الأمّ رافاييلا

 

الأمّ رافاييلا

شهادة معاصرة عن الحياة المسيحيّة الرهبانيّة من قلب أميركا الشماليّة

إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطّع، دده – الكورة

 

 

نتساءل أحياناً كثيرة ما الذي يمكن لراهب أو راهبة أن يقدّمه أو يعلّمه لنا في هذه الحياة الفاسدة في حين أنّهم يعيشون منعزلين في أديرتهم…

يأتينا الجواب من عمق تعليم كنيستنا الأرثوذكسيّة: “لا يوجد طريقتان للحياة المسيحيّة، واحدة للذين في العالم وأخرى للذين في الأديرة، لأنّه ليس هناك سوى إنجيل واحدٍ و‘حياة وطريق وحقّ’ واحد وهو يسوع المسيح نفسه، وبه يمكن أن نعيش إيماننا بطرق متنوّعة بحسب مواهبنا المختلفة المعطاة لنا من السيّد” هكذا تشهد الأمّ رافاييلا من وسط أميركا الشماليّة.

لأوّل مرّة، في تاريخ هذه القارّة، تبرز حركة قويّة من رجال ونساء يحاولون عيش الحياة الرهبانيّة الأرثوذكسيّة في هذا الجزء من العالم. لقد ظهرت على الأقلّ، في السنوات الأخيرة، ستّ مجموعات رهبانيّة، أو شبه رهبانيّة، تتألّف في معظم الأحيان من خمسة إلى ستّة أعضاء، يدبّرها واحد من الآباء الرهبان من خارج البلاد.

بيد أنّ دير حاملات الطيب المقدّس الذي ترأسه الأمّ رافاييلا، كاتبة هذه المقالات، لا ينتمي إلى هذه المجموعات. إذ قد أنشأته الأمّ رافييلا، (وقد كانت سابقاً راهبة تابعة للكنيسة الأسقفيّة البروتستانتيّة)، وهي لم تزل إلى اليوم ترأسه وتدبّر أموره.

عندما كانت الأمّ رافاييلا راهبة أسقفيّة، كانت تعلّم في المدارس، وتعزف الأورغ، وتحرِّر منشورات الجماعة الرهبانيّة، كما كانت تمثّل الدير التابعة له في اجتماعات الأساقفة. وقد تركت الكنيسة الأسقفيّة بعد عشر سنوات من رهبنتها، وانضمّت إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة في العام 1977. وفي السنة نفسها أعطيت بركة متابعة مسيرتها الرهبانيّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة في أميركا مع أخت أخرى كانت هي أيضاً راهبة أسقفيّة سابقة. وهكذا تأسّست أخويّة حاملات الطيب. وفي العام 1988 حصلت الأخويّة على ملكيّة خاصّة بها شمالي ولاية نيويورك. وفي العام 1997 سُميّت الأخويّة ديراً تحت رعاية المتروبوليت ثيودوسيوس الجزيل الاحترام الذي نصّب الأمّ رافاييلا رئيسة بحضور أسقف أوتاوا سيرافيم.

لقد قامت الأمّ رافاييلا، على مدى عشرين سنة، بكتابة مقالات عديدة كانت عصارة خبرتها في التعامل مع اللّواتي قصدن الدير بغية انتهاج الحياة الرهبانيّة. وتقول الأمّ: “إنّ تعليم المسيح الحقيقيّ هو لكلّ إنسان، فالصلاة والصمت والإيمان والطاعة والطهارة وحسن التمييز…. وأهمّ هذه كلّها المحبّة، هي لكلّ إنسان مسيحيّ سواء كان مدعوّاً إلى حياة البتوليّة، أو إلى الحياة العائليّة على حدّ سواء.

ولنعد، الآن، إلى سؤالنا الأساسيّ وهو: “ما الذي يمكن أن نتعلّمه، نحن العلمانيّين من الرهبان؟”. تجيبنا الأمّ رافاييلا قائلة: “يأتي الرهبان من عالمنا نفسه حاملين معهم إنسانهم العتيق في أعماقهم وأذهانهم وأجسادهم، وحتى في ذكرياتهم وعواطفهم وأهوائهم. لذلك، فالشيطان الذي يعمل في المجتمعات والعائلات الدنيويّة، هو نفسه يعمل عملاً مضاعَفاً في الأديرة المسيحيّة، ليمنع الرهبان من التحرّر من هذا الإنسان القديم.”

ولكنّنا نحن نحتاج إلى سماع “صوت البريّة” و”كلمة القفر” ( أي الكلام الإلهيّ الصادر عن الأديرة المسيحيّة)، وذلك، لأنّ جوّ السكون المحيط بأولائك الرهبان يزوّدهم بالقدرة على رؤية الأمور بطريقة أوضح وأدقّ، وهذا ما لا يمكننا، نحن العلمانيّين، الوصول إليه في لجّة حركتنا التي لا تتوقّف، ونشاطاتنا التي لا تنتهي، والصخب والضجيج المحيطان بنا. لذلك، باستطاعة الرهبان، لا بل من واجبهم، أن يقدِّموا الإرشاد الروحيّ إلى إخوتهم المسيحيّين العلمانيّين الذين يلجأون إليهم، وذلك من أجل الحفاظ على صحّة جسد المسيح الواحد وسلامته. أمّا نحن، فنؤكّد أنّ الصوت الصادر إلينا من الدير هو حقيقةٌ لا يمكن أن يُستهان بها، لأنّ قوّته تنبع من حيث يصدر أي من البيئة الرهبانيّة”.

فلنتلقّف، إذاً، هذا الصوت شاكرين الله الذي يرسله إلينا ليحثّنا وينيرنا ويشجعنا ويؤدّبنا…

الأب توماس هوبكو

معهد القدّيس فلاديمير للاهوت

 

الصمت!!

 

كثيراً ما أسمع الأهل يشتكون بأنّهم لا يفهمون ما يجري مع أولادهم المراهقين، فهم صامتون وحسب، وفلان لا يكلّم فلان الآخر لأنّه قد أساء إليه. إنّ أصدقائي، العاملين مع المراهقين في المدارس والأبرشيّات، غالباً ما يشاركونني انطباعاتي عن المراهقين ” الذين لا يستطيعون تحمّل فترات حتّى قصيرة من الصمت.” وخبرتي الخاصّة مع اللّواتي أردن دخول الحياة الرهبانيّة تؤكّد هذه الانطباعات.

يقول خبراء نموّ الأطفال بأنّ الطفل الذي يكبر متابعاً التلفاز الذي يغدو بمثابة مربٍّ مرافق له، ومصدر رئيسيّ للثقافة منذ عمر الروضة، لا يكون، هذا الطفل، قادراً في ما بعد على استعادة قدراته الخلاقّة على التعلّم، هذه القدرات التي تتشكّل خلال تلك الفترة من النموّ عند الطفل.

ويقول جون روزموند، وهو عالم نفس مختصّ بالعلاقات العائليّة: “إنّ الطفل الذي يقضي أمام التلفاز ثلاثين ساعة في الأسبوع في مرحلة ما قبل المدرسة، يصل إلى عمر الستّ عشرة سنة وقد شاهد ستّة عشرة ألف ساعة من التلفاز مقابل اثنتي عشرة ألف ساعة من المدرسة، وإنّ هذا الوقت لا يمكن أن يعوَّض”. وبرأيه، ورأي علماء النفس الآخرين، أنّ ساعة من اللّعب في الطين، مع تشكيل أشكال مختلفة منه، لهي أفضل بكثير من ساعة أمام التلفاز، ولو كان البرنامج المعروض من أفضل البرامج التثقيفيّة، لأنّ اللّعب يحفّز قدرات الدماغ، بينما يقوم التلفاز بدور المهدّئ لجسد الطفل وخياله وذكائه.

من الضروريّ أن لا يقضي الأطفال أكثر من خمس ساعات في الأسبوع أمام التلفاز أي بمعدّل نصف ساعة في اليوم. وقد تظنّ أنّ التلفاز يصنع لك معروفاً  بتهدئة طفلك المشاغب، ولكنّك مخطئ في ظنّك هذا. فالتلفاز يمنع طفلك، فقط، من تعلّم كيف يقضي وقته بشكل خلاّق، إذ إنّه بصوره المتلاحقة السريعة يحدّ من قدرة الطفل على الانتباه.

فلا نعجبنّ، بعد ذلك، عندما يقع الناس في حيرة، وفي نوع من الضياع متى تعرّضوا لفترات من الصمت المتواصل لا تتخلّلها تسلية أو تنوّع.

أظنّ أنّ قلّة من الأولاد هم قادرون على الصمت. ويؤكّد الكثيرون من الأصدقاء المثقَّفون بأنّ كلامي هذا ليس مبالغاً فيه، وإنّ عمليّة تعليم الأولاد اليوم هي جهد بلا أمل إن لم يملك المعلِّم، من جهة، وسائل تعليم متطوِّرة تتضمّن إحدى وسائل الإعلام، ومن جهة، أخرى مواهب مقدِّم تلفزيونيّ.

حبّذا لو يتمّ تطوير علاج نفسيّ  (psychotherapy) قادر على معالجة الأذى الحاصل لهذا الجيل، لكي يستطيع أن يستعيد مَلَكَة التفكير البشريّ وطاقاته، بالإضافة إلى القدرة على التعامل مع الصمت بشكل طبيعيّ حتى ولو كلّف ذلك الكثير من العمل الشاقّ.

ولكن يبدو أنّ معظم الناس اليوم يعتبرون الصمت صفة سلبيّة تنمّ عن عدم القدرة أو عدم الرغبة في التواصل. أو يعتبرونه سلاحاً لرفض التعبير عن الحبّ والثقة و الغفران، هذه الأمور التي تدعونا المسيحيّة لإظهارها نحو الآخر، وبخاصّة ضمن العائلات.

أعتقد، أيضاً، أنّ هناك أمران يخلقان هذا الشعور بعدم الارتياح تجاه الصمت:

فمن الناحية الأولى، لقد لعبت عمليّة التعليم عن طريق التلفاز دوراً مهمّاً في تحويل عدّة أجيال إلى أناس لا يستطيعون الصمت. لأنّ خبرة هؤلاء في التعلّم، ليست خبرة صراع من أجل الفهم، لأنّهم يخضعون للعلم، فقط، من خلال التسلية، متلقّفين المعلومات بشكل سلبيّ من دون أيّ تشغيل لفكرهم ليصبح مبدعاً.

في الحقيقة، هناك العديد من الأشياء التي لا نستطيع أن نتعلّمها بهذا الأسلوب، إذ إنّ الكثير من الفكر الذي وصل إلينا عن طريق الأدب المكتوب قابل للتفسير والنقاش بما أنّه غير محدود. وأعني بهذا الأدب أعمال الفلاسفة الكلاسيكيّين واللاّهوتيّين وآباء الكنيسة والنسّاك بالإضافة إلى الإنجيل نفسه، ناهيك عن الخدم الكنسيّة وبخاصة القدّاس الإلهيّ.

فكلّ ما نحتاجه نجده في هذا الأدب الشبيه بالمعلِّم الحاذق الذي يقدِّم التعليم الجيّد.  ولكن، ولكي يقطف الطالب ثمرة هذا التعليم، عليه أن يُعمل فكره لاستنباط المعاني، فيحصّل، نتيجة لذلك، فكراً خلاّقاً ذا حسّ بالمسؤولية .

وبعكس البرامج البصريّة، تتيح لنا هذه الكتب والخدم الكنسيّة فرصة للإصغاء، فتوقظ قدرتنا على الاستجابة الراكدة في أعماقنا، وهكذا نستطيع أن نؤكّد وجود شكل من الصمت خلاّقٍ ضمن هذا النوع من الأدب والعبادة والثقافة.

وعلينا أن نقدّر فرصة النموّ والتطوّر المذخرة في هذه الكتب والخدم الليتورجيّة، فلا نضيّعها، بل نجني ما تحمله من تطوّر ثقافيّ خلاّق.

 

“الصمت يمنعني من التواصل مع الآخرين وفهمهم!!”

ومن الناحية الثانية، تنتج الصعوبة في التعامل مع الصمت عن هذا الادّعاء بأنّ الصمت هو حاجز أمام التواصل. في الحقيقة، إنّ المرء لا يستطيع أن يعرف الناس والظروف التي حولهم بشكل جيّد من دون الإصغاء إليهم، والسماح لهم بكشف أنفسهم. وأيّة معرفة يمكن الحصول عليها عن طريق آخر، غير هذا الإصغاء، هي معرفة مرتكزة على التكهّن أكثر منها على الحقيقة، والتي غالباً ما تكون مضلِّة وغير صحيحة.

ونحن إذ ندّعي أنّنا نحبّ الخليقة الإلهيّة، فلنأخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار والجدّ، وإذ ذاك سوف نرى أنّ هذا هو السبب الجوهريّ الخفيّ للدمار الذي يحصل حولنا.

الشخص الوحيد الذي أنا مسؤول عنه، وعن معرفته بشكل كامل أمام الله هو أنا نفسي. نحن لا نستطيع أن نوجّه الآخرين إلى تعلّم أو فعل ما لا نستطيع نحن أنفسنا أن نفعله أو حتّى نرغب بفعله. لذا، إذا أردنا أن نتعلّم أفضل الطرق لمحبّة الآخرين، وجب علينا أن نتعلّم الطرق الصحيحة لمحبّة أنفسنا أوّلاً. أمّا أوّل محطّة تعبر بها هذه الطرق فهي الصمت، أي الصمت الضروريّ لتعلّم فنّ الإصغاء، وأعني الإصغاء إلى أنفسنا أوّلاً.

لقد عرّف الآباء القدّيسون معرفة النفس، معرفة حقّة، بأنّها الطريق الضيّق والشّاق, فكم بالأحرى يكون هذا الطريق شاقّاً وصعباً على من تشرّبوا، منذ طفولتهم المبكّرة، عدم القدرة على التعامل مع الصمت.

فالآباء الذين لا يستطيعون، أو ببساطة لا يريدون، أن يصغوا إلى أولادهم كأشخاص أحبّاء، وليس كمصدر للإزعاج، يجدون أنفسهم أمام أولاد مشبعين بالألم والغضب. وإذ يتعلّم هؤلاء الأولاد من آبائهم أنّ الأشياء المزعجة أو المؤلمة, بما فيها هم ذواتهم, يجب تجنّبها، يعطيهم ألمهم وغضبهم دافعا آخر ليهربوا من الصمت, أي من مواجهة حقيقية ذواتهم. وحينذاك، كم يكون مفرّحاً أن نرى معجزة ما تجعل أولئك الأشخاص يعثرون على من يساعدهم، في وقت من الأوقات في حياتهم، ليبدؤوا بالتعلّم من جديد. إذ لا يتمّ الشفاء من الغضب والألم إلاّ بمواجهته والتعبير عنه أو الاعتراف به. ولا يتعلّم الإنسان محبّة الآخرين، والقدرة على الغفران، إلاّ إذا تعلّم محبّة نفسه ومسامحتها، وذلك كلّه يكون في الصمت.

ومن المؤسف، حقّاً، أن نتعرّض، نحن أبناء الكنيسة، لهذا النوع من الأذى، وذلك عندما لا نجد ضمن الرعيّة من يستطيع الإصغاء لنا. وهكذا، وطلباً للشفاء، نلجأ إلى طبيب نفسيّ، أو إلى مجموعات[1] تحتضننا، أي إلى حيث نجد من يصغي لنا، وجوّاً يمنحنا (ربّما لأوّل مرّةٍ في حياتنا) القدرة الخلاّقة على الاستجابة. فتنمو في داخلنا ردّة فعل تجاه الكنيسة تتجلّى في الغضب عليها، لأنّها لم تقدّم لنا الدعم الذي نحتاجه، والذي منحنا إيّاه الأطبّاء أو المجموعات المختصّة. ردّة الفعل هذه ليست مفاجئة بل متوقَّعة، ومن وجهة نظري مبرَّرة.

وبالنتيجة، فحين نتجاوز المراحل الأساسيّة للشفاء بأن نجد من يصغي إلينا في جوّ علاج نفسيّ متوازن، نجد أنفسنا، بدورنا، قادرين على الإصغاء. إذ إنّنا نبدأ بسماع ورؤية الأشياء من حولنا، تلك الأشياء التي، حين كنّا مصابين بالأذى، لم نكن قادرين على رؤيتها  وسماعها من قبل. وكلّما تقدّمنا في الشفاء، كلّما اكتشفنا أنّنا ما زلنا أطفالاً نتغذّى بالحليب في خطواتنا الأولى, وأنّ هناك عالماً كاملاً من البالغين المسيحيّين الناضجين الذين ينتظروننا لكي نبدأ في النموّ الصحيح لأوّل مرّة.

وإذ نصل إلى نقطة البداية في الإصغاء إلى أنفسنا في الصمت نجد أنّنا, بخلاف ما كنّا نتوقّع, لسنا وحيدين… فما يدعوه غير المؤمنين اليوم “القوّة الأعلى الأسمى” (أي الله) يكشف عن نفسه، بقوّة أكبر، في الصمت، فيعلن ذاته لنا كوجود جوهرّي سرمديّ…

مبارَكون أولئك الذين ينهلون من منابع التعليم الأرثوذكسيّ، ويعلمون أنّ ذلك “الوجود” هو “خالقهم نفسه” الذي أحبّهم الى درجة الموت عنهم على الصليب. فإذ نعرف أنّه “هو” خلقنا ويعرفنا أفضل مما نعرف، نحن، أنفسنا، وأنّه “هو” مات لأجلنا ونحن خطأة, تقودنا هذه المعرفة إلى روحه القدوس الشافي الذي هو أعظم محبّة وقوّة، وأقرب من أيٍّ من الأشخاص المحدودين المخلوقين الذين قد أساؤوا استعمال محبّتهم تجاهنا في الماضي. “هو” يشفي بطريقة لا يستطيعها أحد منّا تجاه نفسه ولا تجاه الآخرين. ومع ذلك فإنّنا عندما نتّحد به في المناولة، نبدأ، فعلاً، بالتوسّط لديه من أجل الآخرين ليحصلوا على حبّه الشافي ووجوده المحيي.

ولكن… ما دور الكنيسة هنا؟!

نستطيع القول إنّه من واجب الكنيسة أن تقدِّم طرق تعليم خلاّقة مع خبرتها الروحيّة المتنامية. ولكن، من ناحية، لا يمكن للكنيسة أن تنافس وسائل التسلية، وتبقى أمينة لنفسها في الوقت نفسه. ومن ناحية أخرى، إنّه لخطأ فادح أن تتحوّل الأبرشيّات ومعاهد اللاّهوت والأديار إلى مجموعات دعم أو عيادات من أجل العلاج النفسيّ الاحترافيّ، لأنّ هذه المؤسّسات لها دور آخر في الكنيسة، فهي مُعدَّة لتكون مدارس بالمعنى الكامل للكلمة.

فالكهنة ورعاة الأبرشيّات أو حتّى رؤساء الأديار، لا يقومون، مثلاً، بجراحة قلب مفتوح لأعضاء الرعيّة، ولا يحاولون أن يجبروا كسور عظامهم, كما أنّه لا يتوجّب عليهم أن يقوموا بأدوار أخرى لا تخصّهم. على هؤلاء الرعاة أن يكونوا واعين تماماً أين يمكن أن يقدِّموا المساعدة والتشجيع. وبنفس الوقت، لا بدّ أن يمتلكوا التواضع، لكي يطلبوا المساعدة من أجل أنفسهم عندما يحتاجونها, تماماً كما يحصلون على استشارة طبيّة عند إصابتهم بمرض ما.

فإذا لم يختبر هؤلاء الرعاة هذا الإصغاء الشافي في حياتهم, وإذا لم يمارسوا الصلاة الصامتة أمام الله، ويتعلّموا من الكتب المقدّسة والخدم الكنسيّة، فلن يستطيعوا أن يكونوا معلّمين لغيرهم. وإذ يعترفون بمحدوديّة معرفتهم في هذا المجال، يبادرون إلى استلهام الروح القدس الذي ينيرهم ليتفهّموا، بعمق، صراعاتهم الخاصّة، وصراعات أبنائهم.

إذاً هيّا لنبدأ, نحن من ندعو أنفسنا مسيحيّين، وربّما معلّمين لغيرنا, بالدخول في هذه الشركة الحقيقيّة مع الله إلهنا, لنعرفه بالصمت والصلاة، ونعرف أنفسنا والآخرين وكلّ الخليقة، وندرك وجودنا، كلّنا معاً، في الثالوث القدّوس الذي يخلق ويعزّي ويفتدي كلّ الناس.

 

آدم يتحدّث من خارج الفردوس

 

“ها أنا جالس خارج الفردوس وقد أُغلق الباب خلفي. نعم، هذه هي النتيجة البديهيّة والمنطقيّة لخياراتي الشخصيّة. لقد عرفت معنى الفرح والحرّيّة في الفردوس, ولكنّي لا أستطيع العودة إلى هناك, كما إنّني لا أستطيع الإدّعاء أو التظاهر بأنّ هذا لم يحدث قطّ.

إنّني أعي، تماماً، ما هي الخيارات التي تبنيّتها, ولذلك أدرك، أيضاً، أنّني عالق هنا بكليتي. إنّني أرى، الآن وبوضوح، إلى أيّ حدّ قد خُدعت، وكم كانت الحيّة مضلِّلة لي إذ فتحت عينيّ على خيارات أخرى كانت أمامي في الفردوس. إنّني, إذ أرى النتائج الحاصلة, أدرك، الآن، كم كانت تلك الرؤية مضلِّلة, فما اعتقدت أنّه بديل آخر عما أعطاني إيّاه الله كان مبنيّاً على وهم وكذبة كبيرة.

ولكن ربّما, هنا خارج الفردوس, أستطيع أنا والحيّة أن نعمل بجدّ على تحقيق هذا البديل, إلى أن يأخذ الشكل الذي نريد أن يكون عليه, ألا وهو نمط حياة رغدة أكثرعذوبة من هواء الفردوس العليل.

لقد تعلّمت أنّه علي أن أعمل على ضوء الحقيقة الجديدة للحياة التي خلقتها خياراتي الخاصّة؛ ألا وهي الموت. لم يكن للموت وجود هناك، فكيف كان لي، إذاً، أن أعرف أنّ الصور الجميلة التي زيّنها لي عقلي (عندما تخيّلت أنّ الله كان يخفي عنّي شيئاً رائعاً بالتأكيد) هي صور مضلِّلة, وبخاصّة عندما فكّرت أنّني أستطيع أن أكون إلهاً، أنا أيضاً، وأن أشرّع القوانين مثله؟ كيف كان لي أن أعرف أنّ قوانيني لن تجلب لي إلاّ الموت بدلاً من الحياة التي تمنحنيها شريعته.

لقد وسوس لي فكري بأنّ الله ليس عادلاً!! فأنا أحبّ أن آكل أيّ شيء يبدو لي جيّداً! وبخاصّة عندما يكون هناك من يؤكّد لي أنّه ما من حاجة لإنكار نفسي. أيّ نوع من الآلهة هو هذا الإله الذي يصوغ مثل هذه القوانين بقوله: “إن أكلت من هذه الفاكهة موتا تموت؟” لا أظنّ أنّني أستطيع أن أحبّ إلهاً كهذا بعد الآن.

هو يقول إنّني إذا كنت أحبّه، فعليّ أن أحفظ وصاياه. ولكن، ها هو قد طردني خارج ملكوته, فلماذا عليّ أن أحبّه بعد الآن؟! سوف أنساه هو وقوانينه، وأخلق عالماً خاصّاً بي له حقائقه الخاصّة به. ها هي الأفعى خارج الفردوس معي، وتبدو أنّها واثقة من نفسها تماماً, فإذا كانت هي قادرة على أن تبقى على قيد الحياة، بطريقتها الخاصّة، فأنا، أيضاً، أستطيع ذلك.

وها أنا، مع كلّ غضبي ومرارتي، مضطرّ أن أعمل بجدّ لتدبير حياتي الجديدة، ولأتصارع مع الله على الدوام. ولكن من حسن الحظّ أنّ هناك موتاً, وبهذا لا أعود مضطرّاً على أن أستمرّ على هذا المنوال الى الأبد.

يتوجّب عليّ أن أعمل بجدّ لكي أحرث الأرض، مع أنّ هذا العمل لا يبدو سهلاّ هنا في الخارج. كما أنّني لا أحبّ الطريقة التي باتت الحيوانات تنظر بها إليّ. وكلّ تلك النباتات الجميلة تبدو، الآن، وكأنّها أصبحت غير نافعة. وحين يأتي الموت، ذات يوم، يمكنني أن أستريح من كلّ هذا, وحتّى ذلك الوقت يمكنني أن أستمتع بحياتي حسب قوانيني الخاصّة.

ومع أنّ هذه الحياة تبدو قاسية، إلاّ أنّني إذا فكّرت بها على أنّها مجرّد لعبة، فسأكون بخير. سأحوّل حياتي إلى لعبة حظّ، وأستمتع بخداعها قليلاً. ففي النهاية سوف أموت، فلماذا، إذاً، لا أستمتع بحياتي. أستطيع أن أستمتع بالكثير من الأشياء التي حولي, ليس الأكل فحسب، وإنّما العديد من الأشياء، أيضاً. ومع أنّ شريعة الله تقول إنّ هذا التمتّع سيجلب لي المزيد من الموت والدمار، ولكن، لا بأس، سأفعل ما يحلو لي.

آه, لدي مشكلة هنا. لقد سمعت أنّ الله هو في حالة حرب مستمرّة مع هذه الحيّة. حسناً… إنّه يعلم أنّ الحيّة جالسة معي هنا، خارجاً، تساعدني لأحيك هذه الأفكار. آه, عليه أن يجد طريقة لكي يغادر عالمه المثاليّ، ويجلس هنا معنا أيضاً. ولكن، لا, لا, فليبقَ مكانه إذ سيكون من المزعج جدّاً أن أجده هنا حولي, فأنا والأفعى نحاول أن ننشئ عالماً بديلاً خاصّاً بنا, فعلى الأقلّ يجب أن يسمح لنا باللهو فيه، قليلاً، إلى أن نموت.

لقد طردنا الله من عالمه النقيّ السامي، ولا بدّ أنّه يشعر أنّ ما  فعله كان جيّداً جدّاً، لأنّنا كنّا قد نثرنا الفوضى في عالمه المرتَّب. حسناً, يمكنه، الآن، أن يتركنا وشأننا, فنحن، الآن، بالغون، ويمكننا أن نتّخذ قراراتنا بأنفسنا، ونحيا وفقاً لهذه القرارات، وبالتالي أن نقبل نتائجها. على كلّ حال، فالموت الذي تسبّبنا به ليس سيّئاً إلى هذا الحدّ، إذ إنّنا بواسطته لسنا مضطرّين للعيش في هذه النتائج إلى الأبد.

إنّني أمرّ بوقت عصيب حقّاً مع أنّه لم يمضِ عليّ هنا خارجاً سوى فترة قصيرة، ويوجد معي في هذا العالم الكثير من الناس يعيشون مثلي تماماً. يمكنني أن أرى جيّداً أنّ هذا المكان لا يشبه الفردوس أبداً. ويبدو أنّ قوانيني تواجه العراقيل أينما ذهبت. وكلّ واحد، هنا، يحاول أن يسنّ قوانينه، وقراراته، بحيث نستمرّ جميعاً سائرين في طريق بديل لطريق الله. إنّي لا أحبّ نتائج قرارات هؤلاء الناس, وأنا مستعدّ للموت بسبب قراراتي، ولكن، لماذا عليّ أن أعاني بسبب ما يفعله هؤلاء الناس الأغبياء. حقّاً إنّ هذا ليس عدلاً!!

عليّ، إذاً، أن أكون حريصاً  في اختيار قراراتي، لتأتي أقوى من خيارات الناس الآخرين، فلا يستطيعون، بالتالي، أن يؤذ     وني. يمكنني، ببساطة، أن أتجاهلهم وأبتعد عنهم، أو أن أجد طرقاً أخرى للتخلّص منهم إذا لم يتبعوا طرقي الخاصّة. أليس هذا ما فعله الله نفسه معي؟؟ حتّى إنّه يمكنني أن أقتلهم إذا لم يكن هناك طريقة أخرى.

في الليلة الثانية، لوجودي خارج الفردوس، حلمت حلماً خرج فيه الله إلينا، إلى ههنا، بطريقة لم أكن أتصورها قطّ, إذ اتّخذ بشريتي نفسها, تلك التي أعطاني إيّاها, وذلك من إحدى حفيداتي. لقد بدا الله، في الحلم، وكأنّ عليه أن يعيش هنا، في هذا المكان، كما أفعل أنا, وأن يواجه نتائج خيارات كلّ منّا, وحتّى إنّه كان معرَّضاً لأن تلعب الحيّة أيضاً بأفكاره.

لقد كان بإمكانه أن يكوِّن جسده الخاصّ كما يريد، كونه يعرف سرّ تركيب الجسد, كما كان قادراً أن يتحكّم بكلّ منّا، ويجبرنا أن نعيش وفقاً لقوانينه هو، بما أنّه قادر على ذلك.

لكنّه فعل شيئاً غريباً للغاية, في الحلم  طبعا. إنه لم يحاول حتّى أن ينافسنا في لعبتنا, بل اتّخذ أكثر شكل قابل للعطب على الإطلاق، وبدلاً من أن يتجنّبنا، أو على الأقلّ أن يتّخذ بعض الخطوط الدفاعيّة لكي لا نكون قادرين حتّى على لمسه، قضى كلّ وقته معنا، محاولا أن يكون قريباً منّا على قدر المتاح. لقد ظلّ يتحدّث عن الحبّ، وعن كلّ المشاعر المعاكسة لشعوري أي الغضب والمرارة. ظلّ يردّد أنّ الغفران هو المفتاح لدخول الفردوس, ولقد بدا أنّه يعني هذا الكلام حقّاً.

لقد علمت أنّه “هو”، لأنّه لمرّة واحدة، في الحلم، نزع الحجاب، وشعّ منه ذلك النور البهيّ الفردوسيّ عندما كان على الجبل مع بعض تلاميذه. وكانت تلك هي اللّحظة الوحيدة التي بدا فيها مختلفاً عنّا.

إلاّ أنّ حلمي بدأ يتحوّل إلى كابوس في نهايته، فلقد كان قادراً أن يعمل كلّ الأشياء التي كنت أفعلها لكي لا أسمح لهذه الحياة أن تكون جدّيّة, ولقد كان قادراً أن يحوّلها إلى لعبة. لكنّه بدلاً من ذلك، دفعنا إلى إخراج أسوأ ما فينا، وبالحقيقة، أجبرنا على أن نكون لئيمين وقاسين وساخطين إلى أقصى درجة. لقد انتزع منّا الجوّ اللّطيف الذي كنّا قد خلقناه حولنا هنا، لنعوّض عن صلاحه الفائق النقاء، وجماله الذي تركناه خلفنا في الفردوس. ولذلك, فقد فعلنا الشيء الوحيد الذي كان بإمكاننا فعله، لنحافظ على عالمنا مستمرّاً, لقد قتلناه… على كلّ حال، فإنّه “هو” من سنّ ذلك القانون بخصوص الموت!!

لكنّ الجزء الأخير من حلمي هو الذي ما زال يزعجني باستمرار. كان من المفترض أن يُنهي الموت القصّة بالنسبة لنا وله, لكن ذلك لم يحدث. لقد بدا أنّنا استطعنا قتل جسده، لكنّنا لم نستطع قتله “هو”. لقد عاد, عاد حتّى بالجسد الذي قتلناه به, وكان له نفس المجد الفردوسيّ الذي ظهر للحظات قليلة على الجبل.

وعندها سمعت, في حلمي, أنّه كوننا لم نستطع قتله، فإنّ الموت لن يكون المحطّة النهائيّة بالنسبة لنا بما أنّنا نماثله في كلّ النواحي ماعدا صلاحه وحبّه. والأسوأ أنّني سأعيش منذ الآن وفقا لمعاييره، هو، مرّة أخرى، ولن أكون قادراً على متابعة اللّهو والتسلية. لقد ولّى زمن المرح.

عندما استيقظت من حلمي أتت الحيّة، في الحال، لتؤكّد لي أنّه لم يكن حقيقيّاً, فحتّى لو حدث مثل ذلك الأمر، فما نزال نملك خياراتنا. يمكنني أن أحافظ على شعوري بالمرارة, ويمكنني أن أستمرّ في تجنّب الله حتّى لو أتى إليّ ليريني كم يحبّني ويفهمني ذلك كونه عاش هنا بنفسه. يمكنني أن أستمرّ بتفضيل تسليتي وقوانيني الخاصّة. كما أشارت الحية إلى أنّها هي نفسها ستفعل ذلك، وأنّه يمكنني أن أنضمّ إليه إن أردت. إذاً، ستبقى لدينا حياتنا وخياراتنا البديلة إلى الأبد، تماماً، كما هي الحال هنا الآن. المشكلة، فقط، إنّه لن يكون هناك موت لينهيها.

لكنّ الأمر سيصبح أسوأ، وسيبقى هكذا الى الأبد, فكلّ منّا سوف يسنّ قوانينه الخاصّة، ولن يكون هناك أحد يطيع قوانين الآخر. سوف نقضي كلّ وقتنا ونحن نحاول تدمير أحلام الآخرين وإبداعاتهم. وسيكون ذلك هو الجحيم حقّاً.

سيكون صعباً عليّ جدّاً الابتعاد عن هذه الأفعى!! ترى، ماذا سيحدث لو أنّي حاولت أن أمشي بحسب طريقة هذا الإله, الذي أصبح له اسم، الآن، إذ سمح لي أن أدعوه يسوع في الحلم؟!. ماذا لو تعلّمت أن أحبّ وأغفر؟! ماذا لو أنّني حرمت نفسي بعضاً من تلك الخيارات التي ماكنت لأتّخذها لو كنت ما زلت في الفردوس؟!

لا, سيكون ذلك صعباً جدّاً جدّاً، وسأكون بلا حول ولا قوّة كما كان هو هنا أثناء صلبه. يا للنبل!! عندما أضحّي بحياتي وأحلامي وكلّ خططي، في سبيل مساعدة شخص آخر! أن أتعلّم بأن أحبّ شخصاً آخر، أيّ شخص على الإطلاق، لدرجة أن أقوم بتلك التضحية!! لا أن أختار، وأنتقي، من هو مستحقّ لتضحيتي إذ سبق هو واعتبر كل إنسان مستحقِّا، مضحىً عن الجميع.

إنّ الأمر مغرٍ حقّاً! فلقد قال “هو” إنّه سوف يعطيني حياته نفسها، لكي تكون لي القوّة والحبّ والسلطة، لأفعل هذه الأشياء بطريقته هو.

عليّ أن أفكّر بهذا. عليّ، الآن، أن أتّخذ قراراً. ولكن… إنّني لست متأكّداً تماماً أيّ طريق أريد حقّاً أن أسلكه!

ألا يمكن أن يكون صراع آدم هذا صراعك أنت بالذات؟

وأي طريق تريد أن تسلك؟ الطريق الواسع الذي يؤدّي إلى الهلاك،أم الضيّق الذي يفضي إلى الحياة؟

 

 

 


[1] تنتشر في الولايات المتّحدة الأميركيّة مجموعات تضمّ أشخاصاً يعانون من مشاكل عائليّة واجتماعيّة، فيتبادلون الخبرات، ويسندون بعضهم البعض في مجابهة الحياة. من أمثال هؤلاء، مجموعات تضمّ أشخاصاً متزوّجين من أناس مدمنين على الخمر أو على كثرة الأكل أو… أو… (المعرب)

Leave a comment