الأرملة أناستاسيّا

انستاسيا الأرملة

نقلها إلى العربية الأب أثناسيوس بركات

 

حكم الامبراطور نيكيفوروس القسطنطيني من سنة ١٠٧٨حتى ١٠٨١. وقد قرر بناء كاتدرائية تكون شبيهة بكنيسة أيّا صوفيا (الحكمة المقدسة). عند انتهاء البناء، دعا بطاركة أورشليم والإسكندرية والقسطنطينية لتكريس الكنيسة الجديدة التي بناها. أعلن عن التكريس قبل الموعد بعدة أشهر ليتيح للجميع الوقت للوصول إلى القسطنطينية العظيمة في الوقت المحدد. لا ننسى أنه لم تكن هناك سيارات أو طائرات أو قطارات في ذلك الوقت. كان على كل شخص السفر في عربات تجرها ثيران أو أحصنة أو حمير ومن يأتي من مسافات بعيدة يتحتم عليه عبور البحر بالسفينة.
عندما أصبحت كاتدرائية نيكيفوروس جاهزة للتكريس كان هناك ثلاثة بطاركة وأربعون ميتروبوليتاً وآلاف الكهنة باعتبار أنها كانت كاتدرائية امبراطورية. تقاطرت إلى المدينة آلاف العربات بسبب كثرة عدد المؤمنين الآتين من الجوار. كان كل واحد يحمل معه شيئاً للكاتدرائية: سجاد، براميل نبيذ، زيت، طحين، شموع…الخ. كان كل واحد يرغب بتقديم شيء.
في ذلك الحين كانت أرملة تدعى انستاسيا تحيا في القسطنطنية. قضت خمسين سنة في الإيمان مترددة بانتظام إلى الكنيسة لتصلي للرب . كانت تعيش في ضاحية المدينة في نفس الحي الذي كان على عربات ومقطورات المسافرين المرور به للوصول إلى الكنيسة الجديدة. أنستاسيّا كانت فقيرة للغاية وبيتها كناية عن كوخ ولم يكن لديها لا مال أو زيت أو طحين ولا شيء تقدر أن تقدمه للكنيسة الجديدة. فقررت تقديم القليل من العشب للثيران التي تجرّ العربات، ذلك لأنها لا تملك سوى منجل صغير ومذراة.
كانت الأرملة فقيرة مادياً لكن غنية في إيمانها. خلال أشهر الشتاء كانت تغزل الكتان والصوف لسكان المدينة وفي الصيف كانت تتناول منجلها وتلتقط فضلات الحصاد من الحقول بعد مغادرة الحصادين ثم تجمع الحنطة في بطانية وتضربه لاستخراج قدر قليل من الطحين لتسد حاجتها. رغم فقرها، كانت ذات قلب شكور. هذا ما كان يدور في رأسها عند مشاهدتها الثيران تجرّ الأحمال الثقيلة من البضائع لاجل احتفالات الكنيسة الجديدة: “لا مال عندي أو سجاد أو زيت…لا شيء. لكنني أستطيع تقديم القليل من العشب للحيوانات”. مع ذلك، كانت خائفة لأنها لا تملك أرضاً، فمن أين تستطيع جلب العشب دون أن تقوم بأي أمر خاطئ.
تناولت كيساً كبيراً وتوجهت نحو الحقول. راحت تقطع الكثير من نبات بريّ يسمى العكرش وهي حذرة من إتلاف المحاصيل الأخرى، وتضعه في كيسها وهي تحدث نفسها: “سوف أعطي الثيران القليل من العشب حتى ولو لم يكن من أرضي”. توجهت بكيس العشب نحو المنطقة الواقعة قرب الكنيسة وهي تحمل عكازاً، وكان يجتمع العديد من الناس. وجدت زوجاً من الثيران قد انتهى لتوّه من أكل قليل من العلف. كانا يتطلعان حولهما منتظرين مزيداً من الأكل. فهما لا يزالان جائعين لكنهما لم يستطيعا الوصول إلى أي طعام. فتحت أنستاسيّا كيسها ووضعته أمام الثورين قائلة: “أيها الرب تقبّل هذا المقدار القليل من العشب وسامحني لانني لا أملك ما أقدمه للكنيسة في يوم تكريسها. فحتى هذا العشب ليس من أرضي”. وكانت تبكي عند تفوهها بهذه الكلمات. وبعد ان انتهى الثوران من الأكل دخلت الكنيسة لحضور التكريس.
ما شاهدته في الكنيسة أذهلها: عديد الناس والزينة الغنية للهيكل الجديد. كانت الكنيسة قد هيئت كعروس في يوم عرسها مع كل هذه الزخارف وأصبحت جاهزة للتكريس الذي سيتم في الغد. توجهت أنستاسيّا إلى أيقونة في آخر الكنيسة حيث تقف النساء عادة. هناك ركعت المرأة الفقيرة العجوز، وجهها مملؤ بتجاعيد السنين، على رأسها وشاح عتيق، نعلاها على أشد ما يكونان في الفقر، ترتدي ثوباً بالياً. ركعت مصلية إلى الله: “سامحني يا رب لعدم تقديمي أيَ شيء للكنيسة، فأنا لا أملك شيئاً. الإمبراطور هو ملك على الارض وسيكون عظيماً في السماء أما أنا ففي غاية الفقر ولا مال لدي ولا شيء أقدمه”. وانهمرت دموعها حتى الأرض.
ثم ما لبث الإمبراطور، محفوفاً بحاشيته وخدامه، أن دخل الكنيسة. أشار رئيس وزرائه، المدعو بطرس، إلى اللوحة التذكارية لافتاً انتباه الإمبراطور إليها. ففي الكنائس والأديرة لوحات تذكارية توضع فوق أبوابها لكونها تُعتبر معالم تاريخية. كانت اللوحة عبارة عن قطعة من الرخام كتب عليها بماء الذهب ما يلي: “لمجد الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، شُيدت هذه الكنيسة المقدسة ومُوِّلَت من قبلي أنا الإمبراطور نيكيفوروس”. استحسن الإمبراطور راضياً عن طريقة تنفيذ النقش، فهو الذي أمر بذلك.
وهكذا دخل الامبراطور ترافقه الامبراطورة وجموع الضباط بمختلف رتبهم إلى الكنيسة لمشاهدة التحضيرات لحدث التكريس العظيم الذي سيجري في اليوم التالي. كل شيء كان مرتباً: الجداريات الرائعة، الأيقونات المذهبة، أغطية رائعة لحاملات الايقونات، ستائر أبواب الهيكل المقدسة، الإنجيل الشريف… كلّ شيء كان في مكانه بالتمام.
في الوقت الذي كان فيه أصحاب المقامات الرفيعة يتفقدون كل شيء في الكنيسة، كانت الأرملة العجوز أنستاسيّا، التي قد قدمت حزمة عشب للثيران، تبكي أمام الأيقونات في آخر الكنيسة. خلال صلاتها، قام ملاك الرب بتغيير الكتابة على اللوحة التذكارية. فأصبح النص، الذي أنجز بأجمل من السابق، يقرأ: “لمجد الثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس تمّ إنشاء هذه الكنيسة المقدسة وتجهيزها من قبلي أنا الأرملة أنستاسيّا”.
شاهد الناس الذين كانوا في المؤخرة ما حصل وتجمدوا من الخوف. لقد قرأوا، سابقاً وبوضوح، اسم الامبراطور على الشاهدة. كان الناس في كل مكان، فلا سقالات في الكنيسة لكي يتسنى لأحدهم الوصول إلى اللوحة وتغيير الكتابة. لذا لم يكن أحد قادراً على تفسير ما حصل. قرأ الناس الكتابة ثم بدأ الكلام فيما بينهم.
-“ماذا…ماذا يعني هذا الامر؟”
-“ماذا هناك؟”
-“انظروا منذ برهة وجيزة عندما دخل الامبراطور كان اسمه على اللوحة”.
-“ماذا سيقول الامبراطور عندما يشاهد هذا؟”
كان الحاضرون يخشون من إطلاع الإمبراطور، لذا قاموا باستدعاء رئيس الوزراء بطرس وأروه الكتابة.
قرأ بطرس النص وقال:” انها أعجوبة! لا بأس بهذا. سوف أخبر الإمبراطور”.
أصغى الامبراطور إلى بطرس. يا للمنظر: الإمبراطور والإمبراطورة بتاجيهما الذهبي المتوجين على رأسيهما ووشاحيهما الملكي، يحيط بهما الجنود.
-يا صاحب الجلالة، أرجو ان تأتي للحظة إلى الردهة.
أتى الامبراطور ونظر إلى اللوحة بتعجب.
-لكننا عندما وصلنا إلى الكنيسة كانت كانت هناك لوحتي.
-أنا أعلم هذا يا صاحب الجلالة. الكلّ يعرفون ذلك. لكن انظرْ الآن ما كتب هناك.
-آه، يا لي من خاطئ! إنها معجزة عظيمة! ليس بمقدار أحد أن يفعل ذلك سوى الله نفسه. إنها عجيبة رائعة. لقد خسرت الكنيسة لانني صنعتها بكبريائي الذاتية. والآن قد مُنحت لأرملة!.
ما كان من الإمبراطور إلاّ أن نادى رؤساء أعوانه قائلا: لن يتم تكريس هذه الكنيسة حتى نجد الأرملة. وعندما نجدها سنقوم بالتكريس على اسمها لأنّها أعظم مني أمام الله”. ثم أعطى أوامره للتفتيش في كل الامبراطورية عن الأرملة أنستاسيّا.
أصبحت الآن مشيئة الله كشف هذا السر بسرعة. وقد تمّ ذلك عن طريق أرملة اخرى بنفس سن أنستاسيّا المباركة. كانت هذه المرأة بين الحشد لكنها لم تنتبه لوجود أنستاسيّا.
في خضم الاضطراب الذي كان يحدث في مدخل الكنيسة، سألت الأرملة: ماذا يجري؟
وعندما أخبرها أحدهم أنهم يبحثون عن أرملة اسمها أنستاسيّا قالت: “أنا أعرف أنستاسيّا. فهي تعيش في طرف المدينة”.
-“ماذا؟ هل تعريفينها! تعالي إلى الأمبرطور”.
أخبرت المرأة العجوز الامبرطور اين تعيش الأرملة أنستاسيّا، فأرسل بسرعة مساعديه لاجادها واصطحابها إلى الكنيسة.
توجّه المساعدون على أحصنتهم إلى طرف مدينة القسطنطنية لكي يجدوا أنستاسيّا ويصطحبوها إلى الإمبراطور. عند وصولهم إلى حيث أرشدتهم العجوز، وجدوا بعض الأولاد يلعبون، فسألوهم: هل تعلمون، يا أولاد، اين تقيم أرملة اسمها أنستاسيّا؟
فأرشدهم أحد الأولاد الذي يكبر الباقين سناً: تعيش أنستاسيّا هناك، قرب الحديقة.
توجّه الرجال إلى البيت حيث الحديقة. فماذا وجدوا على باب أنستاسيّا؟ لا قفل، لا مزلاج، ولا مقبض. عندما لا يكون لأحدهم أيّ شيء يملكه فهو لا يخاف من اللصوص. كان الباب مغلقاً ومربوطا إلى مسمار بحبل رفيع. كان من الواضح أن المرأة ليست في البيت وكانت ممتلكاتها القليلة على مرأى من الجميع، لم يكن هناك ما يستحق السرقة. لقد ذهبت إلى الكنيسة لحضور خدمة التكريس.
قال خدّام الإمبراطور للأولاد: العجوز أنستاسيّا ليست في المنزل.
“لا لقد غادرت أنستاسيّا، ومعها قبضة من العشب إلى المزرعة”. أجاب الأولاد، غير عالمين أنها ذهبت إلى الكنيسة. عاد الضباط والرجال الآخرون أدراجهم ليقدموا للأمبراطور تقريرهم: “يا صاحب الجلالة لقد ذهبنا ووجدنا المنزل الصغير في طرف المدينة. كان هناك بعض الأولاد يلعبون، فقالوا بأن أنستاسيّا هنا، بين هذه الجموع، في مكان ما”.
سمع أحد الذين يعرفون أنستاسيّا ما جرى فقال بأنها هنا في الكنيسة: “انها تصلّي للمخلّص”.
“إذا كانت في الكنيسة، قولوا لها ألاّ تخاف. بما أنها لم تقابلني قط”. قال الامبراطور. “أرسلوا بعض النساء الكبيرات في السن ليقولوا لها بأنه، في يوم تكريس الكنيسة، سوف يمنح الامبراطور بقرة هدية لكل النسوة المسنّات.”
تنفيذاً لأوامر الأمبراطور، وجدت النسوة العجوز أنستاسيّا وجئن بها إلى أمام الأمبراطور الذي قال: “لا تخافي يا أنستاسيّا، لقد وُجدتِ أهلاً لنعمة إلهيّة. ما الذي قدّمته هذا الصباح لتكريس الكنيسة؟”
– لم أجلب شيئاً، صاحب الجلالة، لأنني فقيرة للغاية”. لم تعتبر قبضة العشب التي قدمتها للثيران نوعاً من التقدمة.
– أرجو أن تمعني التفكير، أيتها العزيزة أنستاسيّا. لا بد وأنك قدمت هدية كبيرة لأنّ كنيستي قد مُنحت لك.
– لم أجلب أية هدية لأنه لا مال لدي. لا أملك شيئاً. كل ما لدي هو منجل ومذراة. أحيك، خلال الشتاء، الصوف للناس، وفي الصيف أستعمل المنجل لجمع ما خلفه الحصادون ورائهم، وهكذا أجمع القليل من الطحين. لا شيء لديّ إلى جانب ذلك.
– إنها كنيسة إمبراطورية، فقد أنفقت ثروة من ذهبي وفضتي لإنشائها. لكن، انظري إلى الكتابة التي تقول أن الكنيسة أُنشئت من قبل أنستاسيّا! ماذا قدمت لهذه الكنيسة؟
– لم أقدّم شيئاً سوى قبضة من العشب لزوج من الثيران.
– لا تخافي يا أنستاسيّا. إن الله هو الذي كتب هذه الكتابة، لا أنتِ. الله نفسه كتب بأن هذه الكنيسة إنما هي كنيستك.
كانت الكتابة على اللوحة ما يلي: “لمجد الثالثوث القدوس الآب والابن والروح القدس، أنشئت هذه الكنيسة المقدسة وجُهزت من قبلي أنا الأرملة أنستاسيّا”. كان على الرجال أن يقرئوا الكتابة كونها أُميّة.
– أرأيتِ، أيتها المرأة العزيزة، لقد قلتِ بأنك لم تجلبي أي شيء، لكن تذكري بأنك قدمت قبضة من العشب.
– لقد فعلتُ ذلك، لكنها ليست تقدمة حقيقة مني، لأنني قلعت الأعشاب من حقل لا أملكه.
– اسمعي يا أنستاسيّا، إن قبضة العشب تلك هي أثمن من كلّ ما قدمتُ أنا من كنوز. لاحظي أن ملاك الرب قد وضع الكنيسة باسمك وستبقى كذلك للأبد. سوف نكرس الكنيسة بمعية كل هؤلاء البطاركة، وبوجود كل هذه الأبهة والاحتفالات كما كنا قد خطّطنا، إلا أن الكنيسة ستكون لأنستاسيّا للأبد. ستكرّس على اسمك طالما أنّ الملاك قد كتب هذا في السماء وعلى الأرض.
صُعقت الأرملة البائسة وهتفت: يا للعجيبة.
عندما ماتت المباركة أنستاسيّا القسطنطينية، دفنها الأمبراطور تحت الهيكل وقد كتب فوق قبرها: “هنا، في الكنيسة التي منحها إياها الله بشكل عجائبي، ترقد الأرملة أنستاسيّا”.
إن قبضة من العشب قُدِّمَت باسم الرب بقلب متخشع متواضع قد تجاوزت بما لا يقاس ثروة الامبراطور نيكيفوروس، هذا ما يشاؤه الله.
يقول القديس إفرام: “لا يفتش الله على كمية التقدمات التي تقوم بها، بل على القلب الذي به تقدم هذه التقدمات”. مهما صغرت تقدمتكم، قدموها بأقصى ما تستطيعون من تواضع وانسحاق قلب. هذه هي الصدقة الحقيقية.

Published
Categorized as قصة

Leave a comment