أطفال معترفون

أطفال معترفون

قصة من دير بانياتييف في أوائل عهد الثورة الروسية ترويها إحدى الأخوات

خلال الحرب العالمية الأولى، اضطرت الأخوات في لاسنا لترك ديرهن بسبب اقتراب الأعداء. أول الأمر أُخذنا إلى بتروغراد. بعد اسبوعين، أرسِل عشرون أخت ومئتان من أطفال ميتم الدير إلى دير بنياتييف في ولايةنيزوغورودسكي. هذا الدير كان قد أسّسه القديس سارافيم بنفسه وكان فيه أيضاً ميتم. وبالتالي بعض أطفال لاسنا أرسِلوا إلى دير شابكين في بيصربيا حيث انتقل ديرنا. بعض الأطفال أرسِلوا إلى أهلهم. فقط الأيتام الذين بدون لا أب ولا أم بقوا في بانياتايفكا حيث لحقتنا الثورة.

نجحت بعض أخواتنا بمعونة الرب بالخروج من دير بانياتييف والتحَقْن بالباقين في جماعة لاسنا في بيصربيا. على أي حال، عشر أخوات، بمَن فيهنّ أنا، بقينا في بانياتايفكا. لقد تأخرنا في الرحيل فاضطررنا للعيش تحت حكمالبولشفيك.

وضعَت مراقِبَة سوفياتية يدها على الميتم. كانت تُدعى صوفيا فيودوروفنا شير. أيضاً أضيف إلى أيتامنا بعض أيتام السوفيات. كان للمراقبة خمس أولاد: فيرا عمرها خمسة عشر، ناديزدا اثنا عشر، ليوبا سبعة، تامارا ستةوفولوديا ثماني عشرة. أولاد هذه المرأة كانوا مختلفين عن بعضهم. فقط ناديا وليوبوشكا كانتا تؤمنان بالله. سمحت صوفيا فيودوروفنا لناديا بالحضور إلى الكنيسة لأنها “بالغة”. أما ليوبوشكا ابنة السابعة فكانت ممنوعة من الذهاب إلى الكنيسة لأنها لم تزل صغيرة. لكن عندما تكبر، وعدتها أمها، بأنها حرة في أن تقوم بما يحلو لها. “أه! لو أستطيع أن أكبر بسرعة أكبر حتى أذهب أيضاً، مثل ناديا، لأصلّي في الكنيسة”، عبّرت ليوبوشكا بحزن.

كم كان قاسياً سماع فولوديا وفيرا وحتى تامارا الصغيرة يقلن بغرور: “لا يوجد الله. نحن لا نؤمن به. كل شيء هو طبيعة”. لقد سمع هؤلاء الأولاد الساذجون الكثير من كلام البولشفيك المخبولين واعتادوا تكراره.

لقد عينني البولشفيك حاضنة لأيتام لاسنا وغالباً ما كانت نادينكا وليوبوشكا تأتيان ليفضيان إليّ بمكنوناتهما. أهلهما كانا شيوعيين، لكن الفتاتين الصغيرتين كانتا صاحبتي نفسين رقيقتين ومؤمنتين. الأب والأم وحتى أخواتهماكانوا غرباء عندهما. في إحدى المرات كنت أشفق على ليوبوشكا من كل قلبي وأعطيتها هذه النصيحة: “أنت تفتقدين الكنيسة إلى هذا الحد؟  إذاً أنظري، أثناء لعبِك مع الأولاد الآخرين قرب الكنيسة،  فقط تسللي إلى الداخل. أمك لن تعرف. صلِّ هناك من أجل أبيك وأمك وأخيك وأخواتك”.

هذا ما فعلته ليوبوشكا بالتحديد. بعدما انتهى اللعب مع الأولاد الآخرين، مضى الأولاد وبقيت ليوبوشكا وحدها قرب الكنيسة فدخلت بيت الله بهدوء وصلّت ثم خرجت. أتت إلي ملأى بالفرح قائلة: “أيتها الأخت، لقد كنتُ في الكنيسة!” وفي مرة أخرى، قالت لي الفتاة “أه! كم أتمنى المناولة!” فقلت لها “ليوبوشكا، عندما تلعبين مع الأطفال، ما أن يذهبوا تسللي إلى الكنيسة واذهبي إلى الراهبة التي عند الشموع وأخبريها بأنك ترغبين بالمناولة. بما أنّك صغيرة فسوف يعرّفك بسرعة”. فسألَت “أعليّ أن أرتدي ثياباً نظيفة؟” فأجبتها “لا، ليس عليك، ثياب اللعب ملائمة جداً طالما أن نفسك نظيفة. اذهبي الآن”. أعان الله ليوبوشكا على قضاء رغبتها المبارَكة ومن دون علم أمها تناولت القربان المقدس. أتت إليً ركضاً مبتهجة قائلة: “أنظري أيتها الأخت لقد تناولت!” فأرسلتُها إلى ناتنسكا إحدى فتياتنا من لاسنا وكانت قد خبأت لها بعض الشاي.

كان زوج صوفيا فيودوروفنا يعيش في مدينة أرزاماس. في السابع عشر من أيلول ذهب أولاده لزيارته إذ كان عيد أسماء فيرا (إيمان) وناديا (رجاء) وليوبوف (محبة) وصوفيا. عند عودة البنات إلى الميتم كانت ليوبوشكا تتفاخر بشكل طفولي “أيتها الأخت كم فرحنا في يوم عيد إسمنا! لقد حصلنا على كل شيء، كل أنواع المتعة!” فسألتها “هل ذهبتِ إلى الكنيسة؟” فأجابت متمتمة ومرتبكة بعض الشيء “لا-ا-ا، وحدها نادينكا ذهبت إلى الكنيسة وتناولت. أنا لم أفعل”. فقلت لها: “عندما تكبرين، تأكدي من الذهاب إلى الكنيسة والمناولة في هذا اليوم. هذا ما فعلته ناديا والرب كان معها هو وملاكها الحارس. الباقون منكم أكلوا وشربوا كثيراً ليس إلاّ، وأنتِ تقولين أن هذا ممتع. هذا ليس فرحاً حقيقياً”.  فأجاب الفتاة الصغيرة البائسة “ماذا أستطيع أن أفعل فيما أمي تقول بأني بسيطة وصغيرة بينما ناديا قد كبرَت وتعرف ما الذي تفعله؟” لقد كانت أمها الفاقدة الحس تحرمها من اتحادها المفرِح مع الرب.

في ذلك الوقت لم يكن البولشفيك قد تجرؤوا بعد على شن الحرب على الله بشكل معلَن. كانت بناتنا في لاسنا تأتين إلى الكنيسة وكان الأساتذة الشيوعيون يسألونهن: “هل تجبركن الراهبات على الذهاب إلى الكنيسة؟” فكان أولادنا يجيبون “لا فقط نحن نحب الذهاب إلى الكنيسة!”.

لقد كانت الكنيسة في دير بانياتييف قديمة ومبنية من الخشب. ما أن تدخل حتى تجد القديس سارافيم جالساً على جذع شجرة وكأنه حيّ في قفطان أبيض ومتية قصيرة وقلنسوة. كان القديس يحمل كيساً مملوءً بالبقسماط في يد وفي يده الأخرى يطعم دبّاً أشعثاً. كم كان الأولاد يحبون الذهاب إلى الكنيسة ليشاهدوا القديس المحبوب. لقد كانوا ينظرون بتوقير إلى هدوئه وإلى ثيابه. لقد كانوا يبتهجون بالدب إذ كان يبدو حقيقياً جداً.

لم تكن الحياة لطيفة بالنسبة للأولاد تحت حكم البولشفيك. لم يكونوا يتغذون جيداً أيضاً. وفي الشتاء كانوا يتنقلون بأحذية مثقوبة وبدون جوارب. وفي مرة علّق المسئولون صوراً لقادتهم، لينين وتروتسكي وغيرهم، في غرفة طعام الأولاد. نظرت إحدى الفتيات الصغيرات إلى الصور وقالت بصراحة وبكل براءة الأطفال “أه! كم هم بشعون!” فأشار صبي صغير إلى الأيقونات وسأل “وهل هذه جميلة؟” فصرخت الفتاة “ماذا تقول؟ إنها جميلة جداً جداً” وفي مرة وضعت للأطفال بطاطا مسلوقة ليأكلوها ومن ثم تركت الغرفة. وقد أُصبت بالهلع عند عودتي إذ رأيت أنهم ألصقوا قشر البطاطا على الأفواه في الصور. فنزعت هذه الزينة بسرعة عن الصور حتى لا يراها أحد المسئولين. معاذ الله أن يرى البولشفيون هذه السخرية من رؤسائهم! نحن كنا لنرى فيها مزحة من الأطفال.

وفي الصباح التالي ذُعرت عندما أتيت إلى غرفة الطعام ووجدت ثقوباً بدل الأعين في كل الصور. فقد كان أطفالنا العابثون قد قصّوا أعين “الرجال العظام”. لقد كانت المراقِبة خلفي مباشرة ورأت الثقوب المشؤومة وسألت بغضب: “مَن فعل هذا؟” وقد أحتجت للوقت لإقناعها بأن هذا لم يكن عمل أيّ من الأخوات، لأنهن يعرفن تماماً بأنهن سوف يُعاقَبن بشدة لسخريتهم من القادة. اقتنعت المراقِبة بأن الأطفال هم مَن أساء السلوك. في ذلك الوقت كانالبولشفيك يمنعون معاقبة الأطفال الذين كانوا أحراراً أن يفعلوا ما يشاؤون. كانت لهم الحرية الكاملة. في أي حال، هذا الحادث أحاط المراقِبة علماً بمدى احترام أطفالنا لقادتهم العظام.

بعد صوفيا فيودوروفنا أتت ماريا فيودوروفنا كمراقِبة. ما أن وصلت حتى جمعت الأطفال وراحت تعظهم معلمةً إياهم الإلحاد. “كل شيء هو الطبيعة. لم يخلقها أحد. العالم كان دائماً وسيبقى إلى الأبد. إنه يحرّك نفسه”. فأجاباحد الأطفال “لكن حتى العربة الصغيرة لا تسير بنفسها من دون سائق. على أحدٍ ما أن يقود الأحصنة. وأنتِ تريدين أن يكون العالم بأسره محرّكاً بنفسه!” وأضافت إحدى الفتيات “نعم، ولا القطار يستطيع أن يسير من دون مهندس”. ظهر على ماريا فيودوروفنا الارتباك، إذ بماذا تجيب على ملاحظات الأطفال الذكية، فقالت المراقِبة الجديدة مؤكّدةً “الله لم يخلق الإنسان. لقد تطوّر من القرد”. وإذ بصوت صغير يسأل متهكماً: “إذاً مَن خلق القرد؟ أأتى من نفسه؟”

لا أتذكر كل العبارات الذكية التي أتى بها الأولاد وكل الدعاية الحمقاء التي قدمتها ماريا فيودوروفنا. كل ما أتذكره هو مدى انذهالي من الحكمة الإلهية التي تخللها كلام الأطفال، وكأن الروح القدس هو الذي كان يتكلّم بشفاههم النقية وليس هم. لقد علّق الأطفال تلك الملحدة على الحائط، بحسب التعبير الشعبي. لقد رفعت يديها ومضت كما قررت ألاّ تناقش مع الأولاد من بعدها. على أي حال، لقد كان البولشفيك على استعداد لحبس الأطفال في غرفة لتعليمهم الإلحاد.

وفي إحدى المرات فكّر البولشفيك بالمجيء إلى أولاد الميتم. فقالت لنا الأخت المتقدِّمة “أنتن تُعتَبَرنَ حاضنات الأطفال. انتبهن ألاّ تتركنهم بمفردهم مع البولشفيين. لم يجرؤ الشيوعيون على إبعاد الأخوات عن الأطفال. لقد طلبوا فقط من الأطفال أن يُروهم ألعابهم. ولقد كان البولشفيون مسرورين من طريقة لعب أطفال لاسنا ومن غنائهم فسألوا: “مَن علّمكم هذه الألعاب والأغاني المثيرة للاهتمام؟” فأشار الأولاد إليّ. “نعم علينا أن نرسل هذه الأخت إلى مدارسنا في أرزاماس. الأطفال هناك لا يعرفون كيف يلعبون بهذه البراعة”. كم كنتُ مذعورة لسماع هذه الكلمات! يمكنك تخيّل كم أنها صعبة مفارقة الدير وأطفال لاسنا المحبوبين. لكن المجد لله لم ينفذ البولشفيون مخططهم وتركوني حيث أنا.

اقترب عيد الفصح اللامع. قبل سحرية العيد أخبرت ماريا فيودوروفنا الأولاد بأنها سوف تقفل البيت وتضع المفتاح تحت وسادتها وتنام”. ابتسم الأولاد وقالوا بهدوء “اذهبي أقفلي الباب وضعي المفتاح تحت وسادتك ونامي. فالأمر سواء، نحن سوف نكون في الكنيسة”. وبالحقيقة قام الأولاد بما قالوا أنهم سوف يقومون به. لقد كانوا جميعاً في سحرية العيد. لقد كان عددهم في ذلك الحين خمسين. نظرت الأخوات إلى الأطفال بدهشة ورحن يسألنهم عن كيف تمكنوا من الخروج من البيت المقفِل. فالحقيقة هي أن أولادنا الشجعان، بمعونة الله، وبدون أن يخشوا الوقوع من الطابق الثالث، تسلّقوا نوافذ غرف النوم الصغيرة وتبعوا الكورنيش ونزلوا عن طريق المزاريب. لقد أتوا إلى الكنيسة لينضموا إلينا في تمجيد قيامة ربنا الممجدة واللامعة.

في ذلك الوقت كانت ماريا فيودوروفنا نائمة ولم تلحظ أن الأولاد أتوا بشكل سري إلى الكنيسة بوقاية الله عن طريق المزاريب ومن ثم عادوا بأمان إلى غرفهم وناموا بسلام في أسرتهم.

بنعمة ربنا خرجتُ من روسيا السوفياتية وأتيتُ إلى يوغوسلافيا حيث انتقل ديرنا من بيصربيا. لكني للأسف لا أعرف ماذا جرى لدير بانياتييف.

Leave a comment