. يحارب أذنيه. يحارب أفكاره. يحارب روح الزنى الذي فيه. يحارب كبرياءه وعناده. فإذا ما حارب على هذا الصعيد، إذا ما خاض معركة التصدّي لهذه العتاقة التي تعشّش فيه، في كل خليّة من خلاياه، إذ ذاك يعرف معنى النقاوة. إذ ذاك يهيِّئ لله مسكناً جديداً، لأنّ الربّ الإله لا يقيم في النجاسة. الله هو القدّوس. هو نور كلُّه. هو طُهرٌ كلُّه. لا خلطة بين النور والظلمة، بين البهاء والعتمة، بين النقاوة والنجاسة.

هكذا نُعطَى بالصوم، بالنسك، أن نذوق الصليب من أجل المسيح، لأنّنا إنما رُسِمنا، في الأصل، حين اعتمدنا، على صليب المسيح. نحن الذين اعتمدنا باسمه اعتمدنا لموته حتى كما قام المسيح، هكذا نسلك، أيضاً، في حياة جديدة. هذا هو سرّ الصليب الذي يتفتّق عن القيامة. هذا هو سرّ إفراغ الذات الذي يُطلّ على التملّؤ من حضور الله.

لهذا، يا إخوة، كانت التنقية، في كل تاريخ إسرائيل وفي كنيسة المسيح، هاجساً أبداً. طوبى لأنقياء القلوب، هؤلاء يعاينون الله. عليهم أن يتنقَّوا أولاً، ولا تنقية إلاّ بالدم، بالتعب، بالصيام، بالنسك، بالموت عن النفس. ولكنْ، متى سلك الواحد كذلك هيَّأ نفسه لاستقرار الله فيه. إذ ذاك، يكشف الربُّ الإلهُ نفسَه له فيعاين المتنقّي وجه ربِّه.

الشيخ يوسف الهدوئي يأبى أن يكون كشفُ الربّ الإله نفسَه بمثابة مكافأة لنا على أتعابنا. كلا البتّة! لأنّ الربّ الإله يبقى حرّاً في أن يكشف نفسه أو لا يكشف نفسه لمَن سلك في النقاوة. الخلاص يُعطى لنا بالمجان. بالنعمة أنتم مخلَّصون وذلك ليس منكم، هو عطيّة الله. لكنّنا نعرف أنّنا متى سلكنا في النقاوة، نصير إلى اتّقادٍ في الشوق إلى الله. كياننا، إذ ذاك، يصرخ: “أيّها الربّ يسوع تعالَ”. ونحن نعلم، لأنّ الربّ الإله نفسه قال لنا، نعلم أنّنا إذا دعوناه بنقاوة قلب فإنّه يأتي لا محالة. نناديه، إذ ذاك، فيقول: “هاءنذا”. “اطلبوا تجدوا. إقرعوا يُفتح لكم”. الله مبذول للبشريّة. لما بذل الإله المتجسّد نفسه على الصليب سكب أحشاءه على العالَمين.

يبقى أن نتهيّأ نحن للصوم، لصوم القلب، كي يعطينا الربّ الإله أن نغترف من هذا المَعين روحاً قدّوساً. إذ ذاك نُعطى قلباً جديداً عوض القلب الحجري الذي في صدر كل واحد منّا. وقلب كل منّا حجري لأنّ الخطيئة أحالته وتحيله، أبداً، جماداً.

لذلك، نحن نُطلّ على الإخوة، إذا ما سلكنا بالصوم، بقلب أُعطي لنا من فوق، بقلب الله الذي أعطانا قلبه. أعطانا، أيضاً، أن نختبر، على مقاسنا، المحبّة التي هو إيّاها، والتي هو عليها. وإلى أن يصير لنا قلب، لا من لحم وحسب، بل من نور، يبقى قلب الله واجفاً علينا، إلى أن نستكمل الصيام ونلفظ، خارجاً، كل قسوة وصلابة قلب فينا لنمتلئ حنوّاً من الذي انعطف علينا بكل حنوّ الثالوث القدّوس.

عظة في السبت الأول من الصوم الكبير، 2003

Leave a comment