المعنى الأعمق لعيد الميلاد

المعنى الأعمق لعيد الميلاد

المتروبوليت أثناسيوس مطران ليماسول

نقلتها إلى العربية الخورية جولي عطية عيسى

كلَّما وَقفنا أمام الربِّ في الصَّلاة أو في عيدٍ كنسيٍّ لحدثٍ مِن حياةِ المسيح، أو كلَّما اختبرْنا حضورَ الرَّبِّ بطريقةٍ أخرى، يحدثُ أمران تَشهدُ عليهما الكنيسةُ وخبرةُ القدِّيسين: أوّلاً نشعرُ بالفرحِ لأنَّنا نختبرُ فيضَ مَحبَّةِ الربِّ للإنسان. ويحرِّكُ الربُّ قلوبَنا نحو شكرٍ عَظيمٍ، إذ إنِّنا نختبرُ – استنادًا إلى حالتنا الرُّوحيَّة – هِبَتَهُ العظيمةَ لنا.

ثانيًا، بمُثولنا أمام الربِّ، نَقِفُ أيضًا أمامَ دينونةٍ ناقدةٍ لأفعالنا، وهي تُؤدِّي إلى خَلاصِنا، بِخاصَّةٍ إذا ما تمَّتْ خِلال الأعيادِ الكبيرةِ الَّتي نُعيِّدُ فيها لأحداثٍ مِن حَياةِ المَسيح، إذ إنَّ كلَّ حدثٍ في حياتِه يَحثُّنا على تبنِّي مَوقفٍ ناقدٍ تجاهَ أنفُسنا لا يؤدِّي إلى إدانتِنا بَل إلى إعتاقِنا.

إذًا، نحن نُعيِّدُ لتَجَسُّدِ ربِّنا لكي نختبرَ مَحبَّتهُ العظيمةَ لنا مِن جِهة، ونشعرَ بالشُّكرِ العظيمِ مِن أجلِ كلِّ ما وَهَبَنا مِن أشياءَ رائعةٍ من جِهةٍ أخرى. إضافةً إلى ذلك، هذا ينفعُنا عمليًّا لأنّهُ يمنحُنا الفرصةَ لأن ندينَ حياتَنا، على حدِّ قولِ بولس الرَّسول إنَّ الرَّبَّ لن يدينَنا إذا دنَّا نحنُ أنفسَنا. إذا انتقدْنا أسلوبَ حياتنا، لن نُدانَ في الحياةِ الأخرى لأنَّ الدَّينونةَ قَد تمَّتْ في هَذا العالم.

بكلامٍ آخَر، إذ إنَّ عيدَ الربِّ أمامَنا الآن، لدينا الفرصة لأن نقارنَ حياتَنا، بنقدٍ، بكلِّ ما أتمَّهُ الله مِن أجلِ خلاصنا، لأنّنا نعلمُ تمامًا أنَّهُ لم يتركْ أيَّ أمرٍ للصُّدفة، بل قادَ كلَّ شَيءٍ كونَه سيِّدَ التاريخ. هوَ الَّذي أرادَ أن تتمَّ الأحداثُ كما حصلتْ، حتّى بأصغرِ تفاصيلها. هُوَ الَّذي رَغِبَ في أن يولدَ في السَّنةِ المحدَّدة والمكانِ المحدَّد، مع ما يرافقهما من عناصر أخرى تشكِّلُ حدثَ تجسُّده العظيم.

اعتادَ القدِّيسون كلُّهم على أن يقارنوا بأسلوبٍ ناقدٍ أحداثًا معيَّنةً مِن حياتِهم بحياةِ المَسيح، وأن يدينوا أنفسَهُم. نؤمنُ بأنَّ المسيحيَّ هوَ الَّذي يحاكي حياةَ المسيحِ إلى أكثر حدٍّ إنسانيٍّ مُمكن. ثمَّ يَسدُّ كلَّ نقصٍ عبرَ التَّوبة والتَّواضع. وهذا يُشكِّل عملَه الرُّوحيَّ الدَّاخليَّ.

في أعيادٍ كهذه، تُواصِلُ كنيستُنا تمجيدَ الرَّبِّ بِتراتيلَ بديعةٍ من أجل تنازلِه العَظيمِ نَحوَ الإنسان، فيما تغوصُ في المَعنى اللاهوتيِّ الأعمقِ لتجسُّده. لقد اختبرَ الشُّيوخُ القدّيسون والعلمانيُّون الأتقياء المعنى الأعمقَ لهذا الحدثِ على نَحوٍ مُميَّز. حينَ عادَ الشيخ أفرام كاتوناكيا من رحلةٍ إلى أورشليم، تَوَقَّعْنا أن يكونَ مَبهورًا بخبرةِ الجلجلة والصَّلب، ولكنَّهُ كانَ مأخوذًا بمغارةِ الميلاد في بيتَ لحم. وقفَ أمامَ هذا الحدثِ قائلاً: “لقد كنتُ أظنُّ أنّني مُهِمًّا حينَ كنتُ أعيشُ في منسكي في كاتوناكيا، بين ممتلكاتي الضَّئيلة، ولكنَّني حينَ رأيتُ مكانَ ولادةِ المسيح، انسحقتُ فعلاً بالرُّوح“.

إنَّ المسيحَ، بِوِلادتِهِ في مغارةٍ، واضطهادِه وازدرائِه من النَّاس كلِّهم، أتمَّ الحدثَ الأعظمَ في تاريخِ الإنسان: تجسُّده. لقد صارَ الله إنسانًا بِصَمتٍ وتواضعٍ واحتجابٍ تامِّين. لم يعلمْ أحدٌ، عدا عن بعضِ الرُّعاةِ والحُكَماءِ مِن بلادِ فارِس، ما كان يحصُلُ في تلك اللَّيلة. حصلَ الحدثُ في فِقرٍ واتِّضاعٍ مُطلقَين. لذلك، كلَّما أزعَجَتْنا مطالبٌ ورغباتٌ متنوّعةٌ، يجبُ أن نضعَ أنفسَنا أمام مغارةِ الميلاد، ونقفَ أمام تجسُّدِ الكلمة، ونُوازنَ بين أفعالنا وما صنعَهُ الربُّ في تلكَ اللَّيلة، فَنَدينَ أفعالَنا بهذه الطريقة. وبهذا الأسلوبِ عينه، علينا أن نفحصَ أيضًا حياتَنا كلَّها.

مذ صارَ الله إنسانًا ورتَّلتِ الملائكةُ على الأرضِ السلام، كان كلمةُ الله يقولُ لنا: “لم آتِ لألقيَ سلامًا بل سيفًا“. لماذا ألقى الربُّ سيفًا بينما كانتِ الملائكةُ تُرتِّلُ عن السَّلام؟ المسيحُ هو السَّلامُ الذي أتى إلى العالم وصارَ إنسانًا لنستطيع أن نحبَّه. أظهرَ لنا أنَّ علاقتنا مع الربِّ ليسَتْ علاقةً قائمةً على إيديولوجيا ما، إذ إنَّهُ يستحيلُ على أحدٍ أن يحبَّ فكرةً. قد يتمسَّك أحدُهم بإيديولوجيا فلسفيَّةٍ معيَّنة، ولكنّه لن يستطيع أن يحبَّها، لأنّها لن تبادلَه محبَّته.

في حياةِ الكنيسةِ يحصُلُ العكس. لَسنا مُرتبطينَ بأيَّةِ إيديولوجيا فلسفيَّة، وكلمةُ الله لم يَصِرْ فكرةً كهذه. الكلمةُ صار جسدًا. تجسَّدَ كلمةُ الله لنستطيعَ أن نحبَّه. وحالما نباشر بمحبَّته، سنفهَم أنَّهُ هو الذي أحبَّنا أوّلاً على نحوٍ لا يمكنُ إدراكه. يقولُ الرَّسول بولس إنَّنا نحبُّه لأنّهُ أحبَّنا أوّلاً“. هذا هو السرُّ الذي يحدُثُ في الكنيسة. ولهذا السَّببِ، صارَ المسيح، بكونه سلامَ العالم، مدعاةَ محبَّةٍ لا مدعاةَ إيمان. ينبغي أن يتجاوزَ الإنسانُ الإيمانَ والرَّجاءَ لكي يمكثَ في المحبَّة. بحسبِ بولس الرَّسول، سيَزولُ الرَّجاءُ والإيمانُ ووحدَها تبقى المحبَّة، لأنَّها واقعٌ اختباريٌّ، وحدثٌ وجوديٌّ يُدرِكُ فيه الإنسانُ أنّهُ حقًّا مُتَّحدٌ بالله. هذا هوَ السبيلُ الَّذي سَلكَهُ جميعُ الَّذينَ أحبُّوه حتَّى المُنتهى.

لقد ختمَ استفانوس أوَّلُ الشهداءِ محبَّتهُ للرَّبِّ بمُماثلتِه. في أعمال الرُّسل، يُذكَرُ أنّه حينَ اعتُقلَ بسببِ تبشيرِه بالمسيح، وفي أثناءِ مُحاكمتِه، أضاءَ وجهُه مثلَ وجهِ ملاكٍ. أدانوهُ بالموتِ رَجمًا كما لَو كان أعظمَ الخطأةِ، لأنّ شريعةَ موسى نصَّتْ على ذلك. إلاَّ أنَّ استفانوس كان يُصلِّي لا لنفسِه بَل مِن أجلِ العالَم أجمَع، رَغمَ شِدَّتِه المُخيفة. ولذلك، فهوَ قد ماثلَ المسيحَ الَّذي كانَ يُصلِّي لصَالبيهِ في أثناءِ موتِه على الصَّليب.

إذًا، مُذ أتى المسيحُ إلى العالمِ جالبًا مَعَهُ السَّلام، قدَّمَ ملايينُ الشُّهداء حياتَهم لإيمانِهم به، ولأنّهُم أحبُّوهُ بحقٍّ وذاقوا محبَّته. لقد تكلَّمَت محبّة المسيحِ في قلوبِهم.

حينَ نحتفلُ بأعيادِ بعضِ القدِّيسين والشُّهداء، لا نحتفلُ فقط بأحداثٍ مُحدَّدةٍ مِن حياتِهم. إنَّنا نحتفلُ بالأيَّامِ الَّتي أدانوا فيها أنفسَهُم بأنفسِهِم. لقد سبقَ أن فحصوا أنفسَهم بنَقدٍ انسجامًا مَع حياة الرَّبّ. لم يستخفُّوا بهذهِ الأيَّام. توغَّلوا بمَعنى حياتِهم الحقيقيّ، فاحصين بِدِقَّةٍ أفعالَهم ودائنين إيَّاها. فكَّروا مِن جِهةٍ في المسيح في مِذوَدِه، باتِّضاعِهِ واستتارِه، بصمتِه وفقرِه، بِنَبذِ النَّاسِ لَهُ وبُؤسِهِ، ومِن جهةٍ أُخرى، قارَنوا ذَلكَ بأفعالِهِم، وفَحَصُوها بِدِقَّة.

لقد أظهرَ الرَّبُّ، من خلالِ حياةِ الرُّسلِ والقدِّيسين كلِّهم، أنَّهُ لا يمكنُ للرُّوحِ القُدس أن يَكون ساكنًا فينا ما لَم نَحملْ ثَمرَه. وشدَّدَ بوُضوحٍ على أنَّ ثمارَ الرُّوح القُدس هِيَ محبَّة، فرح، سلام، طول أناة، لُطف، صَلاح، إيمان، وَداعة، تَعفُّف“. إذًا، علينا أن نَسعى نحو اقتناءِ هَذهِ الثِّمار في داخلنا، والَّتي تدلُّ على حُضورِ الرُّوح القُدس. وبعدَها، يُمكننا أن نقوِّمَ حالتَنا الرُّوحيَّة. هذا التَّقويم الناقدُ ضَروريٌّ ومُنقِذٌ. إذا باشرنا في هذا التَّمرين خلالَ هذا الموسمِ الاحتفاليّ، سيكونُ حقًّا مُنقِذًا لنا لأنَّه سيَلِدُ جِهادَ التَّوبة والاتِّضاع، وسيُغيِّر طُرُقَنا.

في الوقتِ عينِه، سيقودُنا إلى أن نطلبَ رحمةَ الرَّبِّ بأسلوبٍ مُحبٍّ. حالما ندرك أنَّنا حقًّا أناسٌ عائشون في الظُّلمة، سنصرخ نحنُ أيضًا: “أينَ سيشرقُ نورُكَ يا ربُّ سوى على الَّذينَ يعيشون في الظَّلام؟حالما ندرك أنَّنا نحيا في الظَّلام، سنبحث فورًا عن النُّور. إلاَّ أنَّنا، إذا ظننَّا أنّنا نحيا في النُّور، فحينها لن نرى النُّورَ الحقيقيَّ أبدًا، لأنّنا نملك فقط النُّورَ الَّذي بوسعنا أن نَراه.