مختارات من كتاب البوق الإنجيلي

مختارات من كتاب البوق الإنجيلي

إعداد راهبات دير مار يعقوب – دده، الكورة

تشبيه الكنيسة بالسّفينة

… مثَلُ الكنيسة مثَلُ سفينة إلهيّة. أمّا بحّارتها فهم الرّسل القدّيسون. وأمّا أسلحتها فالأسرار الطّاهرة. وأمّا جنودها وعساكرها فالمسيحيّون الصّادقون. وأمّا قلوعها فالفضائل الشّريفة. وأمّا الرّيح التي تسوقها إلى الميناء الهادئ الصّالح فالرّوح القدس نفسه الذي يصونها على الدّوام، ويوصلها إلى الميناء بسلامة كما يؤكّد ذلك داوود النّبي بقوله: (روحك الصّالح يهديني في أرض مستقيمة: مز10:142). وأمّا صاريتها فصليب المسيح المخلِّص، لأنّ علامة الصّليب وسلطته تعظم وترتقي متسامية إلى السّماء كما أنّ الصارية ترتفع في الهواء.

تمثال الموت

لمّا كان الأقدمون متوجّعين من وفرة المضض الطّارئ عليهم، والضّرر اللاحق بهم من حدّة منجل الموت المحزن والحاصد الطّبيعة البشريّة، راموا أن يُفهموا اللاحقين من أعقابهم شدّة قساوة الموت الذي لا شفقة ولا رحمة عنده، وقوّة فتكه الذي لا خجل فيه ولا احتشام، وشدّة بطشه بحركة مستمرّة لا انثناء لها ولا انعطاف.

ولمّا عزموا على هذا الأمر، اجتنبوا شرحه بالكلام، وتحوّلوا إلى الصّور التي تحرّك الحواس وتقنعها، وتيسّر لها الوقوف على حقائق الأمور وكنهها أكثر من شرحها بالكلام. لذلك صوّروا بغاية الإتقان على عمود عالٍ جدّاً رجلاً شجاعاً مترجّلاً، تظهر عليه علائم البأس، متّشحاً بملابس حالكة السّواد مهيّجة للبكاء والاكتئاب، ويحجبون عيني ذلك الرّجل بستر غليظ من قماش ثخين، ويجعلون على رأسه إكليلاً مضفوراً من حشيش الإفسنتين، ويسدّون أذنيه من كلّ ناحية بالرّصاص، ولم يضعوا في رجليه حذاء بل أجنحة كأجنحة جوارح الطّيور.
يا لها من صورة محكمة غاية الإحكام، وكافية لتظهر لكلّ أحد الموت رجلاً شابّاً في عنفوان الشّباب لا شيخاً عاجزاً، ليعرف كلّ واحد عِظَم قوّة الموت وشدّة بأسه، وأنّه لا يكلّ ولا يملّ، فهو منذ مخالفة آدم إلى اليوم مالك على الأجساد ببطش وسطوة، ومستولٍ عليها بنشاط وهمّة بدون عجز ولا توانٍ.
لقد صوّروه بملابس سوداء مهيِّجة للحزن والبكاء، لا بملابس بهيّة فاخرة، ليعرف كلّ واحد ما يجلب الموت من البكاء والعبرات والتّحسر والتّنهّدات على البيت الذي يدخله أيّاً كان.
ثم جعلوا في يده الواحدة قوساً، وفي الأخرى منجلاً ليتّضح أنّه يضرب الكلّ بلا استثناء. أمّا الذين هم بعد في سنّ الصّبا والشّباب، فيرشقهم بالقوس ويتناولهم بالسّهام من بعيد. وأمّا الذين قضوا مدّة حياتهم في هذا العالم وبلغوا إلى سنّ الشّيخوخة، فيحصدهم بالمنجل عن قريب.
ثم صوّروه بعينين مغمَّضتين ومحجوبتين بالسّتر الغليظ ليدلّوا على أنّ الموت لا ينظر إلى أكاليل الملوك النّفيسة ولا إلى تيجان البطاركة الثّمينة. وأشاروا بالإكليل المضفور من حشيش الإسفنتين الموضوع على رأسه إلى أنّ الموت مرّ جدّاً عند من يتذكّره ويتفطّن به بعقله. وأشدّ مرارة عند من ينظره تجاه عينيه. وأشدّ كراهية عند من يذوقه بفمه ويختبر طعمه.
وجعلوا رجليه بلا أحذية بل أجنحة كأجنحة الطّيور ليدلّوا على أنّه يداهم الإنسان في وقت لا ينتظره، ويثب من مشارق الأرض إلى المغارب في دقيقة واحدة، ويطوف جميع أنحائها في لحظة واحدة كالبرق.
وجعلوا أذنيه مسدودتين بالرّصاص لا بالشّمع ليشيروا إلى أنّه لا يسمع الزّفرات والتّنهّدات، ولا يقبل الشّفاعة والتّوسلات، ولا يرهب التّهديد والتّخويف.
ثمّ صوّر هؤلاء الحكماء الموت دقيق البطن للغاية بلا قلب ولا أحشاء، ليوضّحوا بذلك أنّه عاتٍ قاسٍ لا شفقة عنده ولا رحمة. لا تحرّك جوانحه زهرة الصّبا وعنفوان الشّباب، ولا تمرمر الأيتام وأحزان الأرامل ولا وقار الشّيخوخة. ولا تهيّج فيه حاسّة الشّفقة والحنو.
فيا لها من صورة بديعة، ويا لها من طريقة ظريفة توضح لنا ماهية الموت، وكيفيّة طباعه الشّديدة مرارتها والعظيمة كراهيّتها.
والآن، ما رأيك يا أخي؟ هل أنت مستعدّ لملاقاة الموت؟ إلامَ تنتظر؟

لماذا سأل الرّبّ عن موضع دفن لعازر؟

… سأل الرّبّ هذا السّؤال: (أين وضعتموه؟) لا لأنّه جاهل ذلك، بل إنّما كان سؤاله لثلاثة أسباب: أولاً لنعرف أنّه تعالى لم يكن علة للموت، لأنّ الله عزّ وجلّ لم يصنع موتاً بل الخطيئة سبّبت ذلك. ثانياً: سأل هذا السّؤال كما تقتضي الطّبيعة البشريّة بما أنّه تعالى كان إنساناً تامّاً. ثالثاً سأل ( كما يقول القدّيس أثناسيوس الكبير) لكي يوضح بالسّؤال عِظَم مصيبة الإنسان. ولذلك سأل آدم بعد المخالفة قائلاً: (آدم، آدم أين أنت: تك9:3). وكذلك سأل قاين بعد فتكه بأخيه هابيل قائلاً: (أين هابيل أخوك: تك9:4). وكذلك سأل العبرانيّين بعد صنعهم العجل قائلاً: (أين آلهتكم الذين توكّلتم عليهم: تث37:12). وكذلك سأل الرّسل بعد جبنهم وصغر نفوسهم قائلاً: (أين إيمانكم؟ لو25:8). الأمر نفسه فعله هنا يسوع بسؤاله عن لعازر قائلاً: ( أين وضعتموه؟).

إنّ هذا السّؤال يسأله المسيح له المجد للخطأة كلّ يوم، ومالي أقول كلّ يوم ولا أقول كلّ دقيقة بل كلّ لحظة، يسأل بلسان الضّمير قائلاً:
أيّها الشّباب والأحداث أين وضعتم نفوسكم؟ أين وضعتم صورتي؟ أين وضعتم عروستي (الكنيسة)؟ أفي حمأة الزّنى الرّجسة؟ أفي نجاسة الفسق؟ أفي لحد النّهم والسّكر؟ أفي قبر الحنجرة والشّراهة؟
أيّها المحبّو الفضّة البخلاء، أين وضعتم قلوبكم؟ أفي رمس الاستكثار وحشد الأموال؟ أفي قبر الجور والظلم؟ أفي لحد الخطف والنّهب؟
أيّها الحقودون، أين وضعتم ضمائركم وأفئدتكم؟ أفي قبر الوشاية والسّعاية؟ أفي لحد الإساءة والضّرر؟ أفي قبر القتل والعداوة؟
أيّتها النّساء الجاهلات المسترخيات، أين وضعتنّ قلوبكنّ؟ أفي أيدي إبليس المحال؟ أفي أيدي السّحرة والمنجّمين؟ أفي التّزيّن بالحلى والحلل؟ أفي تحسين الوجوه وطليها بالألوان والأدهان وبقيّة الآلات الشّيطانيّة؟
أيّها الكهنة وباقي خدّامي، أين وضعتم عقولكم وقلوبكم؟ أفي سبيل اتباع نواميسي وشرائعي، أم في اتباع عادات العالم الجارية؟ أفي التّصرف بإرادتي وهواي أم في هوى بشرتكم؟ أتضحّون جسدي ودمي لإجلالي وتمجيدي أم لأجل فائدتكم ونفعكم؟ أأنتم جاعلون تذكار آلامي سبباً للخلاص أم طريقة وأسلوباً لاكتساب المجد والإكرام والرّبح الجسدي؟
فتجيبه مرتا نيابة عنّا قائلة: ” أيّها العارف ما في القلوب تعال وانظر. حقاً إنّك ستبكي على شقاوتنا وحالنا التّعيسة (لأنّنا كلّنا قد فسدنا، وليس من يعمل صلاحاً كلا ولا واحد: مز 3:13). فدمّع يسوع.
إنّ كلّ حياة يسوع التي عاشها بالجسد كانت مفعمَة من الآلام والأحزان ومع ذلك لم يُكتب عنه أنّه بكى إلا ثلاث مرّات: أولاً عند نظره قبر صديقه لعازر. وثانياً عندما أبصر أورشليم عن بُعد (ولمّا رأى المدينة بكى عليها: لو41:19). وثالثاً عندما كان على الصّليب (إنّه في أيّام بشريّته قرّب طلبات وتوسّلات إلى القادر أن يخلّصه من الموت مع صراخ قوي وعبرات: عب 7:5).
فالدّموع الأولى كانت نتيجة تحنن وإشفاق. والثّانية عن توجّع وترثٍّ. والثّالثة عن محبّة ومودّة.
والآن يدمع أيضاً يسوع. فما هي هذه الدّموع يا ترى؟ سل نفسك يا أخي وأجب نفسك بنفسك، لعلّك أنت واحد من الذين يجعلون يسوع يبكي…..

خاتم المحبّة الإلهيّة

من اللازم أن تتأكّد يا أخي أن خاتم المحبّة الإلهيّة، والعلامة الحقيقيّة للمودّة الرّبانيّة للبشر، ليس الثّروة (لأنّ هذه كثيراً ما تخون صاحبها ولا تصدق مع مالكها). ولا الجّاه (لأنّه كائن تحت المعاطب والأخطار ولا يُحصَّل إلا بالتّعب والنّصب، ومع ذلك فهو عديم الثّبات والدّوام). ولا الحياة الكثيرة السّنين (لأنّ ألف سنة في عيني الله كيوم أمس الذي عبر: مز 4:89). بل العلامة الصّادقة الدّالّة على المحبّة الإلهيّة الموجودة بين الجابل والمجبول والخالق والمخلوق، إنّما هي الأحزان والأمراض المختلفة والميتات وغير ذلك ممّا يبدو لقليلي الإيمان أمراً مرّاً موجِعاً ومحزناً. والشّاهد الذي يشهد بصحّة ذلك ليس أحد الأنبياء أو الرّسل القدّيسين أو رؤساء الآباء الأقدمين، بل كلّ محافل الأنبياء وجماهير الشّهداء ومواكب النّسّاك وطغمات الصّدّيقين، يشهدون وينادون به بأفواههم الطّاهرة وسيرتهم البارّة. وهاك دليلاً أيّوب الصّدّيق الكثير المصائب، ودانيال النّبي الذي أُلقي في الجبّ لتفترسه الأسود الضّارية، وأشعياء النّبي الذي نُشر بالمنشار، وإرميا النّبي الذي رُجم بالحجارة… وهاك في العهد الجديد الرّسل الذين كانوا فقراء مساكين مطرودين مضطَّهدين، والشّهداء التي كانت دماؤهم تجري كالأنهار….

وبالاختصار نقول إنّ المصائب والأحزان هي خاصّة ومزيّة المسيحي الصّادق. فالرّسول بولس يقول: (إنّنا بأحزان كثيرة يجب أن ندخل ملكوت الله: أع 22:14).
وإذا سألت عن السّبب الموجب لذلك، أي لماذا يكون لأصدقاء الله في هذا العالم أحزان وتجارب وأمراض..؟ نجيب: إنّ بولس الرّسول أوضح ذلك بقوله: (إنّه بمقدار ما يبلى الإنسان الخارجي يتجدّد الإنسان الدّاخلي: 2كو 16:4). والآباء المتكلّمون باللاهوت يذكرون لذلك سبباً آخر وهو أنّ الإنسان إذا ما جلده الله تعالى بسياط المحن والتّجارب، اتّضحت محبّته الصّافية نحو جلاله تعالى. لا عندما يلاطفه بخصب السّعادة، ويداويه برغد العيشة السّارّة. وكذلك الربّان الخبير الماهر إذا ما تعالت على سفينته الأمواج الهادرة المتلاطمة، وهبّت عليه الزّوابع والرّياح عُرفت حذاقته وظهرت مهارته. وكذلك الجندي إذا ما اشتدّت المعركة والتحم القتال اتّضحت رجوليّته وبانت شجاعته لا في حين الصّلح والسّلام.
إذن، لا تضعف ولا تجزع يا أخي إذا ما أحاقت بك النّوائب، بل اجزل وافرح لأن الله يلحظك بعنايته ومحبّته ويجزيك بإكليل الفخر والعدل متى صبرت وشكرت…

Leave a comment