الأب ميتروفانس حارس القبر المقدس

الأب ميتروفانس حارس القبر المقدس

نقلها إلى العربية الأب أثناسيوس بركات

كان المغبوط الأب والراهب ميتروفانس، الذي توفي عام 1997، حارساً لقبر المسيح الكلي قدسه، داخل  كنيسة القبر المقدس، مدة ثمانٍ وخمسين سنة. إليكم واحدةً من مجموعة رسائل حول نصائح وخُبُرات هذا الشيخ المغبوط، كتبها أحدُ أولاده الروحيين.

مرة، ذهب رجل وامرأته، من تريبولي، إلى الشيخ، وكان الزوج قد عاد لتوه من رحلة حج إلى جبل آثوس. لم يُرزَقا بأولاد. كان الزوج قد جلب زيتاً، من تريبولي إلى أديرة جبل آثوس ملتمساً     الصلوات لكي يرزقا بولد. بعد عودته من جبل آثوس، انضم إلى زوجته، التي كان قد تركها في مدينة سالونيك، وذهبنا، ثلاثتُنا، إلى الشيخ ميتروفانس لأخذ بركته. هناك، قالا له:

“أيها الشيخ، أنت تعرف بأن الله لم يمنحْنا، حتى الآن، أولاداً”

حينها، رفع الشيخُ صوتَه عالياً قائلاً لهم: “الله يدبر الأمور بشكل جيد- أو أفضل من ذلك- فهو قد فعل حسناً بعدم منحكم ولداً”

سأله الزوجان باضطراب: “لماذا، أيها الشيخ؟”

أجاب الشيخ: “لأنه، لو أن اللهُ رزقكما أولاداً منذ بدء زواجكما فكنتما ستفتخران بأنهم منكم، وسوف لن تذهبا من كنيسة لأخرى ومن دير لآخَر. لم يرزقْكما اللهُ أولاداً حتى تتعرَّفا عليه أولاً. والآن، صرتما تعرفان أن الله موجود، فلا تفقدا الأمل”

بعد هذا اللقاء، غادر الزوجان وهما في غاية الحماس والسعادة.

– من المعروف أن النساء لديهن، عادةً، خوفُ الله والتضحية أكثر من الرجال، ويشاركن في الصلوات في الكنيسة بوتيرة أكبر من الرجال. فمن الطبيعي، إذاً، أن تزور نساءٌ، أكثر، الشيخَ ميتروفانس. حين كنَّ يقتربن منه، كن يقلن بأن الأمور لم تكن على ما يرام مع أزواجهن، فبسبب سرعة غضبهم يصبحون جارحين ومحتقرين إياهنّ. فيجيبهنَّ الشيخ:

“أنتن، أيها النساء، المُلامات على كل شيء”

“ولكن، كيف ذلك؟ أليس ما يقوم به الرجال نحونا أمرٌ مُذِلّ؟”

“لماذا لا تقَبِّلْن أرجل رجالكنّ وتروجونهم”

“لم نفعل ذلك، بالطبع”

“إذا ما قمتن بذلك، فستكون الأمور أفضل بالنسبة لكنّ وستكُنَّ أكثر تفهُّماً. إفعلن ذلك، من الآن فصاعداً، وسرعان ما ستُبيّن تصرّفاتُهم صحةُ ما أقول”.

أيضاً، ذهبتُ إلى الشيخ مع بعض الكهنة من جبل آثوس وكهنة آخرين لأخذ بركته. حينما يدخل كاهنٌ قلايةَ الأب ميتروفانس، كان يسارع إلى سؤاله: “هل لديك نعمةُ الكهنوت؟”، وحين يكون الجواب: “نعم أنا كاهن”، حينها لا يتوقف عن تقبيل يده. وعندما يطلب منه الكاهنُ التَّوقُّفَ كان الشيخُ يقول له: “لا، دعني، لا تزعجني، أريد معانقة هذه الأيدي، أريد تقبيلها لأن بهذه الأيدي يتحولُ الخبزُ بصلواتكم إلى جسد الرب، والدمُ إلى دم الرب. لذا، دعني أعانقها”.

كنا، أحياناً نأتي بصحبة مؤمنين لأخذ بركته، طبعاً، دون التّحضير لذلك ودون أن نجلب له أي شيء، كهدية صغيرة أو شيئ من المأكول. كنا نَصِلُ ونقول:

“أيها الشيخ، لم نُحضِرْ لك أيَّ شيء”

“ما هذا الذي تقولونه لي بأنكم لم تُحضِروا شيئاً؟ لقد أحضرتم الفرح، لقد جلبتم لي الإرتياح. إني أريدكم أنتم، يا مَن أرسلكم اللهُ إليَّ، لا أريد أيَّ شيئٍ منكم”.

جلبتُ له، في يومٍ صيفي، شيئاً من المثلّجات. فقال لي: “قسطنطين. لا أريد مثلّجاتكَ، أريدك أنت”. أقنعتُه برفق فتناول المثلجات. قال مبتسماً: “سأتناولُها”. وعندما تذوَّقها، قال: “إنني شرير بعض الشيء، فقد تصرّفتُ كما لو أنني لم أكن أريدُها، لكنني، في العمق، كنت أريدها”. وعندما أكلها، قال لي: “أحببتُها جداً. طبعاً، هذه الأشياء ضرورية، إلا أننا لا يجب أن نعير أهميّة كبرى للأمور المادية مقارنة بما علينا إعطاؤه للأمور الروحية”. دائماً ما كان الشيخُ يذكِّرنا بهذه الأمور.

مرةً أخرى، ذهبت لرؤيته برفقة زميل لي، وكانت الساعة تقارب الـ 11:00 صباحاً. كان الشيخ نائماً في ذلك الوقت، فقلت لزميلي بأنه علينا إيقاظُه. فاستشاط زميلي غضباً وقال لي: ” ألا تشعر بالخجل؟ الشيخ نائمٌ ونحن نريد إيقاظه؟”، أذعنتُ لغضب زميلي فغادرنا. في المساء، حوالى الساعة 5:00، عدتُ بمفردي، فأخبرته: “أيها الشيخ، في الصباح حوالى الساعة 11:00، جئت لرؤيتك مع زميل لي، وبما أنك كنت نائماً غادرنا”. فغضب بشدة وقال لي: “لماذا فعلتم ذلك؟ لقد أضعتُ كنزي. ماذا كنتُ أفعل طوال النهار سوى الأكل والشرب والنوم، وأنتما أضعتما كنزكما، لأن الله، في ذلك الوقت، كان سيُنيرني بما كنت سأقوله لكما”. وهكذا نرى أن الشيخ لم يتأسّف، بل كان مسروراً أن يفقد هدوءه باستمرار منذ طلوع الشمس وحتى المغيب. أراد، أيضاً، أن يُخبر العالمَ بأنه كان يحيا الإنجيل المقدس.

مرةً، قرر الشيخُ، وهو في سن الخامسة والتسعين، أن يُجريَ جراحة لعينيه. فقلتُ له مستفزاً: “أيها الشيخ، ألا يكفي ما تعلمتَه وسمعتَه ورأيته خلال خمسة وتسعين سنة من عمرك؟ ألا تزال ترغبُ بالتعلُّم والقراءة؟” أجابني: “نعم، فكلُّ ما لم أتعلمْه، عندما كان بمقدوري ذلك، عليَّ قراءته الآن”. من المؤكد أنه كان يقصدُ أموراً تتعلَّقُ بتوبته وخلاص نفسه. ماذا علينا أن نفعل الآن، ولدينا إمكانية الرؤية والصحَّة؟ دعونا نتعلّم مما قاله الشيخ، الذي أراد، حتى آخر لحظة من حياته، أن يتعلّم عن كل أمر مهم يتعلق بالله.

مرةً أخرى، زرته مع آخرين، دون أن نجلب له هديةً، فقال لنا: “أريدكم جميعَكم، لأنكم أدخلتموني الجنّة. لا أريدُ شيئاً آخر. لكن، انتبهوا لأجسادكم، يا أولادي، وحافظوا عليها نظيفة بالإعتراف المنتظم والمناولة المتواترة”.

مرةً، حينما سألتُه: “هل تصلّي، أنت أيضاً، من أجلنا، أيها الشيخ؟”، أجاب: “نعم، وأصلي، دون انقطاع، من أجل زائريَّ الذين يأتون في مركز خاريسيو Chariseio للرعاية الصحية ليُحفَظوا”

دائما ما كان يضع نفسَه في المرتبة الأخيرة في الصلوات ناعتاً نفسه بصفات وضيعة، مما يكشف تواضع الشيخ الحقيقي.

كان يفعلُ الشيءَ نفسَه عندما يَذكرُ الراقدين، فيبدأ، أولاً، بذكر أعدائه ثم بمعارفه وبأقربائه وأصدقائه، وفي الآخِر بنفسِه مع صفات وضيعة تَلي اسمَه.

كان يقول لمن هم في حزن أو يأس، وهم ليسوا بمستعدّين: “لا تقلقوا، لأنه حتى بعد أن نكون قد أخطأنا، بوجود الإخلاص والتوبة القلبية قبل الموت، بإمكان الله أن يمنحنا الخلاص”.

لكل زائر كان يستعمل، في حديثه، أفعال “يحمي، يَحفَظ، يحافظ” رسماً إشارةَ الصَّليب على رؤوسهم. دائماً ما كان يقول لهم وهو يبتسم: “إن قسطنطين، الذي جلبكم إلى هنا، هو الأشقى بينكم”. ثم يقول بلهجة جدية: “هو يفعل هذا لأنه يحب الله كثيراً”، ويقول: “نحن هنا اليوم، أما غداً فمن يدري أين نكون؟ ليكن ذهنُكم متفكّراً في الموت والفردوس”.

دنت منه سيدةٌ قائلةً: “أيها الشيخ، هل سنخلُص؟”، فأجابها الشيخ: “بما أنك سألتِني فسأعطيكِ رأيي. أقول لك بأننا، جميعاً، سوف نَخلص طالماً أننا نقوم بشيء من الجهد. فإذا ما كنتُ، أنا الأكثر إثما بين كل الناس على وجه الأرض، أقول لك هذه الأشياء، أفلا يفعل الله هذا وهو المحبة الكلّيّة؟ ما قولُكِ في هذا؟”.

عندما نقول له: “نرجو لك الملكوت، أيها الشيخ”، (يَظهر أنها عبارة متداولة)كان يقول لنا: “أنتم تُعطوني البركة الأعظم، إلا أن ذلك لن يحدث بسبب أعمالنا، لأننا خاطئون، بل بفضل تَحَنُّن الله”.

مرة أخرى، حين قلت له: “أرجو لك الملكوت”،(يَظهر أن العبارة تعني أن يصلي لهم لكي يدخلوا الملكوت) قال لي: “صَلِّ لكي يتسنّى لي دخولَه، وبعد ذلك لا تقلق، فكل شيء سيكون سهلاً عليك”.

في المرة الأخيرة التي تناول فيها القدسات من كاهن كان يخدم في كنيسة رؤساء الملائكة في سالونيك، وهو الأب بَنايوتي، وبحسب شهادة الأب: “كانت القُدُسات تَفوح بالطِّيب”. حادثة تشبه هذه رواها لي رئيسُ دير آثوسي، طلب مني عدمَ ذكر اسمِه. قال لي بأنه، عندما زار الشيخَ في مركز خاريسيو للرعاية الصحية، “كانت الغرفة كلُّها، حيث كان يقيم، تعبق بالطيب”. وحينما دنا إليه ليتأكد من صحة ما كان، لاحظ بأن “عطراً قويّاً كان يخرج من فم الشيخ ميتروفانس”.

في نهاية حياته، كان ثمّةَ فكرٌ يعذبه كثيراً، وهو تساؤله فيما إذا كان قد أخذ الإسكيمَ الكبير أم لا، إذ بدأ ينسى بسبب تقدُّمه في السّن. كان التّأكيد بأخذه الإسكيم يأتيه من رئيس دير غريغوريو، الأب فوتيوس كابسانيس، الذي كان قد ألبسه الإسكيم الكبير في أمطوش دير ستافروبوليس.

في كنيسة القديس نكتاريوس، الواقعة خارج مركز خاريسيو للرعاية الصحية، حيث كان يَحضر الخِدَم الكنسية بانتظام، كان الأب ميتروفانس يرى “القديسَ نكتاريوس مصلّياً بصحبة الكاهن في الهيكل خلال القداس الإلهي”. وكان، أيضاً، يرى “رؤى إلهيةً” في دير القديس إلفثاريوس في بانوراما- سالونيك. رأى، أيضاً، القديس نكتاريوس في جنازة الراهب بندلايمون الذي خدم كأمين سرّ للهيئة المقدسة في جبل آثوس: “خلال الجنازة، كان القديس نكتاريوس هو المتقدم”.

عندما أعطاه أحدهم أسماءً ليَذكرها في صلواته، كان يقول له: “نعم”. فيقولون له: “لماذا لا تُبقي الأسماءَ في حوزتك، أيها الشيخ، حتى لا تنساهم”، فكان يجيب: “لا تقلقوا، فإني أقول في صلواتي “وأنت تعرف أسماءهم يا رب”، فالله يعرف أسماءكم”.

دائماً، كان يُعطي الانطباع بأنه “يقاتل الله”. لا، لا، حتى ولو كان الأمرُ يبدو كما لو أنه يقاتل الله، فهو لم يكن كذلك، لأن سؤال الشخص نفسِه هو جواب الشخص نفسِه. “ربي، لقد اقترفتَ خطاً”. فكان يجيب: “هل يقترف اللهُ الأخطاءَ أصلاً؟”. “لماذا أبقيتَ عليَّ خادماً لقبركَ مدة 58 سنة كاملة وأنا أخاصم الجميع؟ تستطيع تصحيح ما فعلتَه”، وكان يُجيب: “لأنك، يا ميتروفانس، الخاطيء الأكبر على وجه الأرض، أنتَ لا شيء!”، كان الأب ميتروفانس يجيب ثانيةً: “بما أني لا شيء أمامك، يا رب، فماذا يَنقصني بعد؟ وهل هناك أفضل من ¢لا شيء¢ أمام ربي؟”. في أحيان أخرى يقول: “ها أنا آكُلُ وأشرب وأنام، وأنت تَتعهّد التكاليف، يا رب”، كان يقصد صاحب القداسة بندلايمون الثاني ميتروبوليت سالونيك، الذي كان يتكفّل بمصاريف علاجه، إثر نوبته القلبية في القبر المقدس وإحضاره من أورشليم إلى مركز خاريسيو للرعاية الصحية في سالونيك.

ما ترك فيَّ أبلغَ الأثر هو أنه لم يكن يتعب، فمنذ شروق الشمس إلى مغيبها كان يستقبل الناس، الأمر الذي كان يعزّيه.

وفي الأعياد الكبيرة، كالميلاد والفصح، اعتادت ابنة أخيه، الآنسة بوبي، أن تأخذه إلى بيتها، فكان يَدَّعي بأن المناخ يزعجه لذا يريد العودة إلى مركز خاريسيو للرعاية الصحية. لم تكن تلك هي الحقيقة، بأي حال. الحقيقة أن الشيخ كان يقابل، في مركز خاريسيو للرعاية الصحية، العديد من الناس الذين يمنحونه التعزية، ولكي لا يَدَعَهم بدون رجاء، كان بدوره يجعلهم أقرب إلى الله. إذا ما ذَكر لكَ الأمر نفسَه عشرة مرات، كان يقوله بطريقة ملؤها النعمة، حتى إنك تتعلّق بشفتيه وليس أنك لا تتعب وحسب”

Leave a comment