مواطن الإختلاف بين كنيستَيّ الغرب والشّرق

مواطن الإختلاف بين كنيستَيّ الغرب والشّرق

القديس نقولاي فيليميروفتش

ترجَمته عن الفرنسيّة بتصرّف السيدة مايا اسطفان*

اللاهوت التطبيقيّ: سكنى الثالوث في الإنسان

43-  إنّ الفارق الجوهريّ بين الكنيسة الشّرقية والكنيسة الغربيّة منذ الانشقاق سنة 1054 حتّى اليوم يكمُنُ في الفهم المختلِف لإنجيل المسيح. ففي تلك الفترة، أو قبلها بقليل، أخذَ الغَرب ينظر إلى الإنجيل كأنّه إحدى النظريّات، ثمّ كسائر نظريّات العالم في أمور الدّنيا والوجود. أمّا الشرق، فأولى الإنجيل معنَى نُسكيًّا وتطبيقيًّا. من هنا انّ اللاّهوت العقيديّ في الغرب أمسى علمًا نَظريًّا محضًا، أي فلسفة ما بين الفلسفات الكثيرة، في حين أنّ اللاهوت العقيديّ في الشّرق كان ولا يزال إلى اليوم عِلمًا تطبيقيًّا.

44-  إنّ اللاّهوت العقيديّ هو علم تطبيقيّ. هذا ما لَم يُدرِكْهُ الغَرب، أو غابَ عن ذاكرتِه. إنّه علم تطبيقيّ منذ الأساس، وهذا ما عَرَفَه الرّسُل والقدّيسون، ونُسّاك الكنيسة الشرقيّة. وهذا ما حَداهُم على السّعي إلى إتمام كلّ عقيدة في أنفُسهم، وفي حياتهم.

45-  مثالاً على ذلك، أنّ عقيدة الثالوث، أي الإيمان بأنّ الله ثالوثٌ في وحدانيّة، بَدَت لكثير من العلمانيّين، وحتى للاّهوتيّين الغربيّين، كأنّها أكثر عقيدة تحمِل مفهومًا تجريديًّا بين الكُلِّيّات [1] ولكنّنا نجد في كتاب الميناون الأرثوذكسيّ [2] كلامًا حول كثير من القدّيسين الّذين جَعَلوا أنفسهم “مساكن للثالوث القدّوس” عن طريق الزّهد والنّسك ذلك أنّهم ألّهوا روحَهُم، وقَلبَهم، ومشيئتهم، وملأوها من الرّوح القدس كأنّها ثلاثة آنية، بحسب ما جاء في مَثل المسيح عن الأكيال الثلاثة من الدّقيق (لو 21:13).

46-  هذا ما عبَّر عنه بولس الرسول تعبيرًا رائعًا في هذه الأقوال: “ألا تعلمون أنّ أجسادَكُم هياكل للروح القدس، الّذي هو فيكُم هِبةٌ من الله؟ فما أنتم لأنفسكم” (1كو 9:6). من الواضح حتمًا أنّه حيث الله الروح القدس، هناك أيضًا الله الآب، والله الابن، الثالوث القدّوس غير المتجزّىء، وغير المنفصل والمحييي. لهذا السّبب، جاء في السّتيشيرات(الصّلوات) إلى بعض القدّيسين: “أصبحتَ مسكنًا للثالوث القدّوس”.

47-  كلّ الخِدم الطقسيّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة، وكذلك عدد كبير من الأسرار الطقسيّة، تبدأ باستدعاء الرّوح القدس: “أيّها الملك السّماويّ المعزّي، روح الحق… هَلُمَّ واسكُن فينا”. نتضرّع إذًا من أجل أن يأتي روح الله ويسكُن فينا. هذا لا يتمّ في تلك اللّحظة، بل بعد أن يتطهّر القلب بالدّموع والتنهّدات غير المنقطعة، بعد نسكٍ طويل نقضيه في الصّلاة والصّوم والإحسان، والتّعب. عندئذ يأتي الرّوح القدس ويستقرّ في القلب، لكي يؤلّه القلب، والرّوح، والإرادة. ثم يسكُن الله تعالى في الإنسان، ويتمّم كلّ شيء.

48-  إنّ الرّوح والقلب والإرادة تمثِّل معًا الثّالوث في الإنسان. أمّا في النّفس الخاطئة المفعَمة أهواءً فلا تُقيم هذه العناصر الثلاثة في اتّحادٍ، ولا في تناغُم إلهيّ، بل هي منقسمة ومتضاربة. عندئذٍ يشبهُ هذا الإنسان “البيت المنقسم على ذاته” (لو17:11) الّذي لا يُمكن أن يثبُت، بل سوف يسقط. وليس ما يستطيع أن يُنقذَ من الخراب مسكنًا روحانيًّا كهذا سوى التّوبة والإيمان بالإنجيل.

49-  ولكن، إذا أتى الإنسان لمعرفة الحقيقة، أي لمعرفة ربّه ومخلّصه، المسيح المرسَل إلى العالم، والرّسول الإلهيّ، حينئذٍ يبدأ يستسلم له كلّيًّا، ويفتح قلبُه ليقبَلَهُ في داخله مع الآب والروح القدس. حينئذٍ لا يبقى علم المسيح مجرّد نظريّة أو فلسفة بالنسبة إليه، بل تصبح وسيلة شفاء علميّة وولادة جديدة، وسبيل إلى التّألّه. هذه الأمور كلّها حقيقيّة كما هو الدّم المهراق على الصليب، وكلّها ضروريّة لا غنى عنها مثل الخبز والماء، وكلّها عمليّة مثل بناء بيت جديد.

50-  أن ينال المرءُ مغفرة خطاياه وتطهير أهوائه، وأنّ ينفصل عن العالم ويرتفع كلّيًّا نحو الله، وأن يتطهّر قلبُه وينفتح، ويمتلىء من محبّة الله، وأن يتوق إلى الاتّحاد بالله، هذا يعني أن يكون مستعداً لاستقبال الله في داخله. والله، في غنى معرفته وعلمِه السابق بالأمور الّذي لا يوصَف، كما في محبّته الّتي لا يُسبَر غورها، عندما يستقرّ في مثل هذا الإنسان، يصبح هو الفاعل في الإنسان، والإنسان هو المفعول به (غلا 20:2).

52- إنّ غموض العِرفانيّة الفلسفيّة في القديم وفي العصر الحديث تبقى من غير توضيح.      أمّا القدّيسون المسيحيّون، فقد حلّوا هذه المشكلة في أنفسهم بطريقة عمليّة: لقد أقام الله فيهم، وأصبح هو الفاعل. ذلك أنّهم تخلوا عن ذواتهم وتركوا الله يفكّر مكانهم، ويحبّ عنهم، ويعمل عنهم ومن خلالِهم (اكو 16:2 و 10:15). فمن أين أتتهُم معرفة الحقيقة هذه؟ من الله. من أين أَتَتْهُم هذه القوّة، وهذه العلامات والعجائب الباهرة؟ من الله. من أين جاؤوا بكلماتهم النّاريّة وبهذا اللسان المتّقد؟ من الله. من أين اقتنوا هذا التمييز العظيم، وهذه البصيرة النافذة؟ من الله. هذا كلّه من الله، وكلّه لأجل الله، لأن الله كان الفاعل وهم المفعول.

53-  أما جاء في العهد القديم ولكنّ الله قال لموسى: “انظر، ها قد جعلتكَ بمَنزلة إلَهٍ لدى فرعون” ؟ (خر1:7) إذاً، أخذ الله إنسانًا قابلاً للموت وجَعَلَه إلهًا مَكانَهُ من أجل النّاس. ثُمَّ ألَمْ يُدعَ ملائكةُ الله مِرارًا باسم “آلهة” عندما ظهروا للبشر لإعلان مشيئة الله؟ اقرأوا قصّة جدعون المجيدة، وانظروا كيف ظهر له ملاك الله فدَعاهُ “سيّدي” (القضاة 14:6-15). وكذلك في قصّة مَنوح، أبي شمشون، الّذي أبصر ملاك الرّب وقال لزوجته: “إنّنا موتًا سنموت، لأنّنا عايّنا الله” (القضاة 23:13).

54-  لم يَكُن موسى “الله”، ولا حتى ملاك الرّب، بل كانا موضع قدرة الله وفعلِه فيهما. فالله هو الّذي عمل فيهما، هو الفاعل. القدّيس أونوفريوس العظيم لم يكن لا مثل موسى ولا ملاكًا من عند الرّب، ومع ذلك تقول إحدى الصلوات في يوم عيده: “صرت حاملاً الإله”. ولكن لندَع الآن موسى وأونوفريوس وملائكة الله، ولننظر إلى مثل الأمثال.

55-  فلنأخذ مثل ذاك الّذي قال عن نفسه: أنا والآب واحد”. ولنسمع أقواله:

“أنا لستُ أعمل شيئًا من ذاتي، بل أتكلّم بما علّمني الآب.

الّذي أرسلني هو معي.

لستُ وحدي، إنمّا الآب الّذي أرسلني هو معي.

لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الّذي أرسلني.

لستُ أتكلّم من عندي، بل من الآب الّذي أرسلني.

لا أستطيع شيئاً من نفسي.

تعليمي ليس من عندي، بل من عند الآب الّذي أرسلني.

جئت بهذه الوصيّة من عند الآب.

من يؤمن بي، لا يؤمن بي وحسب، إنّما بالآب الّذي أرسلني.

ومَن رآني فقد رأى الآب.

الكلام الّذي أقوله ليس منّي، بل من الآب الّذي أرسلني.

أنا أقول لكم ما سمعتُه من الآب.

يجب أن أتمّم أعمال الّذي أرسلني.

لم آتي من ذاتي.

أنا أحيا بالآب.

(انظر إنجيل يوحنا)

56- أما بالنسبة إلى سُكنى الله العجيبة في الإنسان فقد قال عنها السيّد لتلاميذه ما يلي: “من أحبَّني… أحبَّه أبي، ونأتي إليه ونصنع منه مسكننا” (يو 23:14). هذا الأمر تمَّ في الرّسل والقدّيسين جميعًا. لقد كتب يوحنا الرسول في رسالته الأولى ما يلي: ” الله يثبت فيه، وهو في الله. وإنما نعرف أنّ الله ثابت فينا من الروح الّذي وهبه لنا” (ايو 24:3). أمّا بولس الرسول، فيؤكّد أن “لست أنا أحيا بعد، بل المسيح يحيا فيّ (غلا20:2). فما عسانا نقول؟ ألم يُقِم الله في الرّسل جميعهم؟ إنّه منذ ذلك اليوم التاريخيّ حينما نزل الله الروح القدس عليهم، في يوم الخمسين بعد الفصح، حَدَثَ أن “امتلأوا كلّهم من الروح القدس” (أع 4:2).

57- إنّنا نتعلّم من سِفر أعمال الرّسُل ومن حياة قدّيسي الله ماذا يحصل للإنسان الّذي يصنع فيه الله مَسكِنَهُ. الله يهدي سَبيلَه. الله ينطق فيه، ويعمل فيه كلّ أعماله. يتمّ فيه قول السيّد: “لستم أنتم تنطقون، بل روح أبيكم السماويّ ينطق فيكم”. (متى 20:10). والرسول بولس الإلهيّ يشهد لنفسه قائلاً: “الروح أمَرَني” أو ” الروح مَنَعني”. ورئيس الشمامسة استيفانوس، لمّا امتلأ من الروح القدس، نظَرَ فشاهد السماء مفتوحة والمسيح على عرش المجد (أع 56:7). وكذلك القديس فيليبّوس، عندما رأى الحَبَشيّ، وزير ملكة الحبَشة، قال له الروح القدس: ” تقدّم حتى تُدرِك هذه العَربة”. وما إن عمَّد فيليبوس الرجُل الحَبَشيّ، جعلَه الروح يختفي فجأة، ونقَلَه حالاً إلى أشدود (أع 8: 39-40). “تكلّم أُناسُ الله القدّيسون مَسوقين من الروح القدس”. هؤلاء صنعوا عجائب مثل المسيح، وأحيانَا أعظم منها. أنظُر كيف يبست الّتينة على كلمة المسيح، وكيف أسلَمَ حنانيا وسفّيرة الروح على كلمة بطرس. على كلمة المسيح، هدأت العاصفة في البحر، وعلى كلمة القدّيس مرقُس التّراقيّ تزعزع الجبَل.

58- إنّ أيًّا من القدّيسين لم ينسِب لذاته أيّ أعجوبة، بل نسبوها إلى الله الساكن فيهم. هذا هو موضوع الاختلاف بين صانع المعجزات المسيحيّ واليوغي (معلم اليوغا) الهندوسيّ. فهؤلاء ينسبون أشباه المعجزات الّتي يصنعونها الى ذواتهم، طالبين مجدهم الخاصّ فيما القدّيسون المسيحيّون، طالما نَسَبوا أعمالهم العظيمة إلى الله العليّ، السّاكن فيهم. وفي أعمال الرسل، يظهر جلياً التباين بين سمعان السّاحر وبطرس الرّسول. فذاك كان ساحرًا لمنفعته الشخصية ومجده الذّاتي. أمّا الرسول فعمِل كلّ ما عَمِلَهُ لمجد الله، ناسبًا إيّاه كلَّه لله، لا لذاتِه.

59- بقدر ما يجترح القدّيس أعظم الأعمال، بقدر ما يتذلّل ويتواضع أمام الله، مُدرِكًا أنّه ليس هو الّذي يفعلها بل الله يفعلها فيه. يشعر أنّ الله هو الفاعل في نفسه، وليس هو إلاّ أداةً لله، أداةً في يَدِ خالقِه القدير المرهوب. لنأخذ بولُس مثلاً: “كان الله يجري على يد بولس معجزات باهرة” (أع 11:19). حتى المناديل الّتي تحمل أعراقَه كانت توضَع على أجساد المرضَى فيستعيدون الصّحّة. ولكنّ بولس نفسه يقول عن ذاتِه إنّه أعظم الخطأة (اتيم 15:1).

60- في الكنيسة الأرثوذكسيّة، كلّ العجائب الّتي يصنعها إنسانٌ يُرضي الله تُنسَب إلى الله، لا إلى الإنسان. حتى في أيّامنا هذه، ما زالت تحدُثُ عجائب شفاء وخلاص للنفوس لا تُحصى، بفضل الصّلوات. وهذه العجائب كلّها ننسبها في جيلنا هذا، كما في أيّام الرّسل، إلى الله، لا إلى الإنسان. وهنا يكمن فخّ الهراطقة الّذين يرفضون العجائب. يستحيل عليهم التّصديق أنّ الإنسان يستطيع اجتراح المعجزات كأن يشفي مريضًا بصلاته، أو أن يستدعي المطر، أو أن يمنع حدوث خطر ما. ولكنّنا نحن بدورنا لا نؤمن أنّ هذا في طاقة الإنسان، بل نؤمن أنّ الله القدير يستطيع إتمامها مُستَخدمًا الإنسان، لأنّه، عَزَّ جلالُه، قادر على كلّ شيء. أمّا المنحرفون عن الإيمان، فلا يمكنهم أن يفهموا أنّ الله يستطيع أن يجعل في الإنسان مسكنَه، ويفعل فيه.

61- أيستطيع إنسانٌ أن يوقف الشمس نهارًا كاملاً؟ أيستطيع إنسانٌ أمّيّ في الصحراء أن يحفظ الكتاب المقدّس عن ظهر قلب من غير كتاب ولا معلِّم؟ لقد أوقف يشوع بن نون الصدّيق الشمس فوق جبعون باستدعاء اسم الله. والبارّة مريم المصريّة وهي امرأة أُمّيّة عاشَت في صحراء الأردن خلال ما يقارب نصف القرن، من دون أن ترى إنسانًا واحدًا، كانت تعرف الكتاب المقدّس عن ظهر قلب، بحسب شهادة الأنبا زوسيما، وهو أوّل وآخر رَجُل زارها هناك. كيف يستطيع ذلك إنسانٌ من المائتين؟ لا يستطيع بتاتًا.

62- هذا ما أراد الرّب يسوع أن يُعبِّر عنه بقوله: “إنه غي مستطاع للناس، أمّا عند الله، فكلّ شيء مستطاع” (متى 26:19). لقد أوقف الله الشمس فوق جبعون إلى أن أكمل اسرائيل معركته وفاز بالنّصر لأن يشوع بن نون كان بارًا أمينًا لله. ومَن تُراه علَّمَ مريم العائشة في الصحراء وحدها الكتاب المقدَّس؟ إنّه روح الله، وفقًا لقول السيّد، واعدًا تلاميذه: “إذا أتى المعزّي، روح الحقّ المنبثق من الآب، فهو يعلّمكم كلَّ شيء” (يو 26:15) وهو الّذي علّم البارّة مريم بسُكناه فيها، مُقَدِّسًا إياها. إلى ذلك، أتَت مريم المصريّة عجائب أخرى عظيمة، ولكن ليس من ذاتها، بل من الله الساكن فيها.

63- ولكنّ المنحرفين عن الإيمان، مِثلَهُم مثل المُلحِدين، لا يأخذون بمعيار البشر المتألّهين، بل بمعيار البشَر المدوِّدين. لذلك يفكّرون هكذا: ما لا يستطيعه هؤلاء لا يستطيعهُ ولا أولئك. إذًا ما يستحيل على الإنسان المدوِّد، يستحيل كذلك على الإنسان المتألّه، وحتى على أبناء الله. وظيفتُهم أن يضعوا البشر كلّهم في خانة مادّيّة واحدة بحسب الحكمة الجسدانيّة. يبتغون توحيد البشر، وتوحيد الأديان، وتوحيد الشعوب، وتوحيد كلّ شيء باسم “الغوريلاّ”، الجَدّ الّذي يتحدّر منه “داروين”.

64- مع ذلك، منذ بدء الكون، ليس ما يضاهي الإنجيل في وضع فوارق ضخمة رهيبة ما بين الإنسان والانسان. فدُعي فريق من الناس أبناء النور، والفريق الآخر أبناء الظّلمة، فريق اتّخذ الله أبًا له وفريق آخر الشيطان. بعضهم دُعيَ أبناء الملكوت، وبعضهم الآخر أبناء جهنّم. بعضهم لصالح المسيح، والآخرون لصالح المسيح الدّجّال. في هؤلاء يعمل الروح القدس، وفي أولئك أرواح الكذب. هذا ما قاله الله الابن: “هو روح الحق الّذي لا يقدر العالم أن يقبَلَه، لأنّهلا يراه، ولا يعرفه. أمّا أنتم فتعرفونه، لأنّه يقيم معكم، ويكون فيكم” (يو 17:14).

65- إنّ الغربيّين الأوروبيّين يطلبون أن يَرَوا قبل أن يؤمنوا. لذلك لا يعرفون روح الحقّ، ولا يمكنهم أن يعرفوه بسبب فعلِه فيهم. لا يستطيعون أن يؤمنون بما ليس عندهم، لأنّهم لم ينالوه أصلاً. يا للبؤس! يا للمصيبة! فحتّى إذا شاهدوا أعجوبة من خلال أحد أبناء النور أو بنات النور، لا يؤمنون بها، بل يحاولون تفسيرها من خلال الأمراض النفسيّة أو العصبيّة! وهكذا يمنعون الإنسان المدوِّد أن يرتقي إلى مستوى البقرة أو النّسر، أما أن يرتفع إلى الله، فأين نحن من هذا!

66- وفق تعليم الإنجيل، تقيم الكنيسة الأرثوذكسيّة فارقًا واضحًا بين أبناء هذا العالم، وأبناء الملكوت. فرغم أنّ الخالق واحد، صنع الملائكة وصنع العالم المنظور، يَقول الإنجيل: ” العالم كلّه تحت سلطان الشرّير” (ايو 19:5). هذا يعني أنّ العالم كلّه تدنّس وابتعد عن الله، فأمسى وثنيًا شريرًا. فهو لا يمكنه أن يتقدّس إلا بوساطة أناس قدّيسين يسكن فيهم الروح القدس الإله، وبحضور هؤلاء الأناس القدّيسين، وبوساطة الممارسات والوسائل المعروفة في الكنيسة من صلاة، ورسم إشارة الصليب، إستدعاء الروح القدس، ولفظ اسم المسيح، ووالدة الإله وأسماء الملائكة والقدّيسين. وهذا كلّه لا يهمّ المنحرفين عن الإيمان إلاّ أنّ الكتاب يقول إنّ الله اختار ما يحتقره العالم ويزدريه ويستصغر قيمته ليزيل ما يعظّم العالم قيمته (اكو28:1) اي ما يبدو ذا قيمة.

 

[1] الكُلِّيّات: المفاهيم والمعاني النّظرية المجرّدة الفلسفيّة. (المترجم)

[2] أحد الكُتبِ الطقسيّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة، وهو مختصّ بالأعياد اليوميّة  للسيّد والسيّدة والقدّيسين على مدار السّنة. (المترجم)

*  من “الإيمان و الحياة بحسب الإنجيل، بشرى الخلاص في الكنيسة الأرثوذكسيّة، ( مقتطفات من”مئويّة ليوبوستينيا” Lioubostinia)” ترجَمته عن الفرنسيّة بتصرّف السيدة مايا اسطفان، مراجعة راهبات دير رقاد السيدة – كفتون، المصدر الأساسي:

«Centurie de Ljubostinia» in Vélimirovitch, St Nicolas. La foi et la vie selon l’Evangile. Editions l’Age d’Homme (10 mai 2007). Col.Grands Spirituels Orthodoxes du XXe siècle. Traduit du serbe par Zorica Torzic.

Leave a comment