سرّ المعرفة

سرّ المعرفة

القديس يوستينوس بوبوفيتش


نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

من “نظرية المعرفة عند القديس اسحق السرياني”

بحسب تعليم القديس اسحق السرياني، هناك نوعان من المعرفة: التي تسبق الإيمان والتي تولَد من الإيمان. الأولى هي المعرفة الطبيعية والتي تشمل التمييز بين الخير والشر. أمّا الأخيرة فهي المعرفة الروحية وهي القدرة على فهم الأسرار وإدراك ما هو مخبّأ، ومعاينة غير المنظور.

كما يوجد أيضاً نوعان من الإيمان: الأول يأتي من السماع ويؤَكَّد ويُثبَت بالثاني الذي هو الإيمان بالمعاينة، أي الإيمان القائم على ما تمّت رؤيته. لاكتساب المعرفة الروحية، على المرء أن يتحرّر أولاً من المعرفة الطبيعية. هذا هو عمل الإيمان. يبلغ الإنسان إلى قوّة مجهولة تجعله أهلاً للمعرفة الروحية عن طريق جهاد الإيمان. إذا سمح الإنسان لنفسه أن يقع في شرك المعرفة الطبيعية، يصير تحرير نفسه من هذا الشرك أكثر صعوبة من التحرر من القيود الحديدية، وتصير حياته كما على حدّ السيف.
متى سلك الإنسان طريق الإيمان، عليه أن يضع جانباً طرق معرفته القديمة، لأن للإيمان طرقه الخاصة. من ثمّ تنقطع المعرفة الطبيعية وتأخذ المعرفة الروحية مكانها. المعرفة الطبيعية عكس الإيمان، لأن الإيمان، وكلّ ما يأتي من الإيمان، هو إبادة لكلّ قوانين المعرفة، الطبيعية منها وليس الروحية طبعاً.
الميزة الأساسية للمعرفة الطبيعية هي مقاربتها بالامتحان والاختبار. هذا بحدّ ذاته علامة على الشكّ بالحقيقة. في المقابل، الإيمان يتبع طريقة تفكير نقية وبسيطة وبعيدة كلّ البعد عن الخداع والامتحان المنهجي. هذان الطريقان يقودان في اتّجاهين معاكسَين. بيت الإيمان هو أفكار كأفكار الأولاد وبساطة القلب لأنّه قد قيل “مجّدوا الله ببساطة القلب” (كولوسي 22:3)، و:”إن لم ترجعوا وتصيروا كالأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات” (متى 3:18). المعرفة الطبيعية تقف في مواجهة كلٍّ من بساطة القلب وبساطة الفكر. لا تعمل هذه المعرفة إلاّ ضمن حدود الطبيعة، بينما للإيمان طريقه الخاصّ إلى أبعد من الطبيعة.
كلّما ازداد تكرّس الإنسان لطرق المعرفة الطبيعية، يزداد تملّك الخوف له وتضعف قدرته على التحرر منه. لكنّ إن هو اتّبع الإيمان، يتحرّر مباشرة وكابنٍ لله يمتلك القدرة على التصرّف بكلّ الأشياء. “الرجل الذي يحبّ هذا الإيمان يتصرّف مثل الله في استعمال كل الأشياء المخلوقة، إذ قد أُعطيًت للإيمان القوة لأن يكون مثل الله في صنع خليقة جديدة فقد كُتِب <وَنَفْسُهُ تَشْتَهِي فَيَفْعَلُ> (أيوب 13:23)”. يمكن للإيمان أن يُخرِج كل الأشياء من العدم بينما لا يمكن للمعرفة أن تصنع شيئاً من دون المادة. ليس للمعرفة سلطة على الطبيعة بينما الإيمان عنده إياها. دخل الناس في النار وأخمدوا اللهب دون أن تمسّهم عندما تسلّحوا بالإيمان. غيرهم مشى على المياه كما على اليابسة. كلّ هذه الأمور تتخطّى الطبيعة وتسير عكس صيغ المعرفة الطبيعية وتكشف بطلان هذه الصيَغ. يتحرّك الإيمان فوق الطبيعة. لقد حكمَت طرق المعرفة الطبيعية العالمَ لأكثر من خمسة آلاف سنة، وكان الإنسان أعجز من أن يرفع طرفَه من الأرض ويفهم قوّة خالقه، إلى أن ظهر إيماننا وخلّصنا من ظلال أعمال هذا العالم ومن الفكر المفكك. مَن عنده الإيمان لا ينقصه شيء وهو، حتى ولو لم يكن يملك شيئاً، عنده كل شيء بالإيمان، لأنّه مكتوب: “َكُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ فِي الصَّلاَةِ مُؤْمِنِينَ تَنَالُونَهُ” (متى 22:21)، وأيضاً: “اَلرَّبُّ قَرِيبٌ. لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ” (فيليبي 6:4).
النواميس الطبيعية ليست للإيمان. يشدد القديس إسحق على هذه الحقيقة: “كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ” (مرقس 23:9) إذ لا شيء مستحيل على الله… يُعتَبَر تخطّي حدود الطبيعة ودخول عالم ما هو فوقها أمراً عكس الطبيعة، غير عقلاني ومستحيلاً… مع ذلك، هذه المعرفة الطبيعية، بحسب القديس إسحق، ليست عيباً، ولا ينبغي رفضها. كلّ ما في الأمر أنّ الإيمان أسمى منها. لا تُدان هذه المعرفة إلا بقدر ما تسير عكس الإيمان من خلال السبل المختلفة التي تستعملها. أمّا متى ضُمَّت هذه المعرفة إلى الإيمان، مُتّحدة به، متَّشِحَةً بأفكاره الملتهبة، متّخذة أجنحة من اللاهوى، عندها ترتفع من الأرض إلى عالم خالقها، أي إلى ما فوق الطبيعة، مستعملة وسائل غير تلك الطبيعية. عندئذ تمتلئ هذه المعرفة بالإيمان وتتلقّى القوّة لترتفع إلى العلى، ولتدرك مَن هو فوق كلّ إدراك وتعاين اللمعان الذي لا يُسبَر غوره بالعقل ومعرفة الأمور المخلوقة. المعرفة هي المستوى الذي منه يرتفع الإنسان إلى قمم الإيمان. عندما يبلغ هذه القمم، لا يعود بحاجة لهذه المعرفة، إذ كما هو مكتوب: “لأننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ. ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض” (1كورنثوس 9:13-10). يكشف لنا الإيمان الآن حقيقة الكمال، كما ولو أنّها أمام أعيننا. بالإيمان نكتشف ما هو فوق إدراكنا، بالإيمان وليس بالبحث وقوة المعرفة.
هناك ثلاث صيَغ روحية تصعد فيها المعرفة وتنزل، وبها تتحرّك وتتغيّر وهي الجسد والنفس والروح… في مستواها الأدنى تتبع المعرفة رغبات الجسد، مهتمّة بالثروات والمجد الباطل واللباس وراحة الجسد والسعي إلى الحكمة العقلية. تخترع هذه المعرفة الفنون والعلوم وكلّ ما يزيّن الجسد في هذا العالم المنظور. ولكن في كلّ هذا، هذه المعرفة تكون نقيض الإيمان. معروف أنّ المعرفة البحتة، كونها مجرّدة من كل فكر إلهي تجلب إلى العقل الضعف غير العاقل بصفتها الجسدانية، إذ بها يُغلّب العقل من الجسد ويصير كل اهتمامه بأمور هذا العالم. إنّه ينتفخ ويمتلئ من الغرور إذ يرجِع كلّ عمل صالح إلى ذاته وليس إلى الله. فقول الرسول عن أن العلم ينفخ في (1كورنثوس 1:8) كان أنّ الإيمان يقدّم طريقة تفكير جديدة من خلالها يتحقق كل عمل المعرفة في الإنسان المؤمن. هذه الطريقة الجديدة هي التواضع: بالتواضع يُشفى العقل ويكتمل… الإنسان المتواضع هو نبع أسرار الزمن الجديد. هذا الكلام يشير بالطبع إلى هذه المعرفة التي لا ترتبط بالإيمان بالله والرجاء عليه، وليس عن المعرفة الحقيقية. المعرفة الروحية الصحيحة، بارتباطها بالتواضع، تجلب إلى الكمال نفوس الذين اكتسبوها، كما يظهر في موسى وداود وأشعياء وبطرس وبولس وكلّ الذين، ضمن حدود الطبيعة البشرية، حُسِبوا مستحقّين لهذه المعرفة الكاملة. معهم، المعرفة دوماً مستغرقة بأمور تأملية غريبة عن هذا العالم، في الإعلانات الإلهية والتأمّل النبيل في الأمور الروحية والأسرار التي لا تُوصَف. في عيونهم، ليست نفوسهم إلا غبار ورماد. المعرفة التي تأتي من الجسد ينتقدها المسيحيون الذين يرونها مناقضة لا للإيمان وحسب بل لكل أعمال البِرّ.
ليس من الصعب أن نرى مشمولاً في هذه الدرجة الأولى والدنيا من المعرفة، التي تكلّم عنها القديس إسحق، أن كلّ الفلسفة الأوروبية من الواقعية الساذجة إلى المثالية، كما كلّ العلوم من مذهب ديموقريطوس الذري إلى نسبية أنشتاين. من هذه المعرفة البدائية والدنيا يتقدّم الإنسان إلى الثانية عندما يبدأ، في كلا الجسد والنفس، بممارسة الفضائل: الصوم، الصلاة، الإحسان، قراءة الكتاب المقدّس، الصراع مع الأهواء، وما إليه. كل عمل صالح وكل نزعة صالحة للنفس في الدرجة الثانية من المعرفة، تبدأ وتُنجَز بالروح القدس من خلال عمل هذه المعرفة بالذات. تتكشّف للقلب الطرق التي تقود إلى الإيمان، مع أن هذه المعرفة تبقى جسدية ومركّبة.
الدرجة الثالثة من المعرفة هي الكمال. عندما ترتفع المعرفة فوق الأرض والاهتمام بالأشياء الأرضية لتتفحّص داخلها والأفكار المخبّأة، مزدرية كلّ ما ينبع منه شيطان الأهواء ومرتفعةً إلى سلوك طريق الإيمان اهتماماً بالحياة الآتية…
صعب جداً، وغالباً ما يكون مستحيلاً، التعبير بالكلمات عن سر المعرفة وطبيعتها. في حقل الفكر البشري لا يوجد أي تحديد جاهز يشرحها بالشكل الكامل. لهذا يعطي القديس إسحق عدّة تحديدات مختلفة للمعرفة. إنّه دائم القلق في هذا الموضوع، والمشكلة بالنسبة له هي مثل سؤال ملتهب أمام عيني هذا الناسك القديس. يقدّم القديس أجوبة من خبرته الغنية المبارَكة التي حققّها من خلال نسك طويل قاسٍ. لكن الجواب الأكثر عمقاً، وبرأيي الأكثر شموليّة، الذي يمكن أن يُعطى على هذا السؤال، يعطيه القديس إسحق بشكل حوار:
سؤال: ما هي المعرفة؟
جواب: إدراك الحياة الأبدية
سؤال: وما هي الحياة الأبدية؟
جواب: فهم كل الأشياء في الله. فالمحبة تأتي من خلال الفهم، ومعرفة الله تتغلّب على كلّ الرغبات. القلب الذي يحصل على هذه المعرفة تصير كلّ مباهج الدنيا عنده غير ضرورية، إذ لا شيء يضاهي بهجة معرفة الله. المعرفة إذاً هي الغلبة على الموت، ربط هذه الحياة بعدم الموت واتّحاد الإنسان بالله. عمل المعرفة بحدّ ذاته يلامس الخلود، إذ بالمعرفة يتخطّى الإنسان حدود الذاتيّ ويدخل عالم ما فوق الذاتي. وعندما يكون الله موضوع ما فوق الذاتي، يصير سرّ المعرفة سرَّ الأسرار ولغز الألغاز. إنّ معرفةً مثل هذه هي نسيج صوفي مُحاكٌ على نول النفس من الإنسان المتّحد بالله.
بالنسبة للمعرفة الإلهية، أكثر المسائل أساسيّة هي مسألة الحقيقة. تحمل المعرفة في ذاتها جذباً لا يُقاوَم نحو السر غير المحدود، وهذا الجوع إلى الحقيقة، الغريزي في المعرفة البشرية، لا يكتفي إلى أن تصير المعرفة الأبدية المطلَقة مادةَ المعرفة البشرية، حتى أنّ المعرفة، في إدراكها لِذاتِها، تكتسب إدراك الله وفي معرفتها لذاتها تصل إلى معرفة الله. لكن هذا لا يُعطى للإنسان إلا بالمسيح وحده، الإله الإنسان، الذي هو التجسّد الوحيد للحقيقة الأبدية والتشخيص لها في عالم الحقائق البشرية. عندما يستقبل الإنسانُ الإلهَ الإنسانَ في ذاته، على أنّه نفسُ نفسِه وحياة حياتِه، يصير الإنسان ممتلئاً بشكل ثابت بمعرفة الحقيقة الأبدية.
إن الإنسان الذي يستعيد ويحوّل أعضاء معرفته بممارسة الفضائل هو مَن يصل إلى إدراك الحقيقة ومعرفتها. بالنسبة إليه، الإيمان والمعرفة وكلّ ما يأتي معهما، هم كلٌّ عضوي لا ينقسم. إنهم يتمّون ويتمّمون أحدهم الآخر، وكلّ واحد منهم يثبّت الآخر ويعيله. نور العقل يولّد الإيمان، يقول القديس إسحق، والإيمان يولّد عزاء الرجاء، بينما الرجاء يحصّن القلب. الإيمان هو استنارة الفهم. الإيمان الذي يغمر الفهم بالنور، يحرّر الإنسان من العجب والشك، ومعروف على أنّه المعرفة وظهور الحقيقة.
تأتي المعرفة المقدّسة من الحياة المقدّسة، لكن الغرور يظلِم تلك المعرفة. نور الحقيقة يزداد وينقص بحسب طريقة الإنسان في الحياة. تقع التجارب الرهيبة على الذين يسعون إلى عيش حياة روحية. بالتالي ينبغي أن يعبر جهاد الإيمان بعذابات عظيمة ومِحَن لكي يبلغ إلى معرفة الحقيقة. الفكر المهتّز والأفكار المشوّشة هي ثمرة الحياة المضطربة، وهذه تظلِم النفس. عندما تُطرَد الأهواء من النفسَ بمعونة الفضائل، عندما تُسدَل ستارة الأهواء عن عيني الفكر، يمكن للعقل أن يدرك مجد العالم الآخر. تنمو النفس من خلال الفضائل، يُثَبَّت العقل في الحقيقة ويصير راسخاً، مزوّداً للقاء كل هوى وضحده. يأتي التحرر من الأهواء بصلب العقل والجسد. هذا يؤهّل الإنسان لمعاينة الله. يُصلَب الفكر عندما لا تُطرد الأفكار الدَنِسة منه والجسد عندما تتجذّر الأهواء. الجسد المُسَلَّم للذة لا يمكن أن يكون مسكناً لمعرفة الله. المعرفة الحقيقية، أي كشف الأسرار، يُبلَغ إليها بالفضائل وهذه هي المعرفة التي تخلّص.

Leave a comment