المجامع كعيادات لطبّ النفس

المجامع كعيادات لطبّ النفس

الأب يوحنا رومانيدس

نقلها إلى العربية الأب أفرام كرياكوس

علينا أن نكون أصحاب رؤية واضحة للإطار الذي رأت فيه الكنيسة والدولة مساهمةَ “الأنبياء” في معالجة مرض الشخصية البشرية وكمالها في سبيل فهم رسالة المجامعSynods ، وفهم السبب الذي دعا الإمبراطورية الرومانية إلى ضمّ هذه المجامع إلى قوانينها وإدراجها في قوانين الدولة. لا الكنيسة ولا الدولة اختصرت رسالة الكنيسة على الخلاص بمجرّد غفران الخطايا من أجل الدخول إلى السماء بعد الموت. هذا وكأنه يعني أن الأطباء يغفرون ضعفَ مرضاهم من أجل شفائهم بعد الموت. الكنيسة والدولة معاً كانتا تعلمان جيّداً أن غفران الخطايا كان بدايةَ الشفاء من مرض الإنسانية في السعي إلى السعادة.

عملية الشفاء لا بدّ أن تعبر مرحلة التطّهر (تطّهر القلب) (purification) ومرحلة استنارة القلب (illumination) وتنتهي بحالة التمجّد (glorification). هذا يحدو بنا ليس فقط إلى التهيئة للحياة بعد الموت بل وأيضاً إلى تحوّل المجتمع هنا والآن من الأنانية والفردية المركزّة على الأنا المحبّة اللاأنانية التي لا تطلب شيئاً لذاتها.

أ – السماء والجحيم

سوف يرى كلُّ واحد مجد الله في المسيح وسوف يصل إلى درجة الكمال التي اختارها وعمل من أجلها. تبعاً للقدّيس بولس ولإنجيل يوحنا، يقول الآباء أن الذين لم يروا المسيح القائم في المجد في هذه الحياة إما في مرآة جزئياً عن طريق الصلاة المستمرة في القلب، وإما وجهاً لوجه في حالة المجد، سوف يرون وجهه كنارٍ أبدية محرقة وظلمة خارجية في الحياة التالية. إن مجدَ المسيح غيرَ المخلوق الذي عنده بالطبيعة من الآب، هو السماء للذين شفوا المحبة الأنانية وإستبدلوها بالمحبة اللاأنانية وهو في الوقت نفسه الجحيم للذين رفضوا مثل هذا العلاج واختاروا البقاءَ بلا شفاء في تعلّقهم بذاتهم (هكذا يتحدّث القديس افرام السرياني مرات عديدة عن المحبة اللاأنانية – الشفاء).

الوضوح في هذا الموضوع ليس فقط في الكتابُ وعند الآباء، بل وأيضاً في الأيقونات الأرثوذكسية حول الدينونة: النورَ الذهبي نفسه، الذي هو نور المجد، الذي يُحيط بالمسيح وبأصدقائه يُصبح أحمرَ عندما ينزل الحكم بالمحكوم عليهم.

هذا هو مجد المسيح أو حبّه الذي يطّهر خطايا الجميع لكنه لا يمجّد الجميع. الناس كلّهم سوف يُقادون عن طريق الروح القدس إلى الحقيقة كلها التي تتمّ في رؤية المسيح في المجد، لكن لن يُمجّدوا كلّهم. “الذين برّرهم فهؤلاء مجدهم أيضاً” (رو8: 30). إن مثل لعازر في حضن إبراهيم والغني في مكان الشقاء واضح: الغني يرى ولكنه لا يشترك (لوقا 16: 19-31)

إن الكنيسة لا ترسل أحداً إلى السماء أو إلى الجحيم لكنها تُهيء المؤمن لرؤية المسيح في المجد، الذي سوف يراه كلّ واحد. الله يحبّ المحكوم عليهم كما يحب قدّيسيه. يريد الكلّ أن يخلصوا (أن يشفوا) لكن ليس الكل يرضى بعلاجه. هذا يعني أن غفران الخطايا (المعمودية والمناولة… الأسرار كلّها) غيرُ كافية لرؤية المسيح في المجد.

التقليد المعروف عند أنسلم Anselm والقائل بأن المخلّصين هم الذين تصالح الله معهم بالمسيح، تقليد لا تؤيّده الكنيسة الأرثوذكسية ولا توافق عليه، ولا تشاطره. عندما يفسّر القدّيس يوحنا الذهبي الفم المقطع 2كور5: 19 (“إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غيرَ حاسب لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمةَ المصالحة”) يوضح أن الرسولَ قال: صالحوا أنفسكم مع الله (تصالحوا مع الله) ولم يقل صالحَ المسيحُ الله مع العالم (أي بالمسيح تصالح الله مع العالم) “لأن الله لا يحقد بل نحن، الله لا يحقد أبداً”.

في هذا الإطار فهمت الدولة رسالةَ الكنيسة الطبيّة داخل المجتمع. إذ لولاها لكانت كلّ الديانات التي تعد بالسعادة بعد الموت غير مختلفة عن بعضها البعض.

ب – نافذة بولس الرسول على الكنيسة

التفسير التالي مبني على التقليد الآبائي.

تشكل الإصحاحات كورنثوس الأولى 12 إلى 15 النافذة الوحيدة التي يمكن من خلالها أن يتطلّع الواحد إلى حقيقة الكنيسة كجسد المسيح. العضوية في الكنيسة لها درجاتها من أجل المعالجة ومن أجل الكمال ضمن فئتين: المستنيرين والممجَّدين. أمّا أعضاء الكنيسة فهم مذكورون في 1كور12: 28 “فوضع الله أناساً في الكنيسة أوّلاً رسلاً ثانياً أنبياء ثالثاً معلّمين ثم قوات وبعد ذلك مواهب شفاء أعواناً تدابير وأنواع ألسنة”.

يبدأ الواحد بأن يكون مؤمناً فرداً خاصاً، يقول “آمين” في الخدمة المشتركة المسموعة. في هذه المرحلة يلتزم بتطهير قلبه تحت إرشاد أولئك الذين صاروا هياكلَ للروح القدس وأعضاء في جسد المسيح.

بعد درجة التطّهر، تبدأ مرحلة الإستنارة بإنشاء موهبة (charisma) بدءً من “أنواع الألسنة” التي تأتي في آخر اللائحة في الدرجة الثامنة إلى أن يصل الواحد إلى درجة “المعلّمين” في الدرجة الثالثة.

على رأس الكنيسة المحلية هناك “الأنبياء” الذين يأتون في الدرجة الثانية وهم الذين اقتبلوا إعلان “الرسل” نفسه (أفسس 5:3) في الدرجة الأولى. يشكّل الرسل والأنبياء أساسَ الكنيسة بطريقة مشابهة للأطباء في تأسيس المستشفيات.

“أنواع الألسنة” هي الأساس الذي تبنى عليه المواهب كلّها. وهي تعلّق وقتياً خلال فترة التمجّد 1كور 13:8 (“المحبة لا تسقط أبداً. وأما النبؤات فستُبطل والألسنة فستنتهي والعلم فسيُبطل”). يرتّب بولس نفسه كرسول على رأس لائحة أعضاء الكنيسة الذين وضعهم الله. وهو يتمتع أيضاً بموهبة “أنواع الألسنة”.

يقول الرسول بولس “أشكر إلهي بأني أتكلم بألسنة أكثر من جميعكم” (1كور18:14). هذا يعني أن أنواع الألسنة تنتمي إلى درجات المواهب كلّها ضمن جسد المسيح. سؤال بولس الرسول “هل يتكلّم الكل بألسنة؟” هو إشارة إلى الأفراد العاديين الذين لا يتمتعون بعد بموهبة الألسنة والذين لم يصبحوا بعد أعضاء في جسد المسيح وهياكل للروح القدس. يعلّق القديس سمعان اللاهوتي الحديث على المقطع (1كور27:12-28) ويقول: [من أجل إظهار مَن هم الأعضاء وما هي الفروقات بينهم، قال بولس “وأما أنتم فجسد المسيح… وأنواع الألسنة”]

درجات المستنيرين والممجّدين في جسد المسيح ليست درجات سلطة يختارها البشر. هي أولئك الذين هيأهم الله ووضعهم في الكنيسة من أجل التقدم إلى درجات أعلى في العلاج والكمال. عندما يدعو بولس الدرجات كلّها كي تتقدم نحو الدرجات الروحية العالية، يبرهن بوضوح أنّ على الكل أن يصبحوا أنبياء، أن يصلوا إلى المجد: “إني أريد أن جميعكم تتكلمون بألسنة ولكن بالأولى أن تتنبئوا” (1كور5:14).

ج – عيادة طب النفس

الكنيسة البولسية شبيهة بعيادة طبّ النفس. لكن مفهومها لمرض الشخصية البشرية أعمق من كلّ ما عرفه الطبّ الحديث. من أجل التحقق من ذلك علينا أن ننظر من خلال بولس إلى المفهوم الكتابي لما هو طبيعي عند الإنسان ولما هو غير طبيعي.

الإنسان الطبيعي هو الذي أرشد إلى الحقيقة كلّها بموجب روح الحق وأيضاً أُرشد إلى رؤية المسيح في مجد أبيه (يوحنا17، أنظر إلى تفسير هذا الإصحاح عند القدّيس يوحنا الذهبي الفم). بسبب تمجيد الرسل والأنبياء في المسيح آمن الشعب بالله الذي أرسل ابنه، وكذلك صار باستطاعة الشعب هو أيضاً أن يشفيَ عن طريق المحبّة التي لا تطلب شيئاً لذاتها. الناس الذين لا يرون مجدَ الله غيرَ المخلوق ليسوا بطبيعيين “إذ الجميعُ أخطئوا وأعوزهم مجد الله” (رو23:3).

بعبارة أخرى، الإنسان الوحيد الذي وُلد طبيعياً هو ربُّ المجد الذي باختياره كابد الآلام التي لا عيب فيها (الجوع، العطش، النوم، الخوف من الموت الخ…) بالرغم من كونه بالطبيعة مصدر المجد الذي يُلغي هذه الآلام كلّها.

ومن جهة ثانية لا يكشف الله عن مجده لكل واحد لأنه لا يريد أن يؤذي أولئك الذين ليسوا مهيئين لمثل هذه الرؤيا. المفاجأة هي في أنبياء العهد القديم الذين رأوا الله ومع ذلك يحيون، وكذلك في طلب الشعب من موسى أن يتوسّل إلى الله لكي يحجب مجده الذي لم يستطيعوا احتماله، وكل ذلك يوضح ما قلناه سابقاً.

مهمّة الكنائس الرسولية ليست في البحث عن الله نفسه طالما يبقى الله سراً بالنسبة للعقل حتى عندما يكشف عن نفسه للذين يشتركون في سرّ صليب ابنه عن طريق تمجيدهم. مهمتها الوحيدة هي معالجة أو شفاء كلّ واحد في المسيح. هذا يحصل عن طريق التطّهر واستنارة القلب والتمجّد في هذه الحياة من أجل خدمة المجتمع: “فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه. وإن كان عضوٌ واحدٌ يُكرّم فجميعُ الأعضاء تفرح معه” (1كور 26:12)، “والذين برّرهم فهؤلاء مجّدهم أيضاً” (رومية30:8). هذا يعني أن الاستنارة والتمجّد مرتبطان ببعضهما البعض من دون أن يتحدا.

ج – مرض الإنسان

مرض الشخصية البشرية كامن في ضعف شركة القلب مع مجد الله (أي ضعف اشتراكه بنعمة الله) (رو3: 23) لأن القلب قد ذاب في أفكار المحيط “لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي” (رو1: 21، 1: 24، 2: 5). في هذه الحالة كل واحد يتصور الله وكأنه صورةٌ لنفسه المريضة أو حتى صورة للحيوانات (رو1: 22). الإنسان الداخلي يعاني من الموت الروحي “الذي بسببه” (رو5: 12) أخطأ الجميع عندما أصبح عبداً لغريزة الحفاظ على أنانيته. ممّا يشوه المحبة بربطها بالتفتيش الأناني عن الضمانة security وعن الرفاهية والراحة comfort.

إن علاج هذا المرض يبدأ بتطهير القلب من الأفكار كلّها (رو2: 29): “بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي وختان القلب بالروح هو الختان. الذي مدْحه ليس من الناس بل من الله”. تطهير القلب من الأفكار الحسنة والسيئة معاً وحصرها في العقل. للوصول إلى ذلك عن طريق الصلاة، المستمدّة من القلب، يلتفّ الروح على نفسه بشكل كرة من نور وينتقل من العقل إلى القلب. فيصبح كأسطوانة مرمّمة تعود في الصلوات إلى العقل الذي انطلقت منه. هكذا يتحرّر الإنسان من عبودية المحيط، من التساهل، من الضعف، من التملّك وحتى من الأهل والأقرباء.

“إن كان أحد يأتي إليّ ولا يُبغض أباه وأمّه وحتى نفسَه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً”. (لوقا14: 26، متى10: 27، لوقا14: 26). هدف كلّ ذلك ليس الوصول إلى اللامبالاة الرواقية أو إلى النقص من المحبة بل هو تأهيل القلب لأن يتقبّل الصلوات والمزامير التي ينقلها الروح من العقل إلى القلب والسماح لهذا الأخير أن يعمل بينما ينشغل العقل بالنشاطات اليومية أو حتى بالنوم. هكذا تجد المحبة علاجها.

هذا الإطار الذي يتكلم بولس الرسول فيه عن الروح القدس الذي يصلّي في القلب. “الروح القدس يَشفع في الناس كلّهم بأنات لا توصف” (رو8: 26)[1]، ولكنه ينقل الصلوات والمزامير من العقل intellect إلى القلب عندما يكون هذا الأخير مطهّراً من الأفكار كلّها الحسنة والرديئة.

عند هذا الحدّ يتقوى روح الإنسان بالروح القدس ولا يعمل شيئاً آخر سوى الصلاة وتأدية المزامير بصورة غير منقطعة بينما العقل مأخوذ بنشاطاته اليومية الطبيعية محرّر من السعادة التي تسعى إلى التركيز على الأنا. هكذا يصلّي الإنسان بروحه في القلب بلا انقطاع ويصلّي بالعقل في بعض الأوقات. هذا ما يعنيه بولس عندما يكتب: “أصلّي بالروح وأصلّي بالذهن أيضاً. أرتّل بالروح وأرتل بالذهن أيضاً” (1كور14: 15)[2].

كان بولس قد قال لنا أن الصلاة بألسنة مختلفة تحوي مزامير العهد القديم. لا يتكلم إذاً عن صلوات غير مفهومة إذ أن المزامير مفهومة عند الجميع. يتكلم بولس عن صلوات روح الإنسان في القلب. هذه الصلوات يسمعها فقط أولئك الذين يتمتعون بموهبة “أنواع الألسنة”. أولئك الذين لا يمتلكون مثل هذه الموهبة لا يستطيعون أن يسمعوا الصلوات والمزامير في قلوبهم.

في حالة الاستنارة، أدخل الكورنثيون عادة الخدمة المشتركة (صلاة في القلب) بحضور “الأفراد” الذين لم يحصلوا بعد على موهبة “أنواع الألسنة”[3]. هذا يجعل من المستحيل لهؤلاء الأفراد أن يُبنوا ويقولوا “آمين” في أوقات معيّنة لأنهم عاجزون عن السمع.

يقول بولس بوضوح “ليس أحد يسمع” (1كور14: 2). “فالآن أيها الأخوة إن جئت إليكم متكلماً بألسنة فماذا أنفعكم إن لم أكلمكم إما بإعلان أو بعلم أو بنبوءة أو بتعليم؟” (1كور14: 6-7). “فانه إن أعطى البوق أيضاً صوتاً غير واضح فمن يتهيأ للقتال؟ هكذا أنتم أيضاً إن لم تعطوا باللسان كلاماً يُفهم فكيف يعرف ما تُكلِّم به؟….ربما تكون أنواع لغات هذا عددها في العالم وليس شيء منها بلا معنى فإن كنت لا أعرف قوّة اللغة أكون عند المتكلم أعجمياً والمتكلم أعجمياً عندي” (1كور14: 8-9). الذين لا يتمتعون بأنواع الألسنة عليهم أن يسمعوا “قوة اللغة” في الصلوات والمزامير لكي يجيبوا “آمين” (1كور14: 10و16) لذلك يجب على الواحد أن لا يصلي ويتلو مزامير “بصوت غير معلن” بحضور أولئك الذين ليس لديهم موهبة الألسنة (1كور14: 10و11) “لأنك أنت تشكر حسناً ولكن الآخر لا يُبنى” (1كور14: 17).

عندما يقول بولس “لأن مَن يتنبأ أعظم فمن يتكلم بألسنة إلاّ إذا ترجم حتى تنال الكنيسة بنياناً” (1كور14: 5) يقصد أن الذي يتكلم بألسنة فقط عليه أن يتعلّم كيف يترجم المزامير والصلوات في قلبه إلى مزامير وصلوات في عقله لكي تُتلى بصوت مسموع. عندما يتعلّم أن يصلي ويردد مزامير في الوقت نفسه بروحه وبعقله يمكن له أن يشترك بصلوات شكر مشتركة من أجل فائدة “الأفراد العاميين” الذين سوف يعرفون متى يُقال “آمين”.

“لذلك من يتكلم بلسان ليصلِّ لكي يترجم. لأني إن كنت أصلي بلسان، فروحي تصلي وأما ذهني فهو بلا ثمر. فما هي إذاً (الحال) أصلّي بالروح وأصلي بالذهن أيضاً. أرتل بالروح وأرتل بالذهن أيضاً. وإلاّ فإن باركت بالروح فالذي يشغل مكان العاميّ كيف يقول آمين عند شكرك لأنه لا يعرف ماذا تقول. فانك أنت تشكر حسناً ولكن الآخر لا يُبنى. أشكر إلهي اني أتكلم بألسنة أكثر من جميعكم. ولكن في كنيسة أريد أن أتكلم خمس كلمات بذهني لكي أعلم آخرين أيضاً أكثر من عشرة آلاف كلمة بلسان” (1كور14: 13-19).

لا يقول بولس أن الواحد يترجم ما يقوله الآخر بألسنة. الواحد يترجم ما هو نفسه يقوله بألسنة. في كلّ مرة يذكر بولس “التكلم بألسنة” و”الترجمة” يقصد الواحد الذي يتمتع بموهبة الألسنة ويترجم نفسه بطريقة يُسمع واضحاً من أجل منفعة “الأفراد”. في هذا الإطار يقول: “إن كان أحد يتكلم بلسان فاثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة وبترتيب وليترجم واحد. ولكن إن لم يكن مترجم فليصمت في الكنيسة وليكلّم نفسه والله”. (1كور14: 27-28).

المترجم هو الذي يستطيع أن يترجم صلواته الخاصة من روحه الذي في قلبه إلى عقله الخاص بطريقة تصبح مسموعة من أجل بناء الآخرين. وإلا عليه أن يبقى صامتاً مقتصراً على الصلاة بألسنة، هذه الصلاة التي يتلوها آخرون أيضاً ولكن مسموعةً. هكذا فإن بولس يحرم الذين لديهم موهبة أنواع ألسنة، يحرمهم من قوّتهم حتى لا يفرضوا في الصلوات المشتركة طريقتهم بحضور “الأفراد”.

يتكلم بولس عن المزامير والصلوات لا المتلوّة باللسان بل المسموعة آتية من القلب. استنارة القلب هذه تغلب الاستعباد لغريزة الحفاظ على النفس وتساعد على بداية التحوّل من المحبة الأنانية إلى المحبة التي لا تطلب شيئاً لذاتها. هذه هي هبة الإيمان للإنسان الداخلي الذي يتبرّر، يتصالح، يُدرك البنوّة، السلام،الرجاء والحياة.

هذه الصلوات والمزامير غير المنقطعة في القلب[4] تحوّل الإنسان العادي إلى هيكل للروح القدس والى عضو في جسد المسيح. هي بداية تحرّر الإنسان من التعلّق بالمحيط لا بالانسحاب منه بل بمراقبته لا للاستقلال بل من أجل المحبة اللاأنانية. هكذا “فإن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطيئة والموت… ولكن إن كان أحدٌ ليس له روحُ المسيح فهو لا ينتمي إليه. وإن كان المسيح فيكم فالجسد ميّت بسبب الخطيئة وأمّا الروح فحياةٌ بسبب البرّ” (رومية8: 2و8: 10).

بعد أن تكون المحبة قد تعافت عن طريق الكمال، يتقبّل الإنسان المواهب العليا الواردة في لائحة بولس الرسول في 1كور12: 28 والتي تصل إلى التمجّد glorification. يقول بولس: “إن كان عضوٌ واحدٌ يكرّم (يُمجد) فجميع الأعضاء تفرح معه” (1كور12: 26). هذا لكي يفسّر كيف يأتي الأنبياء بعد الرسل وقبل كل أعضاء جسد المسيح الآخرين. “أن يتبرّر الإنسان بالصلوات والمزامير، بالروح القدس في القلب هو أن يرى المسيح كما في مرآة في لغز (1كور13: 12). والتمجّد هو مجيء “الكامل” (1كور13: 10) أي رؤية المسيح “وجهاً لوجه” (1كور 13: 12).

عندما يقول بولس “أعرف بعض المعرفة” يقصد بولس حالته في الاستنارة والتبرير. وفي عبارته “لكن حينئذ سأعرف كما عُرفت” يقصد بولس أنه سوف يتمجّد كما تمجّد. في حالة الاستنارة يكون الإنسان طفلاً وفي حالة المجد يصبح رجلاً (1كور13: 11).

في حالة المجد glorification التي هي حالة الإعلان بصلاة في القلب (الألسنة)، المعرفة والنبوّة، مع الإيمان والرجاء كلّها تُلغى إذ تُستبدل بالمسيح نفسه. فقط المحبّة لا تسقط (1كور13: 8-11) عند الإعلان الكلمات والأفكار عن الله ومن أجل (الصلوات) تُلغي. بعد حالة المجد يعود الإنسان إلى حالة الاستنارة. المعرفة، النبوّة، الألسنة، الإيمان والرجاء كلّها تعود لكي تلتقي بالحبّ الذي لم يسقط أبداً. هذه الكلمات والأفكار المستخدمة في الصلوات يستخدمها الإنسان الممجّد لكي يقودَ الآخرين إلى المجد. هي ملهمة من الله وتُلغى في حالة المجد.

هذه الرؤيا للمسيح القائم في المجد والتي كانت لبولس هي التي تضع الرسل والأنبياء على الرأس (1كور12: 28) وفي أساس الكنيسة (أفسس2: 20). يضم هذا الأساس نساءً أنبياء (أعمال الرسل2: 17،21: 9) (أحد 11: 5). مما يتفق مع قول بولس أن في المسيح لا رجل ولا مرأة (غلا3: 28).

ليست حالة المجد أعجوبةً بل هي الحالةُ الطبيعية التي يُدركها الإنسان عندما يتحول من المحبة الأنانية إلى المحبة التي لا تطلب شيئاً لذاتها. بولس الرسول ويوحنا الإنجيلي معاً يعتبران رؤيةَ المسيح في المجد ضروريةً في هذه الحياة من أجل تتميم المحبة وخدمة المجتمع (يوحنا14: 21-24،16: 22،17: 241كور13: 10-13،أفسس3: 3-6). إن ظهورات المسيح القائم في المجد لم تكن، وليست، عجائب يراها أناس مدهوشون في عبادتهم لله. العجيبةُ كانت في صَلب ربّ المجد لا في قيامته. يظهر المسيح القائم فقط من أجل تتميم المحبة. حتى في حالة بولس الذي أدرك درجة المجد (غلا1:14وما يليه) دون أن يعرف ربّ المجد إنما رآه مولوداً في المهد مصلوباً وقائماً.

المقطع (1كور15: 1-11) هو عبارة عن التمجيدات التي جاءت لتكمّل ما عالجه بولس في المواهب الروحية ابتداءً من (1كور12: 1). كلّ الذين تمجدوا في التاريخ يساوون الرسلَ في اشتراكهم في العنصرة لأنهم قد أُرشدوا إلى الحقيقة كلّها (أعمال10: 47-11: 18). كل الحقيقة هي في المسيح القائم والصاعد والعائد في الألسنة غير المخلوقة، الألسنة النارية في العنصرة ليسكن مع أبيه في الناس المؤمنين الذين أصبحوا هياكلَ لروحه المتشفّع في قلوبهم. لقد جعل من الكنيسة جسده التي لا تقوى عليها أبوابُ الموت.

التمجّد هو اشتراك الجسد والنفس في الأبدية وفي عدم الفساد من أجل تتميم المحبة. هذه الحالة يمكن أن تكون قصيرة أو طويلة. بعد فقدان قصير للتوجه، يتابع الواحد عمله اليومي ويرى كلّ شيء مملوءً من مجد الله الذي ليس نوراً ولا ظلمةً ولا يشبه أي شيء مخلوق. أُلغيت الأهواء عن طريق الاستنارة. وخلال حالة المجد لا يأكل الإنسان، لا يشرب، لا ينام، لا يتعب ولا يتأثر بالحرّ ولا بالبرد. هذه العوامل في حياة الأنبياء القديسين قبل تجسّد ربّ المجد وبعده ليست عجائب بل استعادةً لحياة الإنسان الطبيعية. ضمن هذا الإطار نفهم أقوال المسيح للإنسان المريض “أما انا فقد أتيتُ لتكون لهم حياة (في الإستنارة) ولتكون حياة أفضل (في التمجّد) (يوحنا10: 10). إن إنجيل يوحنا وخاصة الإصحاحات يوحنا14-16 هو وصف مفصّل للشفاء عن طريق الإستنارة والإصحاح يوحنا17 هو صلاة المسيح عن طريق التمجّد.

علم الشيخوخة Geronyology أظهر أن الشيخوخة هي مرضٌ وهو يبحث أيضاً إذا كان الحدث نفسه هو أيضاً مرض. في هذا الموضوع الناس الممجدّون (المتألهون) وكذلك رفاتهم سوف تبرهن عن فائدة كبيرة إذ إن عدداً كبيراً منهم بقيت أجسادهم وخلاياهم لقرون في حالة متوسطة بين الفساد وعدم الفساد. المثل الشهير الأقدم هو القدّيس اسبيريدون الذي في جزيرة كركرة corfou والذي هو من آباء المجمع المسكوني الأول سنة 325. وهناك 120 منهم في مدينة كييف Kièv وحدها.

هذا إطار كلام بولس “ان الخليقة نفسها أيضاً ستُعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله” (رو8: 21). من الواضح استناداً إلى هذا الإطار أن “حرّية المجد” هي التحرّر من الموت ومن الفساد. ولكن حتى الذين، في إنسانهم الداخلي، قد استناروا وتذوقوا اللاموت الجسدي واللافساد خلال فترة تمجيدهم الوجيزة هؤلاء أيضاً “يتوقّعون التبنّي فداء أجسادنا” (رو8: 23) “لأن هذا الفاسد لا بد أن يلبس عدم فسادٍ وهذا المائت يلبس عدم موت. فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة ابتُلع الموت إلى غلبة” (1كور15: 53-54). هذا نعرفه لا تعليقاً على ما جاء في الكتب المقدّسة بل من خلال خبرة التأله أو التمجيد، من “حرية مجد أبناء الله” (رو8: 21).

إن أساس إيمان الكنيسة بقيامة الأجساد (الجزء البيولوجي من الإنسان) هو خبرة التأله في المجد وليس فقط النصوص الكتابية.

د- ليسوا من العالم بل هم في العالم

التمييز بين الحياة العملية والحياة التأملية لا وجود له في جسد المسيح. إن هبة الروح القدس في الصلاة المستمدّة في القلب تجعل مثل هذا التمييز مستحيلاً. يمكن له أن يوجد فقط خارج جسد المسيح.

“ليس أحد يستطيع أن يقول يسوع ربٌّ إلا بالروح القدس. وليس أحدٌ وهو يتكلم بروح الله يقول يسوع أناثيما” (1كور12: 3). هذه هي روحانية الكتاب والآباء. وهذه هي القوّة التي كانت تمنع (تجعل مستحيلاً) اضطهاد هيكل الروح القدس بإنكاره للمسيح. هذا الإنكار يبرهن على أن الإنسان لم يكن قد صار عضواً في جسد المسيح. إن رسالة هياكل الروح القدس الأولى هي أن يعمل الإنسان في أية صنعة ويسعى في الوقت نفسه إلى شفاء الآخرين. يعملون في مجتمعهم على شبه الأطباء النفسانيين Psychiatrists لكن مع الفرق أن هؤلاء الأعضاء لا يبحثون عن توازن عقلي بالانسجام مع مقاييس اجتماعية للإنسان الطبيعي، المقياس الطبيعي عندهم هو التمجّد. إن قوّتهم الشفائية لم تكن وليست من هذا العالم. ومع ذلك فهم يعيشون في هذا العالم مشاركين تحوّله.

“إن الخليقة نفسها أيضاً ستُعتق من عبودية الفساد إلى حرّية مجد أبناء الله” (رو8: 21).

حواشي

[1]وكذلك الروح أيضاً يعين ضعفاتنا. لأننا لسنا نعلم ما نصلّي لأجله ولكن الرب نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها” (رو8: 26)

[2]”إلاّ فإن باركتَ بالروح فالذي يشغل مكان العاميّ كيف يقول آمينعند شكرك. لأنه لا يعرف ماذا يقول. فانك أنت تشكر حسناً ولكن الآخر لا يُبن. أشكر إلهي أني أتكلم بألسنة أكثر من جميعكم. ولكن في كنيسة أريد أن اتكلم خمس كلمات بذهني لكي أعلّم آخرين أيضاً أكثر من عشرة آلاف كلمة بلسان” (1كور14: 16 – 19)

[3] موهبة الصلاة في القلب = موهبة الألسنة

[4] “ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح مكلّمين بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب” (افسس5: 18-19)

[5] “ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حرّ. ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع” (غلا3: 28).

Leave a comment