اللاهوت الأرثوذكسي والعلم

اللاهوت الأرثوذكسي والعلم

الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

هناك حدود واضحة وجليّة بين اللاهوت والعلم. فاللاهوت، بحسب ما يفترض المصدر اليوناني للكلمة، معني بالله: ما هو الله وكيف يصل الإنسان إلى الشركة معه. بينما العلم معني بالعالم المخلوق ومهتم بالدرجة الأولى باستعمال هذا العالم.

في امتحان هذه الجملة البسيطة نكتشف أن اللاهوت والعلم يتحرّكان على مستويات مختلفة، وتالياً إمكانية التعارض بينهما أو حتى بين اللاهوتيين والعلماء غير موجودة. لقد نشأ صراع في الغرب وبلغ حجماً تاريخياً عندما  نُسبَت الماورائيات إلى اللاهوت. معروف جداً أن محتوى الماورائيات مختلف كلياً عن محتوى اللاهوت المعلَن. مثلاً، بحسب الماورائيات، يوجد عالم غير مخلوق من الأفكار ومنه نشأ هذا العالم إمّا بالسقوط أو بالصدور (emanation). وهكذا، عندما نسب الغرب الماورائيات إلى اللاهوت وبالحقيقة، عندما أدّى تقدم العلوم الطبيعية إلى هزّ أُسس الماورائيات، صار اللاهوت المتماهي مع الماورائيات موضع تساؤل. وهكذا، أشار أحد رهبان أثوس عن طريق المزاح إلى التعارض بين الإيمان والعلم على أنهما “تورية الغرب وأحجيته”.

في الكنيسة الأرثوذكسية، كما يعبّر الآباء القدّيسون، نرى أن محتوى اللاهوت مختلف عن محتوى العلم. يتحدّث اللاهوت عن الله، عن خالق العالم الذي هو الله، عن سقوط الشخصية البشرة ومرضها وعن شفائها كي يتّحد الإنسان بالله. ينشغل العلم بما يمكن معرفته علمياً، أي ما يمكن امتحانه بالحواس، ويحاول أن يجعل حياة الإنسان محمولة في وضعه الساقط.

للأسف، غالباً ما نلاحظ أن مقداراً كبيراً من الإرباك يسيطر بين هذين الحدين والمجالين. وُلدت المشكلة عندما بدأ تقديس العلم كثيراً وتحويله خرافياً وعندما صار اللاهوت عالمياً.

يكون تقديس العلم حين يستعمل العلماء المعلومات العلمية مع بعض الاكتشافات ليدمّروا التعليم عن الله أو حتى ليشبّهوا أنفسهم بالله. فضلاً عن ذلك، يكون تقديس العلم عندما يحاول العلماء إيجاد نظام يحل كل مشاكل الإنسان، حتى الوجودية منها.  من نماذج هذه الحالة هو التصريح الذي ألقاه أحد علماء الوراثة الذين يطالبون باستنساخ البشر: “نحن قادمون على أن نصبح واحداً مع الله. سوف نمتلك تقريباً نفس معرفته ونفس قدرته… الاستنساخ وإعادة برمجة الحمض النووي هما أوّل خطوة عملية في كينونتنا واحداً مع الله. إنها فلسفة بسيطة”[ 1 ].

يصبح اللاهوت دهرياً عندما يرفض جوهره الذي هو قيادة الإنسان إلى التطهر والاستنارة والتمجيد، أي عدما يخسر توجهه الأخروي، وعندما يصبح مؤرّخاً ومجرد جزء من المجتمع. إلى هذا، فاللاهوت يصبح دهرياً عندما يسوده كلياً القلق وعدم الأمان في مواجهة الحجج العلمية بينما هو يستعمل منهجية العلم في التكلم عن الله. في هذه الحالات، يخلق اللاهوت مشاكل في البحث. بالواقع، يضيّع اللاهوت مهمته إذا لم يكن عنده معطيات وافتراضات أكيدة.

1. نوعا المعرفة ونوعا الحقيقة بحسب القديس غريغوريوس بالاماس

لقد كان الحوار الذي دار بين القديس غريغوريوس بالاماس وبرلعام فرصةً، من ضمن أمور أخرى، لتوضيح حدود كل من اللاهوت الأرثوذكسي والعلم.

برلعام، كممثلٍ للاهوت القرون الوسطى السكولاستيكي، اعتَرَف بأنّ الحقيقة، بشرية كانت أو إلهية، هي واحدة ومفردة. لقد قبِل أن للكلمات المؤلِّهة والحكمة المحتواة فيها نفس الغاية التي للفلسفة التي تأتي من الدروس العالمية وتهدف إلى إيجاد الحقيقة. وهكذا، اعتبر أنّ الحقيقة واحدة لأنها أعطيت للرسل بينما نحن نكشف عنها النقاب بالدراسة وأنّ دروس الفلسفة (التي فيها كلام كثير عن خلق العالم وإصلاح الإنسان) أيضاً تشارك في رفع الإنسان إلى مستوى “النماذج غير المادية الأولى للرموز المقدسة بشكل دائم”[ 3 ]

القديس غريغوريوس بالاماس، مستعملاً اقتباسات كثيرة من الكتاب المقدس والآباء، قدّم حقيقة نوعي الحكمة ونوعي المعرفة. نرى من خلال عمله تأكيداً على هذا الفرق الأساسي بين المعرفة الإلهية والمعرفة البشرية، ما يثبت أن الحقيقة ليست مفردة. يذكر القديس غريغوريوس بالاماس بشكل مميِّز “من حيث أنه يظهر أن الحقيقة هي من نوع مزدوج: واحد هو نتيجة التعليم الملهَم من الله، بينما الثاني فلا هو ضروري ولا هو يخلّص. إنه يصبو إلى الحكمة الدهرية، لكن ما يحققه هو أقل من هذا”.[ 4 ] هذا يعني أن نوعاً من الحقيقة، الذي هو رؤية الله، هو عمل التعليم الملهَم من الله ونتيجته، بينما النوع الآخر من الحكمة، أي الحكمة العالمية، فلا هو ضروري ولا هو يخلّص، كما أنه لا يتحقق كاملاً. يسأل القديس غريغوريوس بالاماس: “ما هو اهتمام الحكمة المؤلِّهة بكل حقيقة النجوم”[ 5 ]، أي أنّ الحقيقة والمعرفة حول النجوم لا تهمّ الحكمة المؤلِّهة ولا تنفعها. هذه هي الخبرة الحيّة لحقيقة الوحي.

بالتأكيد، لا يرفض القديس غريغوريوس بالاماس الحكمة العالمية التي تنظر في معرفة الكائنات ولكنه يناقش أن هذه المعرفة البشرية لا تساهم أبداً في بلوغ المعرفة الإلهية كما أنها لا تساعد عليه. فالمعرفة الإلهيّة هي نتيجة تطهر القلب واستنارة نوس الإنسان. كتب القديس غريغوريوس بالاماس بفكر واضح وحكمة ملهَمة: “وإن يكن تعريف الفلسفة العالمية لمعرفة الكائنات ليس خطئاً بالكلية، لكنها ليست معفة الكائنات ولا الحكمة التي أعطاها الله للأنبياء والرسل. هذا هو الروح القدس. أن يكون المصريون واليونانيون مشاركين في الروح القدس، هذا ما لم نسمعه إلى اليوم” [ 6 ]. هذا يعني أن استعمال الفلسفة العالمية للبلوغ إلى معرفة الكائنات ليس سيئاً بالكامل. بالواقع، قد يكون صحيحاً مع بعض الشروط المسبقة، لكنه ليس ما أعطى الله بشكل مباشر للأنبياء والرسل من الحكمة والمعرفة.

بالحقيقة، إن الفرق بين القديس غريغوريوس الاماس وبرلعام هو الفرق بين لاهوت الغرب السكولاستيكي ولاهوت الشرق الأرثوذكسي. بين الكثير من النقاط المميِّزة، نستطيع أن نذكر أن اللاهوت السكولاستيكي الغربي الذي عبّر عنه برلعام استعمل طريقة واحدة في مقاربة المخلوقات والله غير المخلوق. هذا يعني أن السكولاستيكيين حاولوا فهم الله بنفس الطريقة التي استعملوها للتحقيق في الخلق والظواهر الطبيعية، أي بالمنطق. الاستنارة بالنعمة الإلهية تساعد، بكل بساطة، المنطقَ البشري على إدراك المفاهيم والأشياء. اللاهوت الأرثوذكسي، كما عبّر عنه كل الآباء القديسون بمن فيهم القديس غريغوريوس بالاماس، يتبنّى النظرة المضادة ويستعمل منهجية مزدوجة في مقاربة الله والخليقة. هذا يعني أنه يستعمل المنطق للتحقيق عن الخليقة وطبيعة الكائنات وتفحّص الظواهر الطبيعية، بينما يصل إلى معرفة الله بالنوس المتطهِّر والمستنير. وهكذا، فإن طريقة الآباء التي اتّبعوها للوصول إلى المعرفة كانت الخبرة.

بإمكاننا أن نحدّد هذا الفرق ونصنفه كما فعل القديس غريغوريوس بالاماس بعبارتي “الجدلية dialectic” و”القياسات البرهانية demonstrative syllogisms”. لقد طوّر هذا القديس النظرة القائلة بأن طريقة برلعام الجدلية، ومعه السكولاستيكيين، تشير إلى البحث عن الإمكانيات وبالإجمال إلى كل ما يتعلّق بالحقيقة المخلوقة. بالمقابل، تشير طريقة الآباء الهدوئيين البرهانية، والتي تحمل العلاقة بين الأشياء والخبرة، إلى رحلة الإنسان نحو التأله (theosis) [ 7 ].

كل هذا يظهِر أنّ التربية بحسب العالم، بما فيه العلم، تعمل على مستوى واحد، بينما معرفة الله، التي هي هدف اللاهوت وغايته، تعمل على مستوى آخر. إن علماً يحاول أن يفهم الله بمنهجيته الخاصة، أي العقل، يساوي بالإفلاس لاهوتاً تخلّى عن الطريقة الهدوئية ويستعمل العقل في كل القضايا بما فيها الله. بوجه خاص، هذه هي حالة اللاهوت حين يعمل ضمن حدود المنطق، أي الاجتهاد الجدلي.

2. اللاهوتي والعالِم في العلاقة مع الله والعالم

كي نتمكن من التعبير بشكل أفضل عن هذا التمييز بين اللاهوت والعلم، أي عن أنهما يعملان على مستويين مختلفين وضمن أطر مختلفة، فلنعطِ الأمر شكلاً شخصياً، أي فلننظر إلى الفرق بين اللاهوتي والعالِم. لقد قدّم الأب يوحنا رومانيدس أربع بيانات لاهوتية مهمّة ودقيقة عن الموضوع.

أولاً: لا يمكن غض النظر عن الفرق بين الله والمخلوقات، بسبب انعدام التشابه بين الطبيعتين المخلوقة وغير المخلوقة. يكتب الأب رومانيدس أن الآباء، الذين تكلموا بحسب خبرتهم، علّموا أنّه “لا يوجد أي تشابه بين الله والمخلوقات، بالرغم من أنّ الله صنع المخلوقات وهي تعتمد عليه. هذا يعني أنّ حقيقة الله وحقيقة طبيعة الكون لا يمكن أن تتشابها، مع أن إحداهما تعتمد على الأخرى”. لهذا السبب المهم، لا يمكن أن نمزج بين اللاهوت والعلم.

ثانياً: لكل من اللاهوتي والعالِم نوع مختلف من المعرفة. “معاين الله يعرف الله، بينما الفيلسوف أو العالِم فيبحث في الأمور المخلوقة”. هذا يعني أن الفيلسوف والعالِم، كونهما يبحثان في العالم من خلال الطريقة العلمية والخيال الفلسفي، لا يستطيعان أن يمتلكا نفس المعرفة عن الله مثل معايني الله، الأنبياء والرسل والقديسين. اللاهوتي، في أي حال، قد يكون صاحب معرفة في الأمور العلمية وهو يصبح عالِماً من خلال المعرفة العلمية وليس من خلال معاينة الله. وعلى المنوال نفسه، بمقدور العالِم أن يبلغ إلى معرفة الله من خلال طريقة المعرفة القويمة (theognosia)، أي التطهر والاستنارة والتألّه، وليس من خلال علمه.

ثالثاً: هدف اللاهوتي وعمله مختلفان عن هدف العالِم وعمله. “معاين الله يعرف كيف يهيء الناس لمعاينة الله. العالِم يعرف كيف يعلّم طريقته العلمية لتلاميذه”. قد يعرف اللاهوتي أيضاً طريقة التحقيق بالظواهر الطبيعية، ولكن ضمن معرفة العلم، كما فعل آباء الكنيسة، كما أن بمقدور العالِم أن يصبح معايناًً لله، لا بالعلم، بل بمعاينة الله.

رابعاً: اللاهوتي ملهَم من الله في ما يختص بالله وليس في ما يختص بالظواهر الطبيعية. “معاين الله ملهَم من الله وهو يتكلّم بثبات عنه ويقود مباشرة إليه، لكنه غير معصوم في أمور تتعلق بالعلوم التطبيقية أو غيرها، التي لا يستطيع أن يعرف عنها أكثر من  معاصريه من العلماء”. إذا كان أحد ما لا يعاين الله بينما هو “لاهوتي” بالمعنى الأكاديمي للكلمة، فبإمكانه “أن يحافظ على هراء علمي، مصدره الفلاسفة، بقدر ما يبتعد عن طريقة معايني الله اللاهوتية الدقيقة”. على المنوال نفسه، العالِم هو اختصاصي وحسن الاطّلاع في الأمور الطبيعية. ولكن عندما يبتعد عن طريقته العلمية المحددة ويخلط بين اكتشافاته عن طبيعة العالم ونظرته إلى الله فإن ما ينطق به هو “أمور غير مسؤولة”.[ 8 ]

أرى أن الحدود واضحة وكل ما سبق ذكره قد أوضح موضوع عمل كل من اللاهوتي والعالِم ومهمته. كلاهما جديران بالثقة عندما يعملان ضمن حدودهما، لكنهما يصبحان سخيفين عندما يبتعدان عنها ويدخل أحدهما مجال الآخر بدون الافتراضات المسبقة الضرورية والقوانين التي يستلزمها كل من الإطارين والمجالين.

بالإجمال، يمكن للاهوتي أن يصبح عالِماً لكن من خلال العلم، ويمكن للعالِم أن يصبح لاهوتياً لكن من خلال اللاهوت. لا يستطيع اللاهوتي أن يلعب دور العالِم بلاهوته ولا العالِم أن يلعب دور اللاهوتي بعلمه.

آباء الكنيسة العظماء كانون لاهوتيين من خلال خبرة الإعلان، وحتى أنهم صاروا علماء من خلال درس العلم البشري وتعلمه بحسب ما يمليه الضمير. لهذا كانوا أصحاء.

3. موقف القديس باسيليوس الكبير من اللاهوت والعلم

بعد كل ما قيل، أرى أنه من المفيد أن نشير مع بعض الاستفاضة إلى موقف القديس باسيليوس الكبير من علوم زمانه. يمكن أن نجد هذا الموقف وكيفية مواجهة القديس لأوجه المعلومات العلمية في زمانه بطريقة لاهوتية في عمله “عظات حول ستة أيام الخليقة” المعروف بـِ “ذي الأيام الستة Hexameron”. بالواقع، في هذا الكتاب يمكننا أن نتحقق مما كانت عليه آراء ذلك الزمان العلمية في العالم وكل ما كان عليه، كما وكيف يمكن للاهوتي أن يستعمل هذه المعرفة. لقد استطاع القديس باسيليوس أن يجمع كل المعرفة العلمية المعاصرة له ليعود من بعدها إلى موضوع علم الكونيات في بعض العظات.

أ) أولاً، يجب أن نشير إلى أن القديس باسيليوس درس كل فروع العلم في زمانه. نعرف، من شهادات القديس غريغوريوس اللاهوتي ومن تقارير سقراط وصوزومن، أنه بلغ أفضل معرفة علمية ممكنة في عصره.

بعد تحصيله تربيته العامة أولاً من أبيه، ومن ثم في قيصرية كبادوكية، تابع ليدرس على يد الفيلسوف الوثني ذي الشأن ليبانيوس، على الأرجح في القسطنطينية. ومع هذا فإن أثينا هي المدينة الرئيسية التي تلقن فيها مبادئ العلوم والفلسفة. نحن نعرف أن أربع مدارس فلسفية عملت في أثينا خلال القرن الرابع، بالإضافة إلى مراكز عديدة لفن الخطابة والبعض للطب. لقد كان هناك الكثير من المدارس، وكل منها كان يديرها معلم جمع حوله عدداً من التلاميذ، لا يزيد عن الدزينتين، وكان البعض منهم يبقى إلى جانب معلمه كمشارك أو مساعد.

في أثينا، تلقّى القديس باسيليوس دروساً من أستاذين هيمريوس وبرياريسيوس. لقد تابع كل علوم زمانه كفن الخطابة الذي كان يُعتَبَر ملك العلوم، الأدب، التاريخ والفلسفة بفروعها الأربعة (الأخلاق، النظريات، المنطق، والجدل)، علم الفلك، الهندسة، الحساب والطب. بالواقع، لقد عرف كلاً من العلوم جيداً فيما يمكن للمرء أن يقضي عمره في درس واحد منها فقط دون أن يحيط به كما أحاط القديس بها جميعاً. كل هذه المعرفة تظهر بوضوح في تعليقه على ستة أيام الخليقة (Hexameron). لقد قضى القديس في أثينا أربع أو خمس سنوات.[ 9 ]

ب) في التعليق على ستة أيام الخليقة، يشير القديس باسيليوس بشكل مستمر إلى آراء الفلاسفة والعلماء حول مواضيع تتعلّق بعلم الكونيات. بشكل طبيعي، إنه لا يسميهم بأسمائهم، لكنهم يتكشّفون عبر الآراء التي يقدمها. مثلاً، في تحليل جملة “في البدء خلق الله السماوات الأرض”، يشير إلى آراء طاليس، أناكسيمندر، أناكسيمينس، فيثاغوروس، امبادوكليس، كسينوفون، هيراكليتس، لافسيبس، ديموكريتوس وأرسطو. [ 10 ]

يكتب القديس بين جملة أمور: “حكماء الإغريق تكبدوا مشقات لتفسير الطبيعة، ولم يبقَ أي من تفاسيرهم ثابتاً أو غير متزعزع،  إذ انقلب على كل منهم خلفاؤه. ليست مهمتنا دحضهم، فهم قادرون على الإطاحة أحدهم بالآخر على نحو ملائم”[ 11 ]. آخرون رأوا أن علّة مفكرة ترأست لنشوء كل الأشياء (أناكساغوراس الكلازوماني). غيرهم آمن بأن أساس العالم هو عناصر مادية (أناكسيمندر، أناكسيمينس، فيثاغوروس، امبادوكليس ، هيراكليتس)، فيما آمن آخرون بأن الطبيعة المنظورة كانت مركبة من “ذرّات وأجسام لا تتجزأ وجزئيات وأنابيب” وبأن العلاقة بين هذه تساهم نحو الولادة والفناء، وأيضاً تساهم في مساندة العالم (لافسيبس وديموكريتوس) [ 12 ]

إن إشارة القديس باسيليوس إلى آراء الفلاسفة في خلق العالم والمحافظة عليه هي أمر ذو دلالة، خاصةً أنه يقوّم هذه الآراء بشكل خلاّق كلاهوتي وكعالِم. فهو يقبلها حيناً، ويعلّق عليها حيناً آخر بطريقة لاهوتية، فيما يعطي تفسيره المختلف بعض الأحيان. وهكذا، فإن عمل القديس باسيليوس ليس مجرد عرض لآراء العلماء بل هو مساهمة مبدعة. بالطبع، هذا نتيجة لمعرة القديس باسيليوس الكبير لمختلف آراء زمانه معرفة جيدة، كونه قضى زمناً طويلاً في الدراسة، ولكن أيضاً لأن عنده خبرة من الوحي.

سوف أذكر مثلين مميزين:

المثل الأول هو المجازية، أي الطريقة التي بها فسّر البعض التوراة، مثل فيلون اليهودي. يكتب القديس باسيليوس: “أعرف قوانين المجازية، بالرغم من أنه ليس من بحثي الخاص، بل بالأحرى من أعمال الآخرين”. إنه يعني فيلون وغيره من الذين، كما يشرح لاحقاً، لم يقبلوا المعنى العادي للنص، بل قالوا بأن الماء ليس ماءً إنما هو طبيعة أخرى، وبأن النبات والسمك يفسَّران بحسب نظرياتهم ومفاهيمهم الخاصة. وقد طبّقوا الشيء نفسه مع الزواحف والحيوانات المفترسة. في أي حال، لا يحذو القديس باسيليوس حذوهم في هذه الأوهام. فهو يكتب: “عندما أسمع كلمة عشب، أفكر بالعشب، والشيء نفسه مع النبات والسمك والحيوانات المفترسة أو الأليفة. أنا أقبلها جميعاً كما يُحكى عنها”. أيضاً، استناداً إلى الحقيقة المُوحى بها، يناقش أن “بالرغم من أن الكثيرين حفظوا القدر الكثير عن الأرض، سواء أكانت كرة سماوية أو اسطوانة، وسواء شابهت القرص أم كانت مستديرة الأطراف، وسواء كانت على شكل شبكة قضبان أو مجوفة في الوسط”[ 13 ]، كل هذا “لن يدفعني إلى اعتبار قصتنا عن الخليقة أقل شراً، أن موسى خادم الرب لم يتحدّث عن أشكال أبداً”[ 14 ].

المثل الثاني هو من تفسير الآية “لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها. بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها” (تكوين 24:1 ). لقد دافع بعض معاصري القديس باسيليوس أن خلال فصل المطر تنتج الأرض جنادب وأعداداً لا تُحصى من الحشرات الطائرة بالإضافة إلى الفئران والضفادع. لقد كان القديس باسيليوس مهيئاً لقبول هذه النظرية، أي أن كل هذه تأتي من الأرض، لكنه أعطاها تفسيراً لاهوتياً لدعم رأيه بأن كل هذه هي نتيجة قوة الله الموجودة في الخليقة وليس الصفات الطبيعية للخليقة. “هذا الأمر استمر ولا تكف الأرض عن خدمة خالقها”[ 16 ]. وهكذا، قوة الله غير المخلوقة الموجودة في الخليقة التي تخلق الحيوانات والحشرات وتنتجهم بشكل مستمر. هنا نرى بوضوح المقاربة اللاهوتية المبدِعة لإيمان ذاك الزمان.

لكن القديس باسيليوس لا يفسّر آراء زمانه العلمية فقط بحسب الافتراضات اللاهوتية بل يقوم بما هو على نفس الدرجة من الأهمية. إنه يفسر آيات الكتاب المقدس أي خبرة الإعلان بواسطة آراء العلم. [ 17 ]في تفسيره جملة “الله صنع السماوات” يورد ملاحظات واسعة محاولاً تقديم التفسير الصحيح. بعد أن يذكر عدداً من آيات الكتاب المقدس، يختم بالقول بأن عبارة “السماوات” التي بها “فصل الله المياه التي كانت تحت السماء عن المياه التي كانت فوقها” يعني مادة ثابتة قادرة على احتجاز المياه السائلة. كما أنه يقدّم تعليقات أخرى لا نقدر على إيرادها هنا.

ج) علينا في أي حال أن ننظر إلى المقاربة اللاهوتية لخلق العالم. ليس القديس باسيليوس عالِماً نظرياً علمانياً بل هو لاهوتي عظيم. لهذا، لم يكتفِ بمجرد عرض آراء العلماء، لكن غالباً ما تكلّم لاهوتياً كما يظهر من أعماله. إنه يعرض الافتراضات اللاهوتية الضرورية. فعلم الكونيات المسيحي شيء متميز عن كل أنواع الكونيات الأخرى.

أول مبدأ لاهوتي هو أن هناك فرق بين الخالق والخليقة وبين الله غير المخلوق والطبيعة المخلوقة. في تفسيره جملة “في البدء خلق الله السماوات والأرض”، يقدّم بعض الملاحظات الممتازة.

للخليقة أصل محدّد أي أنها خُلقت في وقت محدّد وبالواقع كانت نتيجة مبدأ خالق أي الله. إنه يحكي عن “مبدأ للنظام الحسن للأشياء المنظورة”[ 18 ]. إلى هذا فالعالم “لم يُخلَق عفوياً”[ 19 ]. لهذا هو يحكي عن أصل محدد “كي لا يفتكر البعض أنه بدون بداية”[ 20 ]. الرأي بأن الخليقة لها مصدر محدّد يقودنا إلى الاستنتاج بأن للأشياء المنظورة سبب. “لا تتخيّل أيها الإنسان أن المنظور بلا بداية”[ 21 ]. فضلاً عن ذلك، هذا يدل على أن للخليقة نهاية محددة. “إذا كان هناك بداية زمنية، لا تشكّْ بالنهاية”[ 22 ].

إن النظرة القائلة بأن للعالم أصل تقودنا إلى السعي وراء هذا الأصل. إن أصل العالم المبدِع هو الله غير المبتدئ. “إذا كان لهذا العالم بداية وإذا كان مخلوقاً، اسأل عمَن أعطاه هذه البداية ومَن كان الخالق”[ 23 ]. بالواقع، الله خالق العالم هو “طبيعة سعيدة، صلاح لا ينتهي، محبوب كل الموهوبين عقلاً، الجمال الأكثر اشتهاء، أصل الكائنات، نبع الحياة، النور العقلي، الحكمة التي تبلَغ… [ 24 ]. في أي حال، ينبغي بالرجل الذي يعرف الله أن ينقي جسده من اهواء.

لهذا السبب نرى أن القديس باسيليوس يميّز بوضوح بين غير المخلوق والمخلوق، بين غير المبتدئ والذي له بداية، بين الله والعالم. هذا مهم جداً حتى لا يكون هناك أي تشوش بين الخالق والخليقة.

المبدأ اللاهوتي الثاني هو أن العالم خُلق من العدم، أي ليس من مادة كانت موجودة. معنى أن الله خلق العالم من العدم يعني أنه لم يخلقه من أفكار سابقة ولا من مواد موجودة. هذا الموقف يهز كل المبادئ الوثنية المتعلقة بعلم الكونيات، أي أنه يهز أساس الماورائيات الكلاسيكية.

يقول القديس باسيليوس أن كل المهارات والفنون هي لاحقة للمادة، وقد دخلت الحياة بسبب حاجتنا. في أي حال، الله، قبل صنع الأشياء المنظورة “إذ كان في فكره (نوسه) قراره بتكوين ما لم يُوجد، تصوّر العالم كما ينبغي به أن يكون”. لهذا الهدف خلق المادة، النار والماء والهواء وجمع هذه الأشياء غير المتشابهة في رباط لا ينحل من الإلفة في شركة واحدة وتناغم”. القديس باسيليوس مخلص لهذه النقطة في كلماته الأخرى. “كل ما أوتي به من العدم إلى الوجود بأمر الرب.

المبدأ اللاهوتي الثالث هو أن الله يدبّر العالم بقواه غير المخلوقة. بتعبير آخر، لم يكتفِ الله بوضع بعض القوانين الطبيعية ليترك العالم من بعدها لمصيره، بل هو يدبّره بنفسه. هذا مهم لأنه يظهر أن قوى الله موجودة في كل الخليقة، ولكن بالطبع، لا تستطيع الخليقة أن تشارك في جوهر الله.

يظهر تدخل المبدع لله عِبر قواه من الطريقة التي يقدّم فيها موسى معاين الله خلق العالم كما من الطريقة التي يفسره فيها القديس باسيليوس. في تفسير آية “وكان روح الله على المياه”، يقول أن الله وكلمته أدفآ طبيعة المياه ونشّطاها، كما يفقّص الطير بيوضه. في تفسير الآية من المزمور “أنا وزنت أعمدتها” (3:75 أو 4:74) يقول أن هذا يعنى قوة تماسك الأرض أي القوة التي تجعل الأرض متماسكة وبالطبع يعني أن كل شيء محفوظ بقوة الخالق.

ليس كل شيء مخلوقاً بقوة الله غير المخلوقة وحسب بل أيضاً كل شيء مضبوط بقوته. صوت الله القائل عند الخلق: “لتخرج الأرض عشباً” يظهر أن هذا الأمر يصبح قانون الطبيعة “الذي ترك للأرض قدرة أن نكون منتجة ومثمرة من بعدها”. يعطي القديس باسيليوس هذه الأهمية الكبرى للتعليم بأن قوة الله موجودة في الخليقة، وبأنه يؤمن بأن وصية الله تملأ كل شيء وتصل حتى إلى أدق التفاصيل، إذ حتى “السمكة لا تدحض قانون الله.

في تفسيره للآية: “لتخرج الأرض  من كل حي كنوعه”، يعترض على المانيخيين الذين آمنوا بأن النفس موجودة في كل مكان من الأرض وعلّم أنّ هذه النفس الحية كانت الكلمة الإلهية التي تشكّل طبيعة المصنوعات

المبدأ اللاهوتي الرابع الذي وضعه القديس باسيليوس هو أن دراسة العالم والخليقة ليست ذاتية الخدمة. إذ في أي حال، الله خلق العالم وهو يحفظه بقوته غير المخلوقة، لذا من الضروري للإنسان أن يرفع عقله من المرئي إلى غير المرئي، من الخليقة إلى الخليقة. في إحدى عظاته يقول بأن الله أعطانا العقل حتى “من أصغر أشياء الخليقة نتعلّم حكمة الحِرَفي”. الاستنارة تُطلَب من الله، حتى مما نرى نفهم غير المرئي، ومن عظمة جمال الخليقة نصل إلى إدراك مناسب لله. وهكذا، من خلال الخليقة نستطيع أن نكسب حساً بجلال الله. إذا أُلّهت الخليقة، أي إذا ذهب فكرنا إلى أبعد من الإعجاب بالأمور المخلوقة، فهذا ما يشكّل جعل الخليقة الله، ما يعني الوثنية.

المبدأ اللاهوتي الخامس. عندما يدرس القديس باسيليوس الظواهر التي تحدث في الطبيعة، حتى سلوك أنواع الحيوانات المختلفة، الطيور والحشرات، يوجّه أفكاره إلى التعاليم الروحية التي تهدف إلى منفعة الإنسان روحياً. مثلاً، في النظر إلى حالتي القنفذ والنملة اللذين يتحمّلان للقيام بمهمات مختلفة سوف يكون مفيداً في الأوقات الصعبة، يقول أن هذا يعلّم الإنسان أن يحتاط للمستقبل. “حتى أننا أيضاً ينبغي أن لا نتعلّق بهذه الحياة الحاضرة، بل ننتبه للزمن الآتي”. لهذا، في الحياة في هذا الزمن، نهيئ للجائزة الأبدية. بهذا التعليم يصبح ظاهراً أن القديسين لا يحصِرون حياتهم في التاريخ، لكنهم أيضاً يمدونها إلى الآخرة، أو ابتغاءً للدقة، يجب أن نقول أنهم يتركون الآخرة تنظم التاريخ.

بالإجمال، يجب أن نشير إلى أن القديس باسيليوس يفسّر خلق العالم بشكل رئيسي على أساس التعليم الملهَم لموسى وتقليده الخاص بالتفسير، الذي هو ثمرة خبرته. في أي حال، إنه يستعمل أيضاً أمثالاً من الفلاسفة الوثنيين كما صاغوها معطياً إياها حيناً تفسيراً أوسع ورافضاً إياها حيناً آخر. هذا لا يحدث على نحو اعتباطي لكن على أساس المبادئ اللاهوتية التي أوجزناها أعلاه والتي تشير إلى علم وجود الطبيعة، أي إلى الواحد خالق الطبيعة، وإلى كيف خلق العالم ويصونه. إنه يستعمل هذه المبادئ اللاهوتية الأساسية في هذه الأمور بدون خطأ. إلى هذا، إنه يقبل كل ما له علاقة بالأمور العلمية طالما أنه لا يتعارض مع هذه المبادئ. كما رأينا أعلاه، إنه مستعد لقبول بعض آراء زمانه، التي بحسبها تنتج الأرض ضفادع وزيزان. في أي حال، إنه يعطي هذه الآراء تفسيراً لاهوتياً في قوله أنها ليست ناتجة عن الأرض وكأنها تعمل تلقائياً من نفسها، بل هي ناتجة عن قوة الله التي في الأرض منذ الخلق. هذا الترتيب عند القديس باسيليوس يشير إلى الطريقة التي ينبغي اتباعها اليوم فيما يتعلّق بالأمور العلمية.

4. مثال معاصر من حقل علم الوراثة

إن طريقة عمل اللاهوت الأرثوذكسي وحكمه على العلم وإيصال صوته، ممكن أن تُرى من تفحص موضوع الاستنساخ. أريد أن أورد قصة قصيرة لأظهر كيف يعمل كل من العالِم واللاهوتي في هذه الحالة.

معروف جداً أننا في كلامنا عن الاستنساخ، نشير بالواقع إلى نقل المادة الوراثية (الحمض النووي) من خلية إلى مبيض سبق وأزيلت مادته الوراثية. تُزرع هذه المادة الجديدة في كائن حي ثالث. إنه اكتشاف حديث للبحث العلمي الذي بدأ مع حيوانات غير عاقلة هو عتيد أن يستمر مع الحيوانات العاقلة التي لها نفوس، أي الكائنات البشرية. إنه اكتشاف أرعب كثيرين من اللاهوتيين، كما جعل العلماء متغطرسين ممتلئين بالعُجب بالمعنى الأصلي اليوناني للكلمة.

تختلف ردة الفعل على هذه الطريقة الجديدة لإنتاج الكائنات الحية، خاصة البشرية منها. قد يؤول اللاهوتي أخلاقياً فيما قد يتأمّل الملحد في أمور لاهوتية. أنا مع الرأي القائل بأن هذه مناسبة للاهوتيين لتجنب التأويل الأخلاقي ولمواجهة هذه الحالات لاهوتياً كما فعل آباء الكنيسة القديسون.

على سبيل المثال، بإمكاني أن أذكر أنني قرأت نصوصاً كتبها “لاهوتيون”، في مواجهتهم للعلم المعاصر في موضوع علم الوراثة وخاصةً الاستنساخ، يحصرون المناقشة فقط في موضوع القوانين المعيارية التي يجب وضعها لمقاربة اللاهوتيين لهذه القضية الخطيرة. بالطبع ليس من شك بأن على اللاهوتيين أن يفعلوا ذلك. عليهم أن يخطِروا العلماء بمسؤولياتهم. لكن هذا ممكن أن يكون على يد العلماء الذين لا يأتون بالضرورة من “ميدان” الكنيسة ومع هذا يتكلمون عن القوانين “الأخلاقية-المعيارية” التي ينبغي وضعها ضمن البحث حتى لا ننتهي بمولد مسوخ وبالواقع ذوي عقليات فاشيّة وعرقيّة.

إلى هذا، كما أنّ هناك لاهوتيين وإكليريكيين يؤوّلون أخلاقياً، هناك أيضاً مفكرون يناقشون لاهوتياً. أحد هذه الأمثلة هو الفيلسوف الإيطالي الشهير أمبرتو آكو، حيث يظهر في أحد مقالاته في جريدة L’ Espresso الإيطالية بعنوان “عالِم مجنون قرّر استنساخي”. سوف أورد بعض آراء هذا الفيلسوف المعاصر، كونها تعبّر وتظهر إمكانية التأويل اللاهوتي والفلسفة في هذا الموضوع.

يكتب آكو: “ليس الكائن البشري مجرد مورثات، بل هو أعظم بكثير. تلعب التنشئة والتربية والجو الاجتماعي والثقافي دوراً كبيراً”. ويكتب بالإشارة إلى الفرضية بأن أحد العلماء المجانين قرّر أن يخلق مثيله: “سوف يكون له شعري، عينيّ، نفس ميولي نحو المرض، لكن أمبرتو الثاني سوف ينشأ في مزرعة من الوسط الغربي. أنا، من جهة أخرى، نشأت في عائلة متوسطة، في مدينة إيطالية ريفية في الثلاثينات والأربعينيات. لقد كان لي تنشئة كاثوليكية في إيطاليا الفاشية، ورأيت التلفزيون لأول مرة في عمر العشرين. كيف سوف يبدو أمبرتو الثاني عندما يصبح في عمري؟ بالتأكيد شيئاً مختلفاً عني”. بعد التشديد على أن الاستنساخ يعني تحوّلاً في العلم والأخلاق، يشير إلى أنه على الجنس البشري أن يقاوم “المحاولات المجتهدة للخيال العلمي الجامح التي تحكمها حتمية مادية ساذجة، بحسبها  قَدَر الإنسان يحدده بشكل مطلق إرثه الجيني… كما لو أن التنشئة والجو واحتمالات المحن وتربيت الأهل وصفعاتهم لا علاقة  لها أبداً”.

يجد المرء في هذه الآراء محاولة للهرب من قوانين السلوك الأخلاقية والواجبات، التي حبس بعض اللاهوتيين أنفسهم فيها في محاولتهم لقول شيء ما عن الإنجاز العلمي الجديد.

كمتابعة للموضوع، أريد أن أقدّم سبع مواقف لاهوتية حول موضوع الاستنساخ البشري.

1. الإنسان، بحسب التعليم الأرثوذكسي، هو كائن ذو نفس وجسد، وبالطبع، مكوَّن على صورة الله ومثاله. إنه مختلف بشكل واضح عن الحيوانات، لأنه ذو نفس بحسب الجوهر وبحسب القوة. هذا يعني أنه لا يمكن اعتبار الكائن البشري، بأي شكل من الأشكال، “فأر مختبر” ولا مصنعاً متنفساً للأعضاء الحية الجاهزة للنقل بهدف الربح التجاري. إذ في هذه الحالات، تتحوّل ذروة الخلق وخلاصة العالم العقلي والحسي إلى ملحق (accessory) حيّ وظهور للنظرية القائلة بأن الإنسان هو “أداة ذات نفس”.

2. الإنسان مخلوق، وبالتالي، يحدَّد كمخلوق فيما الله غير مخلوق. هناك فرق شاسع بين المخلوق وغير المخلوق. هذا يعني أن الله يخلق من العدم، من المادة غير الموجودة سابقاً، فيما يستطيع الإنسان أن يكوّن شيئاً ما من المادة الموجودة التي خلقها الله. وهكذا، حتى لو كان هناك علماء سوف يستنسخون البشر مع ما يترتب عليه من النتائج المرعبة، لا يمكن تشبيههم بالله، لأنهم بالحقيقة يعملون على مادة جينية موجودة أصلاً، ولن يخلقوا شيئاً من العدم.

3. بحسب تعليم آباء الكنيسة القديسين، يمكن إيجاد قوة الله المحيية في كل الخليقة، كما يمكننا أن نضيف أنها في الخلايا وفي الحمض النووي. يمكن إيجاد ثروة من المعلومات المتعلقة بهذه الحقيقة في عظات القديس باسيليوس حول أيام الخليقة كما في أعمال القديس غريغوريوس النيصّي. إذاً، مهما يحدث في الخليقة، حتى عندما يتدخّل الإنسان بطريقة متغطرسة، فهذا يحدث بمشيئة الله وبحق ممنوح منها.

4. نتكلّم في الكنيسة الأرثوذكسية عن الإنسان كشخص. هذا يعني أنه فريد وحرّ ومحبّ. تشير كلمة “شخص” إلى الكينونة على صورة الله ومثاله، وبالطبع، هذا يمتد إلى الكائن كاملاً. بالاستنساخ، قد يكون ممكناً تشكيل أشخاص متشابهين خارجياً ولهم نفس أنواع ردة الفعل على نقاط محددة، ما يمكن رؤيته في التوائم. مع هذا لسنا قادرين على إلغاء الشخص، أي الاختلاف الأقنومي لكل كائن بشري، بأسلوبه بالمحبة والحرية. لكل كائن بشري علامة أقنومية (شخصية) مميِّزة، تنوّع من درجات المحبة، وحتى من بذل الذات، كما من القدرة على التعبير بحرية إيجابياً أو سلبياً.

5. علم الجينيات، وبالطبع الاستنساخ البشري، لا يستطيع تحرير الإنسان من الموت المولود معه. قد يستطيع العلم أن يشفي بعض الأمراض الوراثية وقد يطيل الحياة، لكنه لا يستطيع أن يجعل الإنسان يتخطى الموت. مشكلة الإنسان الرئيسية، على أي حال، ليست إطالة الحياة الجسدية، ولا هي تأخير الموت، بل هي تخطيه. هذا هو عمل اللاهوت الأرثوذكسي.

6. هذه التحديات المعاصرة تعطينا الفرصة لنحدّد على نحو دقيق ماهية الحياة والموت. في الواقع، هذه المسألة الوجودية تهزّ الإنسان بشكل عظيم. فمهما كثرت التشابهات، الجسدية أو النفسية أو غيرها، ومهما كثرت عمليات نقل الأعضاء، فالإنسان سوف يحسّ دائماً بالحاجة التي لا تُقهَر للإجابة على هذه الأسئلة. لا يستطيع العلماء أن يعطوا أجوبة دقيقة. وحتى لو حاولوا، فأجوبتهم سوف تكون ناقصة. يسأل الإنسان “لماذا خُلِقتُ؟ لماذا ولدوني بدون أن يسألوني؟” هذا السؤال سوف يصبح أكبر عندما يعلم أنه وُلد بالاستنساخ ومن دون اهتمام ومحبة الأم والأب. إلى هذا، فالإنسان مهتم بالسؤال عن هدف وجوده. السؤال الأعظم موجود ضمن إطار الموت. كثيرون من الشباب يسألون “لمَ وُجد الموت؟ لماذا يموت أحبائي؟ أين يذهبون بعد الموت؟ لماذا ينبغي أن نأتي إلى الحياة وبعد فترة وجيزة نختفي، إن لم يكن هناك حياة بعد الموت؟ وإذا كانت الحياة موجودة بعد الموت، إذاً لمَ علي أن أموت وإلى أين أذهب؟” يجيب اللاهوت الأرثوذكسي عن هذه الأسئلة فيما يعجز العلم عن ذلك.

7. حتى ولو استُنسخ الكائن البشري، فهو يبقى مخلوقاً، وقد مُنح له أصل محدد وقابلية الفساد والحرية، وسوف لن يعمل بالضرورة إيجابياً كما يحدث مع الطبيعة غير المخلوقة، لا بل سوف يعمل سلبياً وسوف يكون له نهاية بيولوجية. فهو كمخلوق، له آخرة لكن هذا لا يحصل لأن الله يريد له أن يكون خالداً بالنعمة. في الكنيسة، نتكلّم عن شكل آخر للاستنساخ لا يستطيع العلم أن يؤمّنه للإنسان. بتجسد المسيح، اتحد المخلوق مع غير المخلوق. وهكذا، أٌعطي كل كائن بشري إمكانية اكتساب خبرة الاتحاد بالنعمة بين الطبيعة المخلوقة وقوة الله غير المخلوقة بيسوع المسيح. لقد اكتسب القديسون هذه الخبرة، وبهذا أصبحوا غير مخلوقين وخالدين بالنعمة. لقد زُرع (transplanted) غير المخلوق وغير المائت فيهم، واكتسبوا خبرة الحياة الخالدة حتى في هذه الحياة على الأرض. فالمشكلة إذاً ليست زرع الأعضاء الجسدي أو الجيني، بل استزراع (transplantation) الله داخل أقنومنا أو شخصنا. إن هذه الخبرة هي التي تعطي معنى لحياة الإنسان. إذاً، العلم المعاصر، وبالواقع علم الجينيات، يعطينا الفرصة للاهتمام بالأسئلة الأبدية التي شغلت الروح البشرية، منذ الفلسفة اليونانية القديمة إلى اليوم. لقد أُجيب على هذه الأسئلة بتجسد المسيح. علينا أن نعالج المسائل الأنثربولوجية باللاهوت والتدبير الإلهي والفداء والأخروية. إنها مناسبة لنا لنوجّه بحث الإنسان نحو أمور الحياة الأكثر عمقاً والأكثر سمواً.

موضوع لقاء اللاهوت الأرثوذكسي مع العلم واسع جداً ولا يمكن الإجابة عليه في الوقت المحدد لمحاضرة واحدة. تبقى الحقيقة أن علينا أن نضع على نحو محدد الحدود بين العلم واللاهوت الأرثوذكسي. على العلماء ألاّ يقاربوا المواضيع اللاهوتية والوجودية بالمنهجية العلمية، لأنهم يجلبون خيبة أمل مروعة للإنسان الذي يبحث عن شيء مختلف. كما لا ينبغي باللاهوتيين أن يقاربوا الحقيقة العلمية تاركين وراءهم أمور الحياة الروحية الأكثر كرامة. من المستحيل أن تُعلمَن (be secularized) الرسالة اللاهوتية الوجودية، وأن تحمَل إلى المجتمع. يجيب العلم على سؤال ماهية العالم الذي نرى، فيما يجيب اللاهوت على السؤال حول مَن يكون خالق العالم. يبحث العلم بموضوع سلوك الأشياء المخلوقة وعملها.

يرى اللاهوت قوة الله التي تضبط العالم. يحاول العلم أن يشفي المرض الذي يعذب الإنسان بينما يساعد اللاهوت الإنسانَ على تخطي مخلوقيته وقابليته للموت. يجيب العلم عن السؤال حول كيفية تكوين الأمور المخلوقة وخلقها بينما يجيب اللاهوت عن السؤال المتعلّق بهدف الخليقة والغرض منها. في أي حال، نحن نتطلع في الكنيسة الأرثوذكسية إلى “سماء جديدة وأرض جديدة” (2بطرس 13:3). فليشغل العلم نفسه بالأرض الشيخة والسماء المسنّة. نحن، كلاهوتيين وإكليريكيين، نتشوّّق إلى “الرجاء المبارَك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح” (تيطس 13:2).

 

[ 1 ] BBC News – Wednesday January 7th, 1998 -reported in Greek in the «Eleutherotypia» Newspaper January 8th, 1998.

[ 2 ] See the Greek Magazine Diabasi (=Passage), Nov.-Dec. 1997, pp. 5-7.

[ 3 ] Translated from the original Greek text published in Gregory Palamas: Works Vol. 2, in the series Ellenes Pateres tes Ekklesias, Thessaloniki 1987, p. 268.

[ 4 ] ibid. p. 270.

[ 5 ] ibid. p. 272.

[ 6 ] ibid.

[ 7 ] See Nikos Matsoukas: «The double methodology of Gregory Palamas,» in Greek, in the volume Papers of the Theological Conference in honor and memory of our Father among the Saints Gregory Palamas, Archbishop of Thessaloniki, published by the Sacred Metropolis of Thessaloniki 1986, pp. 75 onwards. [ in Greek]

[ 8 ] John Romanides: Romiosyni, Published by Poumaras, Thessaloniki 1975, pp. [ in Greek ]

[ 9 ] See Panagiotis Christou, O Megas Basileios, Patriarchal Institute for Patristic Studies, Thessaloniki 1978, pp. 22-23.

[ 10 ] Translated from the original Greek text of Basil the Great, Homilies on the Hexameron, published in the series Ellenes Pateres tes Ekklesias, Vol. 4, p. 28, footnote 1.

[ 11 ] Ibid.

[ 12 ] Ibid.

[ 13 ] Ibid. pp. 338-340.

[ 14 ] Ibid. p. 240.

[ 15 ] Ibid.

[ 16 ] Ibid. p. 344.

[ 17 ] Ibid. pp. 112 ff.

[ 18 ] Ibid. p. 24.

[ 19 ] Ibid.

[ 20 ] Ibid. p. 30.

[ 21 ] Ibid. p. 32.

[ 22 ] Ibid. p. 34.

[ 23 ] Ibid. p. 30.

[ 24 ] Ibid. p. 32

Leave a comment