المتاهة المسكونية: نظرات متباعدة للعالم

المتاهة المسكونية: نظرات متباعدة للعالم

الأب جون بريك

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

تبدو الحركة المسكونية أمام طريق مسدود. منذ بدايات الحركة في أوائل القرن الماضي، شكّل البروتستانت والأرثوذكس عضوية مجلس الكنائس العالمي، وإلى اليوم استمرّت الحوارات الثنائية بين مختلف الطوائف البروتستانتية والكنائس الأرثوذكسية القانونية. انضمّ الكاثوليك في السنوات الأخيرة إلى عملية الحوار مع كل من البروتستانت والأرثوذكس.

لقد صدر عن هذه المناقشات قدر مهم من الخير. توصّل اللاهوتيون إلى فهم وتقدير أفضل للمسيحيين من الطوائف الأخرى، وأحياناً أظهرت الأوراق الصادرة عن المشاركين في الحوارات تقدّماً ذا معنى نحو إعادة اكتشاف الإيمان الرسولي. آخر هذه الأمثلة هو الاتفاق بين الأرثوذكس والكاثوليك على بعض أوجه الخلاف حول عقيدة الانبثاق. ومع هذا فإن هاويةً ما زالت قائمة بين “الشرق” و”الغرب”، حتى أن النظرة العامة للوحدة الحقيقية بين الكنائس، في العقيدة والتنظيم، ما تزال باهتة في أفضل الأحوال. لماذا؟

قدّم الناس أسبابًا عديدة. من أهمها هو حقيقة أن أغلب الأرثوذكس مرتاحون بالكامل لتقليدهم كما هو محفوظ ومُتَسلَّم عبر الأجيال. بالواقع، إنّهم يحبونّه ويكرّمونه ويهتمّون به كتقليد “مقدّس”. وعليه، فإنّهم يعتقدون بأن أيّ “وحدة” قد تتمّ مع الكنائس الأخرى سوف تعني تسوية غير مرغوبة في أمور الإيمان والعبادة وحياة الكنيسة بشكل عام. بالرغم من المشاكل المتعلّقة بنطاق السلطة وغيرها من المسائل التي يواجهها الأرثوذكس، فهم يشعرون غريزياً بأن كل شيء “آخر” سوف يعني شيئاً “أقلّ”. سواء كانت هذه المخاوف مبررة أو لا، فإنّها تتحكّم بالكثير من مقاربات الأرثوذكس في الحوار المسكوني.

وأيضاً، تخلق التعددية والانحلال الأخلاقي المسيطر في المجتمعات الغربية اليوم، نوعاً من العقليّة التحصينية التي تنتقل إلى المجال المسكوني. إذا كان يُنظَر إلى العمل المسكوني في بعض الدوائر على أنّه من أسوأ الهرطقات، فذلك بسبب وعي، يمكن فهمه حتى ولو كان ناشئاً عن الخوف، بأنّ الدخول في حوار، حتى لا نتكلّم عن “الصلاة مع الهراطقة”، يمكن أن يؤدّي إلى إفساد ما يعتبرونه كنز المسيحية الأرثوذكسية.

هناك أسباب عديدة لهذا الطريق المسدود في العلاقات المسكونية. واحد منها هو أكثر جوهرية وحدة من السببين المذكورين سابقاً. إنّه حقيقة أنّ نظرة كلٍ من الأرثوذكس والمسيحيين الغربيين إلى العالم تختلف عن نظرة الآخر ولا تتجانس معها. سوف أوضح ما أعني بالإشارة إلى حقل التفسير الكتابي. ينسب الأرثوذكسيون أنفسهم إلى تقليد الكنيسة الآبائي بشكل حدسي. إنّهم يجاهدون بشكل واعٍ إلى تبني “فكر” الآباء. سواء كانوا مولودين أرثوذكس أو من المهتدين، هم يطوّرون، من خلال العبادة الليتورجية كما من خلال دراسة الكتاب المقدّس، منظاراً للواقع مختلفاً بشكل جوهري مع تأثيرات ما بعد الحداثة الدهرية الحاضرة التي تقولب الحضارة الغربية بقوة، بما فيها التفسير الغربي للكتاب. يتبنى التفسير البروتستانتي، والكاثوليكي بشكل متزايد، مقاربة تاريخية-نقدية تجد معناها تقريباً بشكل مطلق في المعنيين الأدبي والتاريخي للنص الكتابي. تخفف المقاربات الحديثة المعروفة عالمياً بـ”النقد الأدبي الحديث” من هذا التركيز الأحادي الجانب لكنّها لا تغيره بشكل مهم. يشير المعنى الأدبي إلى المعنى الذي فهمه الكاتب نفسه وحاول تمريره من خلال ما كتب.

من جهة أخرى، كان مسعى آباء الكنيسة الجوهري المعنى “الروحي” للنص، أي المعنى الذي يكشفه الله، فاعلاً من خلال الروح القدس، للكنيسة والعالم في كل جيل. لقد حاولوا أن يكتشفوا المعنى “الأسمى” و”الأكمل” والأكثر روحانية من خلال طرق تفسيرية مختلفة، خاصةً المجازية ودراسة الرموز. ومع هذا فقد قاموا بهذا العمل مقتنعين بأن المعنى الروحي يتدفّق من المعنى الأدبي. التفسير، إذاً، يبدأ كما ينبغي بالتحقيق في الأخير بهدف تمييز المعنى الأسمى والأكمل الذي يريد الروح القدس إبلاغه في النص الكتابي ومن خلاله.

إذاً، استعمال النقد التاريخي لتمييز المعنى الأدبي أمر أساسي. مع هذا، إنه عنصر واحد، ولو كان الأكثر جوهرية، في مجمل العملية التفسيرية. هذه العملية تأتي إلى كمالها مع تمييز المعنى الروحي. هذا يضع الحقائق التاريخية في إطار أصيل لـ”تاريخ الخلاص”، الذي تكمن نهايته خلف العالم التاريخي، في ملكوت الله. وعليه، رأى الآباء كل الأحداث الأرضية على أنها رمزية بشكل أساسي. لقد فُهمَت الأحداث، المؤسسات، الأشخاص والطقوس في العهد القديم على أنها صور نبوية للحقائق المستقبلة السامية. الخروج، مثلاً، خدم كصورة للتحرر من عبودية الخطيئة والموت، وأرض الميعاد اعتُبِرَت صورة للملكوت؛ صوّرت الطقوس التقريبية العبرية مسبَقاً ليتورجية الكنيسة الإفخارستية؛ استعداد إبراهيم لتقديم ابنه الحبيب اسحق أشار مسبقاً إلى تقدمة الآب لابنه على الصليب، وغيرها.

فُسِّرَت هذه النماذج أو الصور النبوية في إطار أوسع أي إطار المجاز. بكلمة، هذا يعني أنّه خلف المعنى الأدبي للنص الكتابي وأبعد منه يكمن معنى أكثر عمقاً يتعلّق بحياة المؤمنين الروحية والأخلاقية في سعيهم إلى الخلاص. لقد أخذ الآباء مفهوم “الرمز” بجدية. “الإشارة” تشير فقط إلى بعض الحقائق المستقبلية أو السامية؛ يخوّل الرمز الإنسان لأن يشترك فعلياً في هذه الحقيقة. تفيد الرموز الكتابية في توحيد المؤمن مع الحقيقة السامية التي تشكّل الأساس لهذا الرمز. وهكذا هناك استمرارية من المعنى بدءً بالمَنّ في الصحراء انتهاءً بإفخارستية الكنيسة، ومنها إلى المائدة السماوية. وتتقدم سلسلة مماثلة من التقدمة الحيوانية في المعبد العبري عبر موت المسيح على الصليب إلى “صلب” الذات، أي صلب الأهواء والميل الخاطئ، في الجهاد النسكي الذي يقود إلى القداسة والحياة الأبدية اللتين من الله.

فيما قد يبدو هذا أفلاطونياً لأغلب الآذان المعاصرة، إلاّ إنّه خبرة مُعاشة عند الأرثوذكسي. في ليتورجيا الكنيسة نحن نعيد تحقيق وعيش الأحداث الخلاصية في تاريخ إسرائيل القديم، والشيء نفسه للأحداث المتعلّقة بآلام المسيح وموته وقيامته. بكلام آخر، إن الشهادة الكتابية ليست مجرّد تدوين للأحداث الماضية التي تعلّمنا إيماننا. إنّها تشجّع الخبرة الحياتية التي فيها يتداخل الماضي والمستقبل في اللحظة الحاضرة (وهكذا نحن نذكر حتى ما لم يحدث أي مجيء المسيح الثاني المجيد). الكتاب المقدس بهذا المنظار يشير دائماً إلى ما يتخطاه وتفسيره في الكنيسة، من خلال الوعظ والاحتفال، يخدم في قيادة المؤمنين إلى ما بعد الحقيقة التاريخية وإلى عالم “الروحي” في الشركة مع الإله الفائق.

بالنسبة للفكر الأرثوذكسي، الله “حاضر في كل مكان ومالئ الكل”. إنّه يوجّه شعبه من خلال الأحداث والظروف التاريخية إلى ما يتخطّى حياتهم الأرضية السريعة الزوال، إلى حلاوة ملكوته وابتهاجه. هناك، وهناك فقط، تكمن ذروة الحقيقة. وهناك أيضاً، يكمن ملء الحياة البشرية التي تعطي معنى مطلقاً لوجود هو بلا معنى لولاه. كل ما هو في الخبرة الأرثوذكسية موجّه نحو هدف سامٍ: عبادة الكنسية، تفسيرها للكتاب المقدّس، وحتى أعمال الإحسان التي تمارسها. إنّها خبرة تخلق في الفكر والروح الأرثوذكسيين ما يسمّيه الرسول بولس “رجاء المجد”.

إلى أن يتوصّل شركاؤنا في المناظرة المسكونية إلى القبول بحقيقة أن الأرثوذكسية تحيا وتتنفس في هذا المنظور المتعالي، وأنّها تجد ذروة الحقيقة والواقع خلف حدود الزمن والمدى، وأنها تؤسّس حياتها الفعلية في الخبرة المباشرة لحضور الله الحي وقوته وعظمته، فسوف نستمّر في حوار الصمّ. بالطبع، كثيرون من المسيحيين الغربيين من مختلف التقاليد يشاركون بالكثير من وجهة النظر هذه ومن هذه الخبرة. ومع ذلك، دراسة الرموز والمجاز تبقيان بالنسبة للأرثوذكسيين طرقاً لتفسير الكتاب المقدس، فيما أغلب البروتستانتيين والكاثوليك يرفضون هذه الطرق على أنها تعود إلى ما قبل النقد وعديمة الجدوى بشكل جوهري. هذا الاختلاف في المقاربة للتفسير الكتابي هو من أعراض حقيقة أننا بالواقع نتبنّى رؤى للعالم مختلفة جداً.

قد ينظر الكثيرون اليوم إلى نظرة آباء الكنيسة المتعالية للعالم على أنها عتيقة الزي وساذجة، أقلّه أن كل اللاهوتيين الغربيين هكذا ينظرون. مع هذا، بالنسبة للأرثوذكس الكتاب المقدس نفسه يحدد موقع قمّة الحقيقة، وبالتالي قمّة الواقع، ضمن عالم وجود الله الذاتي، أكثر مما هو ضمن حدود عالم الحدث التاريخي. إن تفسير الكتاب المقدس، بالإضافة إلى كامل حياة الكنيسة الليتورجية، يخوّل المؤمنين لأن يختبروا هذه الحقيقة في الـ”هنا” والـ “آن”، فيما يثبتون القناعة بأن المعنى الحقيقي للوجود البشري ومصيره يكمنان في مكان آخر، في ملكوت “البِرٌّ وَالسَلاَمٌ وَالفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ” (روما 17:14).

في سياق الحوار المسكوني، تعكس لغتنا وسلوكنا الأرثوذكسيان هذه الخبرة وهذه القناعة. وحيث أنّ هذه الخبرة وهذه القناعة ليستا مشتركتين، وللأسف، إذاً فرصة الفهم المتبادل ضئيلة، وأضأل منها فرص الوحدة الهادفة.

Leave a comment