صورة الإنسان لنفسه كمرض روحي
الأب أنطوان ملكي
عن الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس بتصرّف
الاكتفاء الذاتي في المجال الروحي هو اعتبار مواهبنا الشخصية على أنها ذاتية، وجعلها مستقلة عن الله وخدمة أعمال الخير، واستغلالها لمصلحتنا. في المصطلحات المعاصرة، يشير الاكتفاء الذاتي إلى حالة للذهن نبالغ فيها في تقدير مواهبنا الروحية وفضائلنا حيث نراها على أنها متميزة بتفرد، ونذهب لما هو أبعد من ذلك فنظن أننا كاملون، وبالتالي لا نكون محتاجين لنمو آخر.
للأسف، يعاني أغلبنا، نحن المسيحيون المعاصرون، من ذلك. فلدينا الشعور بكمالنا الروحي الخاص بنا. إننا لا نشعر بالحاجة للنمو أو التطور في حياتنا الروحية. على عكس ذلك، نظن أن الآخرين، بخلافنا، لديهم العديد من الضعفات، وبذلك نعيش مثل الفريسيين. إن خطر الاكتفاء الذاتي هذا، والذي يكون مصحوباً باحتقار الآخرين هو أحد أكبر المخاطر في عصرنا هذا وهو وهم كبير وسبب حصر اهتمام الكثيرين فقط بالفضيلة العملية وليس بالتقدم نحو معاينة الله. فالغالبية اليوم لا تهتمّ بالصلاة العقلية أو الحياة الداخلية، وبالتالي لا يعرفون أبداً الفقر الروحي الذي هو أول تطويبات المسيح، وهذا يمنعهم من التوبة تُدخِل نعمة المسيح إلى القلب.
من أكبر الإشكاليات المعاصرة هي كيفية التعاطي مع هؤلاء الأشخاص الذين يطوبون ذواتهم. هل يتعيّن علينا أن نتركهم في هذه الحالة أم علينا أن نحاول تحطيم هذه الصورة التي كوّنوها عن أنفسهم؟ الحطر هو أن الكثيرين، عندما يتهشم قناعهم الشخصي الناتج عن اكتفائهم الذاتي يسقطون في يأس عميق ويتأذون. هنا الحاجة لأن يكونوا مسنودين بنعمة الله من خلال الرعاية الساهرة. وهنا أيضاً أحد صلبان الآباء الروحيين حيث عليهم أن يميّزوا الاكتفاء الذاتي الروحي، وكيفية تحطيمه، وكيفية التعامل مع الشخص الذي يسقط عنه مظهر التقوى.
يصيب اليأس العديد من الناس في هذه الأيام. يقسِّم القديس يوحنا السلمي اليأس إلى فئتين. أحدهما هو اليأس الناتج عن “كثير من الخطايا، وضمير مثقل، وحزن لا يحتمل”. وينتج الآخر عن “العُجب والخيال، عندما يعتبر المرء نفسه غير مستحق لخطيئة سقط فيها”. يقود النوع الأول من اليأس للتبلّد. أما في النوع الثاني، فيكمل الشخص جهاده الروحي النسكي بيأس، مما يشكل تناقضاً، كما يقول القديس يوحنا السلمي. يسقط الشخص المتكبر جداً وذو الأفكار العظيمة عن نفسه في النوع الثاني من اليأس، لأنه بعد ارتكاب خطيئة لا يستطيع تصديق أنه فعل ما فعله. يقول القديس يوحنا السلمي أن العُجب واليأس متناقضان مثل العرس والجنازة، ولكن عندما تعمل الشياطين من الممكن أن نرى الاثنين معاً: “كنتيجة للتشويش الناتج عن الشياطين من الممكن رؤية الاثنين معاً بآن واحد”.
هكذا يأتي اليأس من الخلاص من الشياطين. يعلِّم أيضاً القديس يوحنا السلمي أنه لا ينبغي علينا الالتفات إلى الأحلام الخاصة بالعذابات التي تأتي من الشياطين. ينبغي علينا أن نصدق فقط تلك الأحلام التي تعلمنا عن الجحيم والدينونة “لكن لو أصابك اليأس، عندئذ تكون مثل هذه الأحلام أيضاً من الشياطين”.
يجلب هذا اليأس الشيطاني دينونتنا. “كما لا يستطيع الميت المشي، هكذا لا يمكن للشخص اليائس أن يخلص”. إن الشخص الذي لا يؤمن بحنان ورحمة الله، والذي يصبح خائر القوة يقتل نفسه. “الذي ييأس يكون كمن ينتحر”. يحثنا القديسون على ألا نفقد الرجاء حتى آخر نفس في حياتنا: “لا ينبغي علينا أن نيأس حتى آخر نفس” (يوحنا السلمي).
من الأكيد أن العديد من الناس في هذه الأيام لا يريدون سماع التوبيخات الشافية حتى من أبيهم الروحي، وإذا وُبِخوا فإنهم يسقطون في يأس عميق. قد يقرأ البعض سير القديسين وتعاليمهم ويشعرون باليأس لأنهم لم يحققوا شيئاً. هذا يكون صحيحاً من أحد وجهات النظر إذ آجلاً أم عاجلاً لابد وأن تتحطم “واجهة” القداسة والاحترام، وعندئذ يتعين علينا إعادة بناء بيت النفس. ينبغي علينا أن نتوقف عن العيش في أحلام وخيالات. عالم الخيال هو مصدر العديد من تشوهات النفس والمشاكل الداخلية. ينبغي إماتة هذا النوع من الوهم.
يتكلم العديد من القديسين عن اليأس المقدس، الذي يختلف عن يأس العالم. ينبغي علينا أن نتوقف عن تصديق صورتنا عن أنفسنا التي هي مصدر تشوهات خطيرة. إلا أنه بالإضافة إلى موهبة اليأس المقدس العظيمة، ينبغي علينا أن ننمي الرجاء في الرب. ينبغي علينا أن نصدق بؤسنا وعدم نفعنا، فيما نتمسّك في نفس الوقت بإيماننا بمحبة الله العظيمة، محبته للبشر، ورحمته.
تنمو الصلوات بهذه الطريقة. ثم، بحسب قوة صلواتنا وبحسب نمونا في التوبة، يعطينا الله بركته. فإذا سمع أحد ما عن إنجازات القديسين الفائقة للطبيعة أو فضائلهم الغريبة ووقع في اليأس من نفسه كشخص، فهو يكون “الأقل عقلانية”. إن أي مسيحي مستبصر، ودارس لسيرة حياة القديسين إما أن يبدأ في تقليدهم بشجاعة، أو يكتسب، من خلال التواضع، إدانة النفس ويدرك ضعفه ويلوم نفسه (القديس يوحنا السلمي).
بالتالي يوجد يأس على المستوى البشري، وهو عمل الشياطين ويؤدّي إلى إصابتنا بالشلل، ويوجد يأس مقدس متولّد عن نعمة الله ويقودنا للصلاة وطلب رحمة الله. إن العلامة المميزة للأول هي الخمول والتبلد، وعلامة الثاني هي الصلاة والرجاء في الرب.
يعطي الاباء القديسون أهمية كبرى لفضيلة الشجاعة. مَن فضيلة الشجاعة تلك هو وحده القادر على التغلب على تجربة اليأس العظيمة عندما يواجهها في مسيرته الروحية. يستطيع الشجاع أن يقف على حافة الجحيم، متمسكاً بالرجاء بمحبة الله. الشجاعة هي إطار للذهن مع رجاء كامل في الله.
يحثنا القديس يوحنا السلمي قائلاً: “اقتنِ كل الشجاعة وسوف تجد الله كمعلم لك في الصلاة… تقيم النفس الشجاعة النوس المائت”. أما القديس نيلوس الناسك فيعلّم “انتبه لكي تكون متواضعاً وشجاعاً، وعندئذ سوف تهرب نفسك من تأثير الشياطين”.وبحسب القديس إيسييخيوس الكاهن توجد أربع فضائل رئيسية تشكل كلّ الحياة الروحية وهي الحذر، والحكمة، والاستقامة، والشجاعة. مهمة الحذر هي أن يحث القدرة الحسية “لكي تنخرط في حرب داخلية وإدانة الذات”. مهمة الحكمة هي أن تدفع القدرة العاقلة نحو اليقظة ومعاينة الله الروحية. مهمة الاستقامة هي توجيه قدرة النفس الراغبة نحو الفضيلة والله. في النهاية، تكون مهمة الشجاعة هي أن تحكم الخمس حواس بحيث لا تتدنس لا ذاتنا الداخلية ولا الخارجية، ولا قلبنا ولا جسدنا. يظهر جهاد الإنسان لكي يحفظ حواسه طاهرة خوفاً من أن يتدنس الجسد والقلب شجاعة روحية، بل أنه حتى ينميها أكثر. بالإضافة إلى ذلك، بحسب إيليا القس، للنفس الشجاعة مصباحان هما العمل، والثيئوريا (الفضيلة العملية، ومعاينة الله) وبالتالي تَفي بالتزاماتها.
حتى بعد ارتكاب الخطيئة، على الرغم من أن شجاعتنا قد تكون فشلت في مرحلة مبكرة فسقطنا في الخطيئة، نحتاج الشجاعة الروحية ثانية. ينبغي علينا أن نلجأ لله بالتمام، ونُلهَم بنعمته ومحبته. هذه التوبة هي “ابنة الرجاء والتخلي عن اليأس” بحسب القديس يوحنا السلمي، ما يجعل النفس الشجاعة تلجأ لله ثانية وتطلب الشفاء بعد الخطيئة.
الخلاصة هي أنه ينبغي علينا أن نحرر ذواتنا من الاكتفاء بالذات، الذي يبقي علينا في حالة دائمة من المرض والموت الروحي، وفي جهل بذواتنا الحقيقية. ينبغي علينا أن نسأل الله أن يعطينا معرفة لذواتنا، وأن يعلن لنا جراحات نفوسنا. وإذا ما شعرنا باليأس ينبغي علينا أن نلجأ لله بشجاعة ونطلب رحمته. سوف تعطينا هذه الشجاعة الروحية القوة لكي نعبر هذا الطريق الصعب فنختبر رحمة الله ومحبته.