أيمكن أن يكون الاكتئاب فرصة حسنة؟

أيمكن أن يكون الاكتئاب فرصة حسنة؟

ميخائيل لوبيخين وداريا يورك

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

للكثيرين منّا أصدقاء أو حتّى أحد أفراد عائلة يصارعون اكتئاباً على درجات متفاوتة من الحدة بشكل مزمن مستمر أو متقطع. البعض منّا، أو نحن أنفسنا، نتصارع مع هذا الاختلال المنتشِر. يوجد العديد من المقالات التي تعالج هذا الأمر وتصف عوارضه كما تقدّم اقتراحات حول كيفية مواجهة المؤمن له.

يسعى البعض إلى الاتّصال بالأشخاص المكتئبين لكنهم غالباً ما يجدون أنفسهم ممزقين بين الخيبة والارتباك. تنتج الخيبة من عجزهم عن إحداث أي تغيير ومن قلة صبرهم نحو السلوك المنغمس ذاتياً عند المكتئبين. أما الارتباك فهو يأتي من العلاقة بين نظرية الأصول البيوكيميائية للاختلالات من جهة، وخاصة الاكتئاب، ومن الجهة الأخرى الفكرة الشعبية التي مفادها أنّ كل ما يحتاجه المكتئب هو التوقف عن الرثاء لنفسه. أين تأتي عناصر التشبث بالرأي والنمو الروحي في هذه الصورة؟

أظهرت الدراسات [في أميركا] أنّ واحداً من كل عشرين شخص يعاني من الاكتئاب، وأن أكثر من خمسين بالمئة سوف يعانون، في وقت ما، من اكتئاب خطير أسبابه كيميائية. مع أخذ هذه الحقائق بعين الاعتبار، يتوجب على كل مَن يسعى إلى محبة قريبه أن ينظر إلى هذه الحالة من مختلف الجوانب ليكون قادراً على مساعدة الآخرين. علينا أن نتسلّح بالمعرفة في هذه الشؤون، كما علينا أن نصلّي لنُعطى الحكمة والصبر والمحبة الضرورية لنكون على مستوى مساعدة هؤلاء الأشخاص.

الاكتئاب هو ردّة فعل، لا يمكن تلافيها، على أحداث الحياة كمثل وفاة شخص محبوب أو الرفض من قِبَل شخص مهم لنا. إنّه مكوِّن ضروري وطبيعي لعملية التغيّر. كلّنا نختبر “الشعور بالاكتئاب” عندما تتحطّم توقعات غير الواقعية ونُرغَم على النظر إلى الأمور كما هي عليه بالحقيقة. يكتئب المراهقون لأنّهم يشعرون بأنّهم ليسوا على القدر الذي يتمنونه من الجمال أو القامة. لاحقاً، قد ينشأ الاكتئاب كإجابة للأمل المحطّم في إيجاد شريك. ومن ثم، الاكتئاب هو جزء من عملية التوافق، وهو دفن رمزي للآمال غير الواقعية أو الرغبات التي يستحيل تحقيقها. بعد هذا التقبّل، نصبح أكثر واقعية واتضاعاً حيال أنفسنا.

يمكن أن ننظر إلى الاكتئاب كفرصة لأن نكون أكثر إنسانية، أشخاصاً أكثر امتلاءً واكتمالاً، أكثر حكمة ومعرفة، أي أن نكون أزواجاً أفضل وآباء أفضل، رؤساء أو موظفين أفضل. إن معرفة عملية الاكتئاب تساعد في السيطرة عليها.

إخراجه إلى النور

على خلاف الأشكال الأخرى من التوتر الداخلي (القلق، الإثارة، الخوف)، غالباً ما يُتلافى الاكتئاب ويُرفَض ويُقمَع ويُعقلَن. وهكذا، تضيع فرص ازدياد التعلم عن أنفسنا. إن عبارات مثل “إنّها مجرّد مرحلة”، “إنّه مجرّد كسل”، “سوف أنتظر إلى الغد”، “أنا فقط متعَب مما جعلني متوعكاً”، “كلّ ما أحتاجه هو أن أنام جيداً في الليل”، هي عبارات مفيدة عندما تعكس الحقيقة، لكنّها فخاخ تمنعنا من أن نتعرّف إلى المسائل التي قد تقود إلى الاكتئاب.

الكسل المفرط، البكاء، الضجر المستمر، الإنهاك، اليأس، هذه كلّها عوارض الاكتئاب وهي إشارات إلى أنّ الوقت قد حان للتفكير وإلى تفحّص النفس بشكل أدق. الوقت قد حان للبحث في داخلنا عن الأوهام المحطمة في حياتنا، والأحلام المخبأة غير المحققة، وعن الغضب في الحب، وعن الأمور التي يمنعنا غرورنا من الاعتراف بأنّها أثّرت فينا. الاكتئاب هو مثل سدادة رمزية لقنينة خمر صافٍ تمنعنا من الاشتراك والتمتع بثمارنا الذاتية. الجوهر والنكهة والقوة تظل غير واعية وغير مستعمَلة عندما أفكارنا المسبقة تمنع قوتنا النفسية عن تحرير ذاتها. يساهم الرفض والعقلنة والقمع في الحفاظ على الاكتئاب.

 

كيف نتعامل معه؟

أول خطوة في التعامل مع الاكتئاب هي في الاعتراف وقبول حقيقة أنّه ليس مجرّد “مرحلة”، وأننا نواجه مشكلة ينبغي التعاطي معها. ثانياً، علينا تفحّص أنفسنا بشكل واقعي وصادق لاكتشاف ما الذي يقلقنا بالحقيقة. من الصعب رؤية الأمور التي تسبب الاكتئاب، مع أنها تعود بشكل مستمر لملازمتنا. من الأمثلة المثيرة للانتباه عن كيفية تحوّل الاكتئاب، بعد مداواته، إلى مصدر للطاقة الخلاّقة هو في قصة دوستويفسكي الذي توفي ابنه بمرض الصرع وهو في الثالثة من عمره. بالأصل كان دوستويفسكي ميالاً إلى الاكتئاب، وما دمّره بشكل خاص أنّه كان متأكداً بأنّه هو مَن نقل المرض إلى ابنه. تنبَّهَت زوجته إلى هذا الأمر وأقنعته، بمعونة أحد الأصدقاء، بأن يذهب إلى دير أوبتينا الذي كان مشهوراً بشيوخه، الذين كانوا آباء روحيين بمثابة المعالجين في ذلك الزمان. أمضى دوستويفسكي عدداً من الأيام هناك ومن ثمّ عاد وقد شُفي كليّاً من اكتئابه. النتيجة كانت روايته “الإخوة كارامازوف” التي كانت آخر وأفضل أعماله. لقد تحرّرت عبقرية دوستويفسكي المبدِعة عندما توقف الاكتئاب عن استغلالها واستطاع أن يوسّع حدوده مجدداً.

 

مقاربة روحية

لقد عرف الشيوخ الروحيون في روسيا القرن التاسع عشر الاكتئاب وكانت لهم مقاربتهم الخاصة في التعاطي معه. لقد اعتبروه أحد أعراض الغرور الذي كان دواؤه التواضع. كتب الشيخ مكاريوس إلى شخص مصاب بالاكتئاب: “أنتَ تذكر أن ما يسبب لك الاكتئاب بشكل كبير هو عجزك عن التصدي للإغراء، وبطؤك في التغلّب على أهوائك ووهنك الأخلاقي العام. هذا يثبت فقط أنّك تتكل على فضائلك وحدها لكي تحرز الخلاص… كيف نكتسب التواضع من دون أن نقهر ذواتنا بشكل مستمر في أن نكون ما نحن عليه بالحقيقة، أي أكبر الخطأة؟” لقد رأى الشيخ مكاريوس الأزمة في رفض هذا الرجل الاعتراف بسوئه وعرف أن قبوله لهذه الحقيقة سوف يكون مفيداً في رفع كآبته.

كلنا ندخل في الاكتئاب ونخرج منه. ومع هذا، نسقط بشكل ثابت في فخ الظن بأنّ الكآبة سوف تمضي عاجلاً من ذاتها وبأنّ الحياة سوف تعود طبيعية. نحن نهتمّ بحالتنا بجدية أو نسعى إلى طلب المساعدة عندما تبدأ بإيذاء حياتنا. لقد رأى الشيوخ الاكتئاب كفرصة لكي نكون أكثر اتضاعاً وبالتالي أكثر قرباً من الله. المعالجون المعاصرون يرون الاكتئاب كرفض لعملية غير واعية إذا تُركت لتصبح واعية سوف لن ترفع الكآبة بل أيضاً سوف تجعلنا أكثر قدرة على عيش حياة أكثر إرضاء.

Leave a comment