الصلاة كوسيلة لتربية الأولاد

الصلاة كوسيلة لتربية الأولاد

جون سانيدوبولوس

نقلتها إلى العربية جولي عطية

لطالما وُجدت، إلى حدّ ما، “هوّة بين الأجيال”، لأنّ “الاختلافات بين الناس هي طبيعية بالاستناد إلى العمر والمواهب الروحية والخبرة والحالة الروحية “، كما يشير المتروبوليت يروثيوس الذي من نافباكتوس في دراسته البارزة تحت عنوان “العلاقة بين الأهل والأولاد”(1989). اليوم، في عصر تسوده أزمة على صعيد القيم والمؤسّسات والقيادة والناس، نجد أيضًا أزمة متعددة الأوجه في العلاقة بين الأهل والأولاد.

في سبيل تخطّي هذه المصاعب والفروقات، علينا أن نتحلّى بالجدّية والهدوء وخاصّة بالمحبة. نحتاج أيضًا إلى معيار ثابت في الحياة، وذلك نادر اليوم، في عصر نعيش فيه بضياع كبير. فماذا يمكن للأهل أن ينقلوا لأولادهم، وكيف يتوصَّلون إلى وفاق معهم، بينما، هم بدورهم، يعيشون حالة ضياع ويحتاجون المساعدة أوّلاً؟

ما هي الصلاة؟

كتب القدّيس يوحنا السينائي في كتابه السلّم إلى الله قائلاً: “الصلاة هي حوار الانسان مع الله واتحاده به، وتأثيرها يرفع العالم ويجلب المصالحة مع الله… هي… جسر فوق الاغراءات، حائط في وجه المحن، سحق للصراعات (مع الشياطين)،… مصدر للفضائل، وسيلة لاقتناء النعم الروحية …، استنارة النوس، فأس ضدّ اليأس، إعلان للأمل، علاج للحزن…، تخفيف للغضب،…دلالة على الحالة الروحيّة للشخص  (الدرجة 28). تفترض الصلاة القلبية حبًّا واهتمامًا للذين تُرفع من أجلهم (في هذه الحالة الأولاد)، كما تفترض ثقة بالذي تُرفع إليه (أي الله)، الثقة بأنّ لديه الحب والقوّة لمساعدتنا.

عندما نتكلّم عن الصلاة كأسلوب حياة للأهل، نتكلّم عن أولئك الأهل الذين يعيشون الصلاة، الذين هم أناس صلاة وشعب الله وشعب الكنيسة، والذين يملكون أبًا روحيًّا ويشاركون بانتظام في الأسرار، ويعيشون حياتهم باهتمام روحي.

الأسلوب الأكثر فعاليّة

إنّ الأسلوب الأكثر فعاليّة في تربية الأهل لأولادهم هو استعمال أقلّ كلمات ممكنة والتربية بواسطة المثل. كتب الأب باييسيوس الآثوسي في رسائله قائلاً: “مغبوطون هم الأهل الذين لا يستعملون كلمة “لا تفعل” مع أولادهم، بل يكبحون الشرّ بواسطة حياتهم المقدّسة التي يقلّدها الأولاد ويتبعون المسيح بشهامة روحيّة وبفرح. لقد تكلّم قدّيسون عدّة عن الدور الايجابي الذي تؤدّيه قداسة الوالدين في حياة الولد. بالتالي، حين يكون الوالدان مصلّيين، هما يعيشان الصلاة، يحيان في المسيح والمسيح يحيا فيهما. حينها، يمكنهما إيصال المسيح إلى أولادهما.

الوالدان الحقيقيّان ليسا مجرّد من ولدا ابنًا بالجسد، إنّما من يربّيانه بطريقة صحيحة. هما أُنشئا بحسب المبادئ والقيم الارثوذكسية، ويعرفان أنّ سبب وجودنا على هذه الأرض هو في كوننا وارثي ملكوت الله، الأمر الذي يتحقّق فقط باستعمال الطرق الشفائيّة التي حدّدها التقليد الآبائي الارثوذكسي: التطهّر، الاستنارة والتمجيد. إنّنا، بتطهير قلوبنا من الأهواء الخاطئة، نستنير بالروح القدس ونصبح متّحدين بالله عبر نعمته. عندما ينشئ الوالد ابنه متّخذًا هذا الهدف بعين الاعتبار، وهو بأنّه مدعوّ لأن يكون “إلهًا بالنعمة”، حينها، وكما يقول القديس باسيليوس الكبير، سيتّخذ كلّ شيء موقعه المناسب ويكتسب معناه الحقيقي.

الأمور المهمة أولاً

إنّ الانسان المصلّي الذي يجاهد الجهاد الحسن لاقتناء الفضيلة، هو الأنسب، بمؤازرة الله، لتزويد أولاده بالتربية الحقيقية. هذا الانسان يعتبر الآخر شخصًا فريدًا ويحترم حريّته. كتب المتروبوليت يروثيوس قائلاً: “يجب أن تتميّز علاقتنا مع أولادنا بالحب والحرية، اللذين عليهما، في الواقع، أن يتلازما وأن يعبّر عنهما سويًّا: الحب الذي لا يحترم الحرية هو تسلّط، والحرية من دون حب حقيقي هي فوضى”. ويضيف:” يبرّر الأهل عادة كلّ تصرّف لهم بمدى محبّتهم لأولادهم. بالطبع، الحبّ عظيم ، فكما يقول آباؤنا القديسون إنّ الحب ثمرة اللاهوى، لذا فهو يتطلّب تطهيرًا للقلب”. ثمّ يضيف قائلاً: “وأيضًا، يبرّر الأولاد عادة تصرّفاتهم بأنّهم أحرار في فعل ما يشاؤون، وبالتالي لا يقبلون إرشاد والديهم. إلاّ أنّ الحريّة ليست في فعل ما أشاء، وهي ليست مجرّد اختيار حرّ، الحريّة الحقيقيّة يعبّر عنها بالحبّ.

يعتبر الانسان المتواضع نفسه أسوأ من الجميع ولا يدين بسهولة أخطاء الآخرين. وإن فعل ذلك فإنّما بهدف تأديب الولد وبنائه وليس بهدف إيذائه وتبرير أنانيته (أنانية الولد)، كما يقول الكتاب: “ليؤدّبني الصدّيق ويوبّخني” (المزمور 141: 5).

الانسان المحبّ والمتواضع يعرف كيفيّة المسامحة والصبر والإصغاء للآخرين. لكن بدلاً من هذه الفضائل، غالبًا ما نجد في داخلنا ما يقابلها من الرذائل. إنّنا نميل في أيامنا هذه إلى أن نحمل، بأنانيّة، الضغينة والحقد. تتمحور حياتنا حول التوتّر الذي نراكمه على أنفسنا من دون بساطة وصوابية في وجهة النظر. كما أنّنا نحبّ التكلّم على أنفسنا وعلى آرائنا، رافضين التغيّر والإقرار بأخطائنا.

الانسان المصلّي لا يغضب بسهولة، بل هو حليم ومسالم. هو يعرف المعاناة والبهجة الحقيقية، لأنّ الألم يهذّب الروح ويمنحنا الفرصة لتمجيد الله في وقت يكون ذلك آخر ما يُتوقّع منّا. إذا وصل أحد الوالدين إلى البيت غاضبًا وحزينًا أو فاقدًا السيطرة، سينتشر هذا الفيروس في المنزل مثل مرض معدٍ. إنسان الله عنده إيمان ويثق بالله لا بأفكاره وقدراته الخاصّة. الإنسان المؤمن لا يقع في اليأس والإحباط، اللذين هما ثمرة الكبرياء، بل يعترف بفشله بتواضع ويلتفت إلى الله طالبًا العون، كما يقول الأب باييسيوس: “عندما نوكل الله بكلّ شيء، فهو يكون مُجبَرًا على مساعدتنا”.

هذه هي صفات الوالد الناضج والروحاني الذي لا يكون أنانيًّا وقاهرًا أو مفرط الاهتمام. يدرك أنّ أولاده ليسوا ملكًا له. -هم لا ينتمون إلينا، نحن لم نخلقهم بأنفسنا بل كنّا مشاركين في الخلق مع الله. نحن نساعد في وهب الجسد لكنّ الله هو واهب الروح-. لا يضع نفسه أولاً، لا يعطي وعودًا كاذبة، لا يقمع ويسيطر ويصدر باستمرار تعليقات سلبية وانتقادات.

أخيرًا، الوالد الناضج والروحاني لا يكلّم أولاده عن الله فقط، إنّما بالأخصّ يكلّم الله عن أولاده. فالصلاة، بالنسبة له، هي راحة وليست عبءًا. يدرك أنّ وطأة النضال يجب أن تُسلَّم للصلاة وألّا تقتصر فقط على الكلام.

الأمل موجود

إضافةُ، علينا أن نفهم أنّ الشباب لا يفتّشون عن عالم فيه وفرة من السلع الاقتصادية، بل عن عالم خالٍ من الملل” (المتروبوليت يروثيوس). ينشأ الملل عندما لا يجد الانسان معنى لحياته. كتب الطبيب النفسي فيكتور فرانكل، مؤسّس العلاج بالكلمة: ” قام مجلس التعليم الاميركي ببحث (استطلاعات) شمل 171500 طالب، 68.1 % منهم أجابوا بأنّ الهدف الأسمى في الحياة هو إيجاد فلسفة حياة ذات معنى”.

يفتّش الشباب ذوي الاهتمامات الروحيّة عن أجوبة لأسئلتهم الوجودية: من أنا؟ من أين اتيت؟ إلى أين أنا ذاهب؟ ما هو معنى حياتي؟ هل هناك حياة بعد الموت؟ ما هو الهدف من حياتي؟ ليس المجتمع المعاصر في موقع مناسب للإجابة على هذه الأسئلة المشروعة ومساعدة الشباب.

يُزدرى، عن جهل وحكم مسبق، بأجوبة الكنيسة السليمة والمثبتة، خاصّة وأنّ عدوّ خلاصنا، الشرير، يدفع الناس للانشغال بمعرفة كاذبة وبأساليب ومعتقدات، بغية الإجابة على هذه الأسئلة وإعاقة خلاصهم.

لقد سئم الأولاد من النزعات الاستهلاكية والعلمانية والمادية، وأصبحوا، بسهولة، ضحايا لمخاطر عدّة محيطة بهم. كآباء، نحن مدعوّون لتوجيههم إلى مَثَل المسيح. هذا ليس سهلاً، لكنّ قوّة الله بإمكانها أن تحوّل الناس وتملأهم، حين يبدو كل شيء آخر مستحيلاً. بواسطة هذا الأسلوب، يمكننا سدّ تلك الهوّة الموجودة بين جيل وآخر.

John Sanidopoulos holds a BA in Religious Studies from Hellenic College and an M.T.S and Th.M from Holy Cross School of Theology

Leave a comment