نحن والثالوث القدّوس

نحن والثالوث القدّوس

الأرشمندريت توما بيطار

… وخلق الله الإنسان على صورته ومثاله. على صورته، لدى العديد من الآباء، بمعنى المواهب الطبيعية، وعلى مثاله بمعنى المواهب الروحية.

انطلاقاً من هذا الفهم، لا يسعنا أن نتكلّم على الله إلاّ في إطار صورة الله ومثاله فينا. ما نختبره كمخلوقات هذا نستطيع أن نتكلّم عليه وكذا ما يُعطى لنا من مواهب الروح القدس.

الله واحد لأنّ طبيعته واحدة، لأنّ جوهره واحد. هذا بإمكاننا أن نتكلّم عليه لأنّنا نعرف، بالمقايسة، أنّ هناك طبيعة بشرية واحدة هي طبيعتنا، هي ما يجمعنا نحن البشر، هي ما يجعلنا واحداً على كثرة. طبعاً لا كنه الطبيعة البشرية ندركه ولا كنه الطبيعة الإلهية. فقط نختبر الإشعاعات أو الطاقة الصادرة عن الطبيعة الإلهية الواحدة. إشعاعاتنا، نحن البشر، مخلوقة لأنّها صادرة عن طبيعة مخلوقة، فيما إشعاعات الطبيعة الإلهية غير مخلوقة لأنّها صادرة عن طبيعة غير مخلوقة. الإشعاعات الإلهة تتمحور كلها في واحدة وهي المحبّة. المحبّة لا تسقط أبداً. الله محبّة. يشعّ محبّة. لذا معرفتنا له كواحد تأتينا من خبرتنا به أنّه محبّة. المحبّة، من جهتنا كبشر، هي ما يجعل الله يتجلّى في حياتنا كواحد. الآب والابن والروح القدس، وجودياً، واحد لأنّ عمل الله واحد وإشعاعه واحد. من هنا نعرف أنّ كل ما للآب هو للابن وكل ما للابن هو للروح القدس وكل ما للروح القدس هو للآب. لذا، في كل مرّة يُظهر الله نفسه يكون الآب والابن والروح القدس حاضراً معاً. نحن لا نعرف أي فرق بين الآب والابن والروح القدس إلاّ في كون الآب هو الآب، أي شخصاً مميَّزاً، والابن هو الابن، أي شخصاً آخر مميَّزاً، والروح القدس هو الروح القدس، أي شخصاً آخر مميَّزاً عن الآب والابن. بالإضافة إلى ذلك، نعرف أنّ الابن وحده تجسّد. لا الآب تجسّد ولا الروح القدس تجسّد. إذاً الله مميّز في شخصانيته كثالوث. فيما عدا ذلك واحد هو في عمله، واحد هو في حضوره لأنّه واحد في طبيعته.

متى تكلّمنا على الله ولم نحدّد، أو لم يحدّد سياق كلامنا، ما إذا كان هو الآب أو الابن أو الروح القدس، فإنّ المقصود يكون الإله الواحد في ثلاثة أقانيم. آباؤنا تكلّموا، استمداداً من الإعلان الإلهي، على صيغة محدّدة يتمّ من خلالها التعبير عن حضور الله كثالوث وعن عمل الله الواحد كثالوث. كل شيء يصدر من الآب وكل شيء كائن بالابن وكل شيء يأتي في الروح القدس. ولأنّ الله محبّة، الله يتجلّى في حياتنا كواحد. لا نقصد بالوحدة العدد ولا إذا تكلّمنا على الثالوث. المقصود بالوحدة الملء أو الكمال والإشارة في الثالوث إلى أنّ الله محبّة. لو لم يكن الله ثالوثاً ما أمكننا أن نعرف الله كمحبّة. لو كان الله شخصاً واحداً ما أمكنه أن يكون محبّة. المحبّة لا تحبّ ذاتها.. طالما هناك محبّة فهناك آخر. هناك علاقة وتبادل. الثالوث هو ملء المحبّة.

إذا كان الله على الصورة التي أبنّا فإنّنا نحن مدعوّون، فيما بيننا، نحن البشر، إلى وحدة من النوع الثالوثي، أي نحن مدعوّون إلى محبّة كاملة توحّدنا. طبعاً، الله هو الذي يعطينا أن نبلغ ملء المحبّة. ولكن، علينا، نحن أيضاً، أن نساهم فيها. نحن شركاء الله في عمل المحبّة. لكل منا دور ولله أيضاً دور. نحن والله نصل إلى الملء في شأن المحبّة بين الناس. من هنا الوصية الثانية المستمددة من الأولى: “تحبّ قريبك كنفسك”. هذا معناه أن تحبّ وأن تصير واحداً ومَن تحبّ. تعامله بالانفتاح الكامل. كأنّه نفسك. لا يعود هناك فاصل، في الحبّ، بينك وبينه. فقط تتمايزان. أنت شخص وهو شخص آخر. فإذا ما تحقّق هذا المثال، فيما بيننا، بتنا نحن، على مثال الله، ذوي محبّة ثالوثية. هذا نختبره بالحبّ الإلهي الذي يسكبه الله في قلوبنا والذي نقتبله نحن، عن إرادة طيِّبة، ونقتنيه.

ثمّ، في الثالوث القدّوس، كتعبير عن الله المحبّة، لا الآب يشهد لنفسه بل للابن، ولا الابن يشهد لنفسه بل للآب ولا الروح القدس يشهد لنفسه بل للابن. كلٌّ في الثالوث القدّوس يشهد للآخر. كلٌّ في الثالوث القدّوس يتجلّى في الآخر. من هنا قول يسوع: “مَن رآني فقد رأى الآب”. لهذا الواقع، أيضاً، تجلّيه في حياة الناس على مثال الله. فإنّه يناسب الإنسان أن يكون، دائماً، ممتدّاً إلى غيره، لا يطلب ما لنفسه بل ما للآخرين، ولا يشهد لنفسه بل للآخرين. هذا معطى لنا بنعمة الله. فقط علينا أن نقتبله وأن نجاهد لنسلك فيه. الخروج من الذات باتجاه الآخر. أن نقبل أن نتجلّى في الآخرين. أن نقبل أن تكون شهادتنا للآخرين، تشير إليهم ولا تشير إلينا. هذا، أيضاً، يجعلنا على مثال الله.

كذلك في الآب والابن والروح القدس، كلٌّ حاضر في الآخر. هذا أيضاً نختبره في علاقاتنا فيما بيننا نحن البشر. بالحبّ، نحن مدعوّون لأن نجعل الآخرين حاضرين في حياتنا. لا نتصرّف من دونهم، كأنّهم غير موجودين. نتصرّف بوحي من حضورهم فينا بالحبّ. لا يمكننا، من هذا المنظور، أن نعمل شيئاً من دون الإخوة، من دون أن نحسب حساباً للإخوة، من دون أن يكون ما نفعله لخيرنا لخير الإخوة أيضاً. ما نسعى إليه، كل يوم، هو أن نحمل الآخرين في نفوسنا بالحبّ. طبعاً هذا لا يكون ممكناً إلاّ إذا كنا في سعي حثيث إلى تنقية نفوسنا من كل شبه خطيئة، أي من كل شبه عشق للذات. عبادة الذات تنفي محبّتنا للإخوة وعبادتنا لله.

علينا، بصورة متواترة، أن نعمل على تنقية نفوسنا. وهذا لا يتمّ إلاّ بأمرين: بنعمة الله وبغصب نفوسنا على اقتبال عمل الله ونعمة الله. نحن مغمورون بنعمة الله وقد اعتمدنا باسم الآب والابن والروح القدس. كل الملء الإلهي معطى لنا. لقد ارتضى الربّ الإله، في كل عظمته، أن يقيم فينا نحن الأشقياء الضعفاء. ولكنْ علينا أن نتمثّل هذه النعمة الفائقة. ما معنى التمثّل؟ تمثّل الطعام هو أن نأكل ونهضم الطعام وأن يتحوّل الطعام فينا إلى غذاء للدم. الطعام، بالتمثّل، يتحوّل فينا إلى حياة جديدة. فنحن حين نقول إنّ علينا أن نتمثّل نعمة الله نقصد أنّ نعمة الله قد أُعطيت لنا كطعام. ولكنْ علينا أن نهضم هذا الطعام بقبولنا له، بتنقيتنا لأنفسنا. نفتح كياننا لهذا الطعام الإلهي بحيث يتحوّل فينا إلى حياة جديدة، إلى غذاء لكياننا.

إذاً علينا، دائماً، أن نكون في سعي إلى تمثّل النِّعَم الإلهية المعطاة لنا. كلّما اجتهدنا للخروج من ذاتيتنا، من أنانيتنا، من مشيئتنا الخاصة، كلّما أمكننا أن نمتصّ الغذاء الإلهي. النعمة الإلهية، إذ ذاك، تتفعّل فينا. محبّة الله، والحال هذه، تفعل فينا بصورة متزايدة، وبها نبلغ هذا المثال الإلهي إذ نحقّق الوصيّة التي تقول: “أحبّ قريبك كنفسك”. إذاً نحن نعرف الثالوث القدّوس بمقدار ما نتنقّى ونتعاون مع نعمة الله ونمتصّ المواهب الإلهية بحيث تقيم محبّة الله فينا وتتفعّل.

طبعاً، هذا، على الأرض، يكون جزئياً. وكما ورد في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الثالث عشر: “ننظر الآن في مرآة، في لغز، لكن حينئذ وجهاً لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عُرفت” (الآية 12). هناك، إذاً، مسير. وصيته طريق. والروح القدس هو المرشد في هذا الطريق. كل شيء معطى لنا. لم يحجب الله شيئاً عنا لكي نبلغ إليه. ولكنْ كل شيء يأتي في أوانه. يبقى علينا أن نقتبل، أن نجتهد، أن نخرج من ذاتيتنا، أن نحبّ، أن نتنقّى من كل شبه خطيئة.

معرفتنا للثالوث القدّوس متوقّفة على معرفتنا، في العمق، لأنفسنا، وعلى معرفتنا لنعمة الله المقيمة فينا. نعرف الثالوث القدّوس لأنّه مقيم فينا. لا نعرفه كنظرية. نعرفه كإعلان إلهي. لأنّ الإعلان الإلهي أُعطي لنا ليكون نموذجاً لنا نحيا بحسبه ونسلك فيه. معرفتنا بالثالوث القدّوس ليست نظرية بل بحسب الإنسان الجديد، بخبرة الإنسان الجديد. لذلك كل خلل في التعليم في شأن الثالوث القدّوس يكون مؤشّراً على خلل في الحياة الروحية، في حياة الإنسان الجديد. ليس بإمكاننا، أبداً، أن نكوّن تصوّراً حقّانياً عن الثالوث القدّوس لا يكون مطابقاً للإعلان الإلهي من ناحية، وموازياً للحياة الروحية القويمة التي علينا أن نسلك فيها.

من هنا تمسّكنا بالإيمان القويم في كنيسة المسيح. كل خروج على الإيمان القويم هو خروج على الله. مستحيل على الإنسان، إذا تبنّى، كيانياً، تعليماً غريباً عن تعليم الكنيسة، أن يكون على علاقة قويمة بالله. التعليم، عندنا، مرتبط بأصول الحياة الروحية، ونتمثّله على صعيد الحياة الروحية، على صعيد علاقتنا بالله وببعضنا البعض.

اليوم، إذ نودِّع العنصرة المجيدة، نجدّد تمسّكنا بالإيمان الذي انحدر إلينا من الرسل والآباء القدّيسين في شأن الثالوث القدّوس. كما نعلن تمسّكنا بالسلوك في المثال الثالوثي والحياة الثالوثية وعمل الله الثالوثي فينا. فليكن اسم الربّ مباركاً ولتكن نعمته مظلِّلة لنا في وعينا وفهمنا وتبنِّينا لهذا المسير إلى أن نستقر بالتمام والكمال في الله ثالوثاً كما سُرّ هو أن يستقرّ فينا إلى الأبد.

عظة في السبت بعد العنصرة، 2 حزيران 2007

Leave a comment