المحبة أولى ثمار الروح

من كتاب ثمار الروح – الفصل الثاني
كالينيكوس مطران بيريا
نقلته عن اليونانية: ماريّــا قبارة

المحبة، أولى ثمار الروح

 

ثمرة المحبة

إنّ ما يجدّد الإنسان روحياً أولاً المحبة كمال الفضائل. فهي زهرة النُبل لنفس الإنسان. إنّها الفضيلة التي تجعله يماثل الله لأنّ “الله محبة” (1يو8:4). المحبة عذوبة حياة الإنسان، وبلسم المأساة الدنيوية ودواء القلب الموجوع.
إنّها الوسيلة لجعل ميل الشخص إنسانيّ. فهي سلاح السلام الذي يجتثّ كلّ أمر صعب. هي الطريقة الفريدة التي تجعل الأمر ميسّراً فيكون الأفراد متوافقين منسجمين بها. المحبة هي الدواء الشافي الذي يجففّ دموعنا، ويحلّي بالنعمة نفوسنا، ويهدّئ قلوبنا ويؤنس مزاجنا الموحش.
تملأ المحبة بالنعمة نفوسنا العالمية وتحولّ أرضنا إلى قطعة فردوسيّة. فما هو الفردوس إن لم يكن بشركة المحبة؟ فعندما تقدّم المحبة تشعر بلذّة روحيّة لا توصف، وإن تلقى محبة من قريبك فأنت تتذوّق بلسمها. فالإنسان دوماً رابح بإعطائه المحبة أو تلقيه إيّاها. فإن أحببت، تلين نفسك، وإن أحبوك تهدأ روحك وتسكن. فالمحبة تضفي في داخلك شعوراً من السعادة والراحة، فهي التربة التي تنمو بانتظام. وهي الفضيلة التي تجمّل حياتنا. فمن دون المحبة نختنق ونغرق، ونصير عصبيي المزاج وكثيريّ الظنون. فالنفس التي لا تحبّ فقيرة جدباء، يابسة وعاقرة، موحشة وغريبة عن “الله المحبة”.
المحبة أعظم فضيلة للحياة، وهدية خالقنا الثمينة. إنّها الثمرة الأولى التي تنمو في النفس ويندّيها نسيم الروح القدس. “إذا أحبّ بعضكم بعضاً، عرف الناس جميعاً أنّكم تلاميذي” (يو35:13). إنّ المعرفة الحقيقية ونهضة نفوسنا لا تكون إلاّ بالمحبة “لأنّ المحبة من الله وكلّ محبّ مولود لله وعارف بالله”، “فلنحبّ بعضنا بعضاً” (1يو7:4).
لهذا يجب على المؤمن أن يحاول اقتناء فضيلة المحبة. “اسعوا إلى المحبة” (1كور1:14). وتثمر كلّ أموره وتتأتى بختم المحبة. “لتكن أموركم كلّها بمحبّة” (1كور14:16). فلنعش بمزيد من المحبة التي هي الحلقة التي تشدّ وتربط كلّ الفضائل بجملتها برزمة واحدة. “البسوا فوق ذلك كلّه ثوب المحبة فإنّها رباط الكمال” (كول14:3).
يقول القدّيس باسيليوس الكبير إنّ: “الثمرة الأولى الفضلى للروح القدس…….هي المحبة”. فيضع القديس بولس الرسول بحسب القديس باسيليوس الكبير المحبة أساساً لسلّم الثمار الروحية.

محبّة الله

محبة الله أولاً

يجب أن توجّه محبتنا أولاً إلى الله الذي هو نبع كلّ كمال “أحبب الربّ إلهك”(تث20:11). إلى الله الذي تنبع من لدنه كلّ محبة “لأنّ المحبة من الله” (1يو7:4). إلى الله لأنّه أبانا، أبانا السماوي الذي أحبّنا منذ الدهور “ومحبة أبدية أحببتك” (إرميا3:31). “فإنّنا نحبّ لأنّه أحبّنا قبل أن نحبّه” (1يو19:4). الذي اقتبل أن يعتبرنا أبناءه “انظروا أي محبّة خصّنا بها الآب لندعى أبناء الله” (1يو1:3). والذي قدّم ابنه الوحيد كفارة عنّا وعن خطايانا “وإنّما عرفنا المحبة بأن ذاك قد بذل نفسه في سبيلنا. فعلينا نحن أيضاً أن نبذل نفوسنا في سبيل إخوتنا” (1يو16:3). وأيضاً يقول تلميذ المحبة في (1يو10:4): ” وما تقوم عليه المحبة هو أنّه لسنا نحن أحببنا الله بل هو أحبّنا فأرسل ابنه كفّارة لخطايانا”.
أيّ طفل ذو كرامة لا يحبّ أباه العطوف؟ فكيف يمكننا نحن أن لا نحبّ الله- الآب، الذي اقتنينا منه كل ما هو حسن جداً؟ “فكلّ عطيةّ صالحة وكلّ هبة كاملة تنزل من علُ من عند أبي الأنوار” (يع17:1). وكيف نستطيع أن لا نحبّ الله الذي هو خالقنا الكليّ الصلاح، الذي جهّزنا بالمواهب الإلهية، بالعقل والإدراك والمشيئة والسلطة والنفس الخالدة، وسلّطنا على كلّ الخليقة؟. “ألإنسان أبرُّ من الله أم الرجل أطهر من خالقه؟” (أيوب17:4). أي ما الذي يؤهّل الإنسان، الذي أنت مجّدته وأعطيته كامل الرعاية والاهتمام؟، “أنقصته قليلاً عن الملائكة، بالمجد والبهاء كللّته، سلّطته على أعمال يديك، جعلت كلّ شيء تحت قدميه” (مز5:8-6). وكما يتساءل الحكيم سليمان عن هذا الأمر العظيم الذي تمّ في خليقة الله والذي دعاه “إنساناً”، يسمّيه هو “الإنسان العظيم” في (أمثال 6:10).
أنستطيع نحن إذاً الذين حصلنا على المواهب الغنيّة من الخالق- أبينا، خالق السماء والأرض، الساكن في الأعالي أن لا نحبّ خالقنا الكليّ القدرة؟. بالحقيقة كم شحيحٌ حبّنا لله! وعاقرٌ قلبنا من العواطف النبيلة تجاه خالقنا المُحسن!. ليس فقط حبٌ شحيح بل أيضاً هناك أناس يكرهون الله ويهينوه. فهؤلاء البشر للأسف كما نعرف، هم عميان روحياً، هذا إن كنّا نعتبرهم بشراً!

من كلّ القلب

وليس فقط علينا أن نحبّ الله بهذه السهولة، بل وأيضاً أن نحبّه من كلّ قلوبنا ونفوسنا “أحبب الرب إلهك من كلّ قلبك، ومن كلّ نفسك، ومن كلّ فكرك ومن كلّ قدرتك” (مر30:12) هذا ما تقوله الوصيّة الإلهية. “من كلّ قلوبنا” يعني أنّه عليك أن تحبّ الرب من كلّ قدرة النفس الداخليّة التي تحصد المشاعر. “من كلّ النفس” تعني من كلّ إرادتنا. “من كلّ الفكر” تعني من كلّ الذهن. “من كل قدرتك” تعني من كلّ قدرة الإنسان الداخليّة والخارجيّة أي النفسيّة والجسديّة.
يريد الله محبتنا، يريد أن يكون هو سيّد نفوسنا “يا بنيّ أعطني قلبك”. يريد أن نكون بكليتنا عطاءً لله ليكون هو ملك نفوسنا العالمية، لكي لا تتهشّم قلوبنا من رغبة ومحبة هذا العالم. “أما تعلمون أن محبة العالم عداوة الله” (يع4:4).
هذه المحبة الحارة والتامة تجاه الربّ، كانت عند القدّيسين الذين أرضوا الربّ، فالملايين منهم استشهدوا بالإيمان، احتملوا الأحزان والعذابات وأرهقوا دماءهم في سبيل محبّة المسيح. إحصاءات لا تعدّ من البشر، نساءً ورجالاً، الذين انتصروا على الحسد، وتحرروا من سِحر وفتنة هذه الحياة الوقتية “ليجعلوا المسيح محور قلوبهم”. مثل هذه المحبة نحو الربّ امتلكها القدّيس اغناطيوس المتوشح بالله، الذي بادر بفرح نحو الشهادة، مع عريس قلبه الملتهب بالمحبة. “لا أغار أبداً من العالم المنظور واللامنظور، فقط أريد أن أظفر في قلبي المسيح، فلتأتِ عليّ عذابات الشهداء، ما يكفيني فقط أن أنال مسيحي، فأنا أطلبه فوق كلّ الموجودات ليقيمني معه”. يسمى القديس اغناطيوس المتوشح بالله “المولود” فهو سيولد في غبطة وحياة جديدة في الحياة الأبدية. كان يقول بفرح:”ولادتي تقترب” . لم يخف من العذابات ولا من الموت الذي سبب له الفرح لأنّ به سيكون قريباً من الرب الذي اشتهاه قلبه وعشقه بشدة. ولهذا كان يخبر الكثيرين من حوله أن لا يعيقوه عن موت الشهادة “لا تعيقوني يا إخوتي، لا تعيقوني عمّا أطلبه”. هذا الموت الذي سيضمن له الحياة الحقيقية بدلاً من هذه الحياة الوقتية، فهنالك في السماء سيكون إنساناً حقاً. هذا هو مقياس “من كلّ القلب” محبة الله. المحبة الكليّة من دون حدود ودون أيّ مصلحة وخوف.
“من كلّ القلب” تعني المحبة الكاملة التي توجّه إلى الله فقط، ومنها ستنبع كلّ محبة أخرى، محبة جوّادة تجاه الأهل، ومحبة عظمى نحو الأطفال. أمّا محبة الله فهي لا تقبل المزايدة عليها “لأنّي أنا الربّ إلهك إله غيور” (تث9:5).

عطش الله

عندما تنمو في النفس هذه المحبة التامة تجاه الله، عندئذٍ يشتاق الإنسان ويعطش إلى الله، فيشتهي الله وحده. لا أحد غير الله يمكن أن يريحه. فهو الذي يستحوذ تفكيره، ويكون سرور قلبه ولذة نفسه الوحيدة. وحينها يجتثّ بشكر كلّ ما هو دنيوي وفاسد وباطل من حياته وينتصر على قوة الجسد ويقاوم الشهوات “فما من أحد يجنَّد يشغل نفسه بأمور الحياة” (2تيم4:2)، يشتهي فقط أن يصعد دوماً إلى العلاء، وأن يكون حراً ومستقلاً عن كل ّمحبة عالمية، حينها يستطيع أن يتغلب على صعوبات ويوميات الحياة الحاضرة، ولن يجرف من “الشهوات الخادعة” (أفسس22:4) في هذا الدهر.
لن يهتم بالأمور الزمنية الوقتية، اهتمامه هو الله. ورغبته الوحيدة هي كيف يرضيه، عندئذٍ “كلّ شيء خسراناً من أجل المعرفة السامية، معرفة يسوع المسيح” (فيلي8:3). يتذكر دوماً الله ويبتهج به. يركض إليه عطشاناً كما يركض الأيل إلى ينابيع المياه “عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحيّ”(مز2:41). فالله هو مركز أفكاره، وبهجة حياته التي لا توصف، وسموّ نفسه، فهو مخلصه الحلو ، وحبيبه العروس (نشيد الأناشيد 13:5-16).

نبع القوة

أيضاً المحبة نحو الله ليست شعوراً عاطفياً. إنّما قوة فائقة الوصف تحرّك ما بداخل الإنسان. إنّها قوة تنظّم حياته وتوجهه مباشرة إلى أعماله وتروّي أحلامه. تظهر بالطاعة الكليّة لمشيئة الله. الإنسان الذي يحبّ الله لا يعيش كما يريد هو بل كما يريد الله. ناموس الله ووصاياه مرشد وبوصلة حياته. “الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبنّي، والذي يحبنّي يحبّه أبي وأنا أحبّه وأظهر له ذاتي” (يو21:14). ويحاول دوماً أن يعيش كما يريد الله. لهذا يجاهد بصدقٍ ضدّ أهوائه وزلاته، ضدّ إنسانه القديم. ويبتر كل رباط للخطيئة الضالة.، وينظر أن يمتثل دوماً لمشيئة الله ويتقدم في الفضيلة والكمال. تتملكه نعمة الله وتجدّد قلبه، حينها ينسجم مع كلام الرب ويصير مسكناً للثالوث القدّوس. “إن أحبني أحدٌ يحفظ كلامي ويحبّه أبي وإليه تأتي وعنده تصنع منزلاً” (يو23:14). فيصير الغنسان مستنيراً بالله ويكشف له الله ذاته “أُظهر له ذاتي” (يو21:14). فهو الذي يسنده ويقوّيه، يصعده إلى السماء ويمنحه الإمكانية أن يتلمّس في الحياة الحاضرة ندى الفردوس. عندئذٍ يشعر ذاك الإنسان بحلاوة داخلية لاتوصف وبحضور الرب قربه. ويحسّ بنسيم سماوي يطفي على قلبه، ويدرك أنّه لا يوجد حلاوة أو جمال أو قداسة أو قوة أو علّو أو غبطة تفوق محبّة الله.
فيا لسعادة الإنسان المغبوط آنذاك! وكم يشعر بالراحة والغبطة!. فلا هوى يزعجه ولا رباط يحجزه ولاخوف يستولي عليه. لايجذبه سِحر العالم ولا يفتنه الجسد وروح الموضة. فالحزن لا يغلبه وتجارب الحياة لا تخيفه والقلق لا يتملكّه لأنّه يعرف أنّ “آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا” (رو18:8). وينشد قلبه “أنا لحبيبي وحبيبي لي” (نشيد الأنشاد 3:6).
إن لم تكن جاهزاً أن تعمل كلّ شيء بنعمة الربّ، وأن تقدّم له كلّ تضحية وتسلّم نفسك لمشيئة “حبيبك”، فلست مستحقاً أن تدعى “عشيق الله”.

Leave a comment