اليوم يوم خلاص

اليوم يوم خلاص

بقلم الأب باتريك هنري ريردون


نقلها إلى العربية الأب نقولا مالك

عندما كتب الرّسولُ بولس “هُوَذا الآنَ يومُ خَلاصٍ” (2 كور 2:6)، أَظهرَ صِفةً نوعيَّةً هامَّةً للنّعمةِ الإلهيّة، أنَّها مرتبطةٌ بالوقت. المسألةُ مسألةُ “هذا اليوم” بشكلٍ دائم.

الخلاصُ المرتبطُ بالوقتِ كان أحدَ الدّروسِ الرّئيسيّة الّتي أرادَ الربُّ إبلاغَها لإسرائيل خلالَ تلكَ السّنواتِ الطِّوالِ من التّيهِ في البريّة. وعلى سبيلِ المثال، ما إنْ غادروا مصرَ علَّمَهُم أن يعتمدوا على عطيّة “الخبز اليوميّ” الّذي كان يرسله إليهم من السّماء، والّذي كان يكفي ليومٍ واحد فحسب، وكانوا يُمنَعونَ من الاحتفاظِ بأَيٍّ منه لليومِ التّالي. ذلك “المَنّ” كان مرتبطًا بالوقت، إذْ كانَ محدَّدًا له ألاّ يتأخّرَ يومًا واحدًا، لأنَّ المسألةَ مسألةُ “هذا اليوم”، “الآن”.
ويمكننا القولُ إنّ بَنِي إسرائيل تعلّموا هذا الدّرسَ بالطريقة الصّعبة؛ لأنّهم رفضوا مبدأ “الآن” الّذي للنّعمةِ الإلهيّة. أُنظُرْ كيف رفضوا دخولَ أرضِ الميعادَ في اليومِ المعيَّن (عدد 14:13)، مِمّا استَدعى عقابَ اللهِ لِعَدَمِ طاعَتِهم، وذلك بضياعِ كِبارِهم في البريّةِ بقيَّةَ زمانِ حياتِهم. بكلامٍ آخَر، يومُ تَحريرِهم قد وَلّى ولم يُدرِكُوه. “الآن” المطلوبة لم تَعُدْ موجودةً. لقد قرّروا مِن تلقاءِ أنفُسِهِم دُخُولَ أرضِ الميعاد في اليومِ التالي، فلم يُفلِحُوا، لأنَّ الرَّبَّ لَم يَعُدْ قائمًا فيما بَينَهُم.
موضوعُ الخلاصِ المرتبطِ بالوقت كان مِحوَرَ المزمورِ الرّابعِ والتّسعين: “إنْ سَمِعتُمُ اليومَ صَوتَهُ فَلا تُقَسُّوا قُلُوبَكُم كَما كانَ في يَومِ الخُصُومة، كما كانَ في يَومِ التّجربةِ في البرّيّة، حيثُ جَرَّبَني آباؤُكُم واختَبَرُوني وَنَظَرُوا أعمالي. أربعينَ سنةً مَرمَرَني ذلكَ الجِيل، فَقُلتُ إنَّهم قَومٌ قُلُوبُهُم دائمًا في ضَلالٍ، ولم يَعرِفُوا سُبُلي. لذلكَ أقسَمتُ في غَضَبي: إنَّهم لا يَدخُلُونَ راحتي”.
ما حصلَ مع بَني إسرائيل في ذلك الزّمان، قد يَحصلُ معنا اليوم، لأنَّ يومَ القرارِ هو “الآن” دائمًا، ولأنَّ موهبةَ الخلاصِ هي “اليوم”. لذلكَ نجدُ صدًى للمزمورِ الرّابعِ والتّسعين في العهدِ الجديد، في الأصحاحَينِ الثالثِ والرابع من الرّسالةِ إلى العبرانيّين، تلكَ الرّسالةِ المُوَجَّهَةِ إلى رعيَّةٍ مسيحيّةٍ كانَ المُرسِلُ يَخشى عليها مِن خَطَرِ السُّقُوطِ مِن الإيمان. فَبَعدَ أنِ اقتَبَسَ بعضًا مِن نَصِّ المزمور، كَتَبَ مُعَلِّقًا: “أُنظُروا أيّها الإخوةُ أَنْ لا يَكُونَ في أَحَدِكُم قَلبٌ شرّيرٌ بِعَدَمِ إيمانٍ في الارتدادِ عن الله الحيّ، بَل عِظُوا أنفُسَكُم كُلَّ يومٍ ما دامَ الوقتُ يُدعى اليومَ، لكي لا يُقَسّى أحدٌ منكم بِغُرُورِ الخطيئة… فَلْنَخَفْ أنّه معَ بَقاءِ وَعدٍ بالدُّخولِ إلى راحتِهِ يُرى أحدٌ منكُم أنّه قد خابَ منه، لأنّنا نحنُ أيضًا قد بُشِّرنا كما أُولئكَ، لكنْ لم تَنفَعْ كلمةُ الخَبَرِ أُولئِكَ إذْ لم تَكُنْ مُمتَزِجَةً بالإيمانِ في الّذي سَمِعُوا”.
لكي نُدرِكَ مَغزى هذا التّحذير، علينا أن ننتبه إلى أنّ المزمور الرّابعَ والتّسعين يدورُ حولَ الاختيارِ الإلهيّ: “هُوَ إلهُنا ونحنُ شعبُ مَرعاهُ وغَنَمُ يَدِه”. إلاّ أنَّ نصَّ رسالةِ العبرانيِّين يُوضِحُ أنَّ هذا الاختيارَ ليسَ آلِيًّا، أو ضربًا مِن ضروبِ السِّحر، بَل هُوَ انتخابٌ يُحافِظُ عليهِ المَرءُ وَيُوطِّدُهُ بالمُمارَسَةِ اليوميّةِ للطّاعة. وهذا ما يجعلُ كاتبَ المزمور أعلاه يُشِيرُ إلى خَطَرِ الفَشَل فيما إذا طغى النّسيانُ أو قَسا القَلب.
خروجُ إسرائيلَ من مصرَ كان لأنَّ اللهَ اختارَهُ وتعهَّدَ بِجَلبِهِ إلى الأرضِ المَوعُودة. إلاّ أنَّ تشبُّثَ إسرائيلَ بقرارِهِ الخاصّ، وعدمَ التِزامِهِ باليَومِ الّذي حدَّدَهُ الرّبُّ، أدَّيا إلى عَدَمِ حصولِهِ على الوعد؛ ذلكَ أنَّ الإسرائيليِّينَ الَّذِينَ فَشِلُوا في امتحانِ التَّجاوُبِ مَعَ النِّعمةِ، لَم يُعطَوا مَوعِدًا آخَرَ للخَلاص. فالخَلاصُ المَطرُوحُ كانَ مُرتَبِطًا بالوقت: “اليوم” واليوم فقط، وَكُلُّ مَن قال “لا” ماتَ في البرّيّة. لقد أخفَقُوا لأنّهم نَسُوا أنَّ المَنَّ الّذي يَبقى لِليَومِ التّالي لا يَعودُ صالحًا للأكل.
إنَّ عدَّةَ مزاميرَ تدورُ حولَ تاريخِ إسرائيلَ التّائه في البريّة، لكنَّ المزمورَ الرّابع والتّسعين أشهرُها في اعتقادي. إنّه المزمورُ الّذي يَرى فيه كاتبُ رسالةِ العبرانيّين خطرًا على أولئك الّذين “يُهمِلُونَ خلاصًا عظيمًا كهذا” (عب 3:2). وهذا ما يفسِّرُ ما دَرَجَ عليه بعضُ القُدَماءِ مِن إدراجِ المزمور الرابع والتسعين في الصلاةِ الصّباحيّةِ كُلَّ يوم.

Leave a comment