الصدقة والصلاة

الصدقة والصلاة

الأرشمندريت توما بيطار

باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

يا إخوة، في العِلْم الإلهي وصيّتان أساسيّتان: “أَحبّ الربّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك وأَحبّ قريبك كنفسك”. كل الوصايا الإلهيّة تُختَزل بهاتَين الوصيّتَين. هذا هو العِلْم الإلهي. وكما أنّه في العِلْم الدنيوي هناك علم وهناك تكنولوجيا، أي تطبيق للعِلْم في الحياة العامة، كذلك الأمر بالنسبة للعِلْم الإلهي. التكنولوجيا الإلهيّة بالنسبة لهاتَين الوصيّتَين هي، كما هو واضح في إنجيل اليوم، الصدقة والصلاة. الربّ يسوع يتوسَّع في أساسيّات هذَين العَمَلين التطبيقيَّين. الصدقة أولاً. “احترزوا ألاّ تصنعوا صدقتكم قدّام الناس لكي ينظروكم”. الوصيّة هنا لا تُطبَّق بصورة تلقائية حتى لو توفّرت لدينا الإرادة الطيِّبة للسلوك فيها، بل علينا أن نكون حريصين، أن نحترز. ممَّ نحترز؟ نحترز من أن نصنع صدقتنا قدّام الناس لكي ينظرونا. مشكلة المشكلات في تطبيق الوصايا الإلهيّة أنّنا نفعل ما نفعله، أكثر الأحيان، طلباً للمجد الباطل. نريد من الناس أن ينظرونا. الدافِع هو المجد الباطل. الدافع ليس، في العمق، محبّة الآخَرين كالنَفْس. لا شيء يتحكَّم بسلوك الإنسان، بعد السقوط، أكثر من المجد الباطل. الطريقة التي يتصرّف بها الإنسان محكومة بالمجد الباطل. سواءٌ أكان الواحد حاضراً أمام الناس أم غائباً، المجد الباطل حاضرٌ في ذهنه دائماً. لهذا السبب يظنّ ويفكّر ويخطر بباله ويقعُد في اللاوعي عنده ماذا يقول الناس عنه وماذا سيقولون، إنْ هو فعل هذا أو ذاك. كل شيء مما نعمله محكوم بهذه القوّة الخفيّة، بهذه الرغبة في اقتناء المجد الباطل. الطريقة التي نسرِّح بها شعرنا، الطريقة التي بها نمشي، الطريقة التي بها نأكل. حتى لو كانت عيوننا إلى الطعام، فأذهاننا إلى ما يظنُّه الآخَرون، إلى ما يقولونه، إلى ما يتصوَّرونه عنا. إذاً، لا شيء يعطِّل الوصيّة أكثر من المجد الباطل. الآلة الداخلية في صنع الوصايا تتعطّل بالمجد الباطل. لذلك احترزوا، في كل حين، أن تصنعوا ما تصنعونه لكي ينظركم الناس. طبعاً، هذا ليس بالأمر السهل. كل واحد مُبَرمَج منذ الطفولية على ما يقوله الناس عنه، على ما يظنّه الناس فيه. هذا ما يزرعه الأهلون في وجدان البنين والبنات.

إذاً، هناك معركة على كل واحد أن يخوضها كل يوم. ثمّ التركيز هنا هو على الصدقة. لماذا على الصدقة؟ لأنّنا في الصدقة نلامس ضعف الآخَرين. حين يكون أخونا محتاجاً، في السرّ أو في العَلَن، فعلينا نحن أن نكون حاضرين قدّامه. وهذا يَفترِض أن نكون حسّاسين من جهة بعضنا البعض. إذا كان الإنسان يحبّ الآخَرين كنفسه، فهو يحسّ بحاجاتهم كما يحسّ بحاجات نفسه. المحبّة تجعل الإحساس مرْهَفاً. لا نحتاج لأن يقول لنا أخونا: أنا محتاج. بمجرّد أن ننظر إليه، بمجرَّد أن نفكّر فيه، بمجرَّد أن نذكره في صلاتنا، يصير هناك تماس روحيّ بيننا وبينه. هذا يُسمّى بالإنكليزيّة Osmosis. الإنسان، على هذا النحو، ينعطف تلقائياً على الآخَرين ويحسّ بهم ويدخل في سرّ قلبهم، فقط عن محبّة.

إذاً، الكلام عن الصدقة كلامٌ يتناول ضعف الآخَرين الذي ينبغي أن نكون نحن حسّاسين له. المحبّة لا تَظهر ولا تكون، في الحقيقة، إلاّ في مستوى التلاقي حين يكون أخوك ضعيفاً وأنت تنعطف عليه، وأنت تأخذه في حضنك، وأنت تلتزمه.

الصدقة هنا أكثر من مجرّد أن تعطي مالاً. الصدقة إنْ لم تكن إحساساً عميقاً بالآخَر، فلا قيمة لما تعطيه. أحياناً كثيرة لا يحتاج الإنسان في حلّ مشكلاته إلى المال، ولكنّه بحاجة إلى التفاتة. قد لا تكون قادراً على أن تعطي مالاً، المهم أن تكون قادراً على أن تعطي انتباهاً. النَفْس تتعزّى في هذا الدهر بالمال، والنَفْس في الدهر الآتي تتعزّى بالحبّ. لهذا نتعاطى الحبّ ونتعاطى التعاطف ونتعاطى الإحساس كل يوم إلى دهر الداهرين. الله ينظر إلى حركة القلب ويُثيب الإنسان إذا كانت حركة قلبه قويمة ونقيّة ومطهَّرَة.

ويسترسل الربّ يسوع في الكلام عن الصدقة فيقول: “إذا صنعت صدقة فلا تهتف قدّامك بالبوق كما يفعل المراءون في المجامع وفي الأزقّة لكي يمجّدهم الناس”. نحن دائماً عرضة لهذه التجربة، أن نسْتَبين، أن نَبْرز. أحياناً نسكت لأنّنا نريد الآخَرين أن يَستَجدوا منا العطاء أو الانتباه أو العطف. همُّنا الأساسي هو، كما عبَّر السيّد هنا، أن نهتف قدّام أنفسنا بالبوق: “ها نحن أمامكم، انظرونا”. “نحن مستعدّون لكل شيء، مستعدّون للخدمة، ولكنْ الشرط هو أن نَبْرز”. في قرارة نفوسنا، حين نفعل ذلك، نكون كالمرائين. ونقوم بعملية مقايضة تجارية. نتظاهر بأنّنا لا نعرف، ونمثِّل، أحياناً كثيرة، عدمَ المعرفة. لذلك المجد الباطل يعلِّم الإنسان الكذب في الروح. الآلة الصغيرة، آلة محبّة الناس، لا يمكن تشغيلها إلاّ إذا كانت حرّة من هذه الروحيّة الخبيثة، روحيّة الرياء والكذب والمجد الباطل وحبّ الظهور والتمثيل على الناس. المجد الباطل يعلّم الإنسان الكذب. لذلك أكثر تصرّفات الإنسان فيها كذب.

حين نفعل ذلك، حين نتصرّف بهذه الطريقة، لا نصنع ما نصنعه من أجل الله بل من أجل أنفسنا. لذلك يقول السيّد: “الحقّ أقول لكم إنّهم قد أخذوا أجرَهم”. المجد الباطل يكون أجرَهم. هكذا يتعب الإنسان باطلاً. يتعب كثيراً ولا يحصِّل شيئاً، لأنّ ما يحصّله يُدان عليه. هذه هي كِذْبة الخطيئة. الخطيئة كذّابة دائماً. ولماذا يضحّي الإنسان بالكثير من أجل لا شيء؟ لأنّه يكون موهوماً. أكثر الناس، لا بل كل الناس معرَّضون لهذه التجربة، أن يطلبوا السلوك في هذا الوهم، وَهْم المجد الباطل، لماذا؟ لأنّ المجد الباطل هو التكنولوجيا لعِلْم فاسد سبَقَ أن زَرَعه إبليس في وجدانَي آدم وحوّاء، أنّهما بهذه الطريقة يصيران مِثْل الله. الإنسان الذي يسلك في المجد الباطل يسعى لأن يكون إلهاً، ولكنْ ألوهيّته تكون كاذبة. لهذا السبب، الخطيئة غبيّة. وأكثر الناس، لا بل كل الناس، معرَّضون لتجربة الغباء حين يُسْلمون أنفسَهم للخطيئة، لمجد الناس. لهذا، لا نكفّ نحن، في كنيسة المسيح، عن ترداد القول: “المجد للآب والإبن والروح القدس”. هذا معناه دائماً أنّ الإنسان لا مجد له في ذاته. الله هو الذي يمجِّد. الناس لا مجد لهم في ذواتهم. مجد الناس سِقْط. مجد الناس خِزْي عند الله. مجد الله شيء ومجد الناس شيء آخَر. مجد الناس كذب. لهذا السبب يعبد الناس بعضهم بعضاً كَذِباً. هكذا يتصرّف الناس مَثَلاً بإزاء زعمائهم وسلاطينهم. طالما السلاطين والزعماء في مركز القوّة، فَهُم يتعاملون معهم كأنّهم آلهة. ولكنْ حالما يَضعُفون يتخلّون عنهم. وبهذا يُظهِرون أنّهم كانوا، منذ الأساس، في حال الكذب في تعاملهم مع هؤلاء الزعماء والسلاطين.

“أمّا أنت فإذا صنعت صدقة”. كلمة “إذا” ربما كان الأفضل أن تكون “متى” صنعتَ صدقة. لأنّ الصدقة بالنسبة للإنسان المؤمن هي مطلَبٌ عضويّ ينتمي إلى كيانه، إلى تركيبته الداخلية. “فإذا صنعت صدقة فلا تعلم شمالك ما تصنع يمينك، لتكون صدقتك في الخفية. وأبوك الذي يرى في الخفية هو يجازيك علانية”. هنا يدخل السيّد بدقّة أكبر في موضوع الخفية. لا تعلم شمالك ما تفعله يمينك. بكلام آخَر، لا تذكِّر أنت نفسَك بأنّك صنعت صدقة. أحياناً كثيرة، قد لا نطلب المجد من الناس، ولكنّنا نعيش في الخُيَلاء، في العُجْب، حين نستعيد ذكريات الأعمال الطيِّبة التي قمنا بها. نستلذّ ذِكرَها. نشعر، إذ ذاك، بأنّنا عظماء ولسنا كالطفيليّين الذين لا يصنعون خيراً في هذه الدنيا. المطلوب أن يتعلّم الإنسان أن يتخطّى كلّ عملِ خيرٍ يعمله. المطلوب أن ينسى كلّ عملِ خير يتعاطاه مع الآخَرين. والمطلوب أيضاً، في الحقيقة، ولو لم يكن مذكوراً هنا، المطلوب أن يذكر كلّ واحد منا خطاياه. خطيئتي أمامي في كل حين. لا أذكر الخير الذي صنعتُه بأخي، بل أذكر الشرّ الذي صنعتُه، أو الخير الذي لم أصنعه به وكان في طاقتي.

إذاً، على الواحد أن يكون على مسافة من نفسه أيضاً، لا فقط من الآخَرين، حتى يكون في الخفية. إذ ذاك الذي يرى في الخفية، الله الذي يرى الإنسان يفعل ما يفعله وكأنّه لا يفعل شيئاً من الحسنى، يعرف أنّ الصلاح مَخفيّ في هذا الإنسان حقّاً، فيجازيه علانية. في إنجيل الدينونة، الناس الذين قاموا بأعمال صالحة، عندما أراد سيّدهم أن يكافئهم، قالوا: ماذا فعلنا؟ نحن لم نفعل شيئاً! هكذا الإنسان الذي يعمل لله، يعتبر نفسه، في كل حال وفي كل حين، كأنّه لم يفعل شيئاً، أو كأنّه لم يفعل ما فيه الكفاية. انتهى موضوع الصدقة. هذه هي التكنولوجيا المُحبِّية من جهة الإخوة. هذه إذا توفّرت، كل شيء آخَر يصير مجرّد تفصيل.

ويبدأ الآن الكلام على الصلاة. الصلاة، أولاً وأخيراً، هي لغة الله وهي هبة من عند الله. ما كان بإمكاننا أن نصلّي إلى الله لو لم يعلِّمنا الله لغته هو، كيف نقف أمامه هو. ولكنْ لاحِظوا، بدأنا بالصدقة لكي نأتي إلى الصلاة، لأنّ الإنسان الذي لا يتعاطى الصدقة لا يمكنه أن يأتي إلى الصلاة النقيّة. ومتى صلّيت فلا تكن كالمرائين. عن الصدقة تكلّم على المرائين، وهنا يتكلّم على المرائين. الإنسان الذي يتعاطى مع الآخَرين برياء، لا يمكنه إلاّ أن يصلّي برياء. إذاً، “متى صلّيت فلا تكن كالمرائين، فإنّهم يحبّون أن يصلّوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع ليظهروا للناس”. الإنسان الذي يسلك في الكذب في تعامله مع الآخَرين، لا يمكنه أن يتعاطى الصدق مع الله. الله رَبَط بين كيفية تعاملنا مع الآخَرين وكيفية تعاملنا معه هو. نحن نتروَّض على حُسن التعامل مع الله من حُسن التعامل مع الإخوة. لذلك الكلام عينه تقريباً الذي قاله يسوع في شأن الصدقة والخفية والرياء وما إلى ذلك، يقوله عن الصلاة. الصلاة ليست في الشكل. الصلاة التي هي في الشكل هي صلاة إلى وثن. الإنسان، إذ ذاك، يصلّي أمام أفكاره، أو أمام الأصنام التي يصنعها تجسيداً لأفكاره. الله أكبر من أحاسيسنا ومن أفكارنا ومن تصوّراتنا. الله كيان آخَر مختلف لا يمكن الدخول إلى حضرته إلاّ بالنقاوة، بنقاوة القلب. الصلاة مستحيلة من دون سلامة نيّة ونقاوة قلب. الصلاة حياة تَنْبُع من الكيان ويصُبُّها الله في هذا الكيان. وأساس الصلاة أن يدخل المصلّي إلى ربّه كضعيف وكغريب، كمَن لا دالة له. الإنسان الذي نحسّ بضعفاته ونُقبِل عليه برحمة ورأفة، هذا يجعلنا، في الحقيقة، في مناخ مُؤاتٍ للصلاة إلى الله. ولكن لا يمكن الإنسان أن يشعر بضعفات الآخَرين إذا لم يشعر بضعفاته هو. ولا يمكن أن يُقبِل أحد على الآخَرين إلاّ إذا أحسّ بغربته في العالم. كل إنسان غريب في العالم. في وسط الخطيئة كل إنسان غريب. لذلك نحن نصنع أقرباءنا صُنعاً إذ نُقبِل عليهم، إذ نقترب منهم. متى فعلنا ذلك، فإنّه لا يمكننا إلاّ أن نقرُب الله كضعفاء وكغرباء. لذلك لا نكفّ عن سؤاله أن يرحمنا، أن يتّخذنا، أن يجعلنا في حضنه، أن يُدفئنا بحبّه. لأنّنا في العمق نشعر بأنّنا ضعفاء وغرباء. موقفنا يكون كموقف العشّار الذي صعد إلى الهيكل كغريب. يسوع نفسه أتى إلى هذا العالم كغريب، لكي يجعل الغرباء جميعاً، إنْ آمنوا به، أقرباء لله، لكي يجعلهم أبناءه.

لذلك الصلاة هي مرآة محبّتنا للناس منعكسة في وجه الله. ما يزرعه الإنسان في الصدقة يحصده في الصلاة. إذا صلّيت ادخُل مخدعك، أي كلِّمْ ربَّك في قدس أقداسك، في مخدعك، في المكان الذي تنام فيه، في المكان الذي ترتاح فيه، في المكان الذي تخلد فيه إلى الراحة. الإنسان بحاجة لأن يخلد إلى الراحة الأبديّة أي إلى روح الله. لذلك الصلاة، بالدرجة الأولى، عَمَل قلب. وأغلِق بابك، أغلِق حواسك، أغلِق كلَّ صلة لك بالعالم، بالاهتمامات الخارجيّة، بالناس أنفسهم. الغربة أهمّ من الغرباء. نحن نحبّ الناس ولكن من أجل الله. نحن لا نحبّ الناس من أجل الناس. هذا في كل حال مستحيل. ولكن أغلِق بابك عن كل شيء وعن كل الناس، ولا تضحِّ بصلاتك لأي سبب. أعْطِ كلَّ شيء حقّه وأعطِ الكلّ لله. صَلِّ إلى أبيك الذي في الخفية. هناك، في العراء الداخلي، تقف أمام ربّك. تدخل في صلة معه. هو يجعل الكلام في فيك. هو يعلِّمك كيف تصلّي. أنت قِفْ أمام ربّك في القلب، في الخفية، بعدما تكون قد أغلقت بابك، وهو يعطيك كل الكلام الذي أنت بحاجة إليه لتكلِّمه. الله لا يحتاج من أحد منا إلاّ إلى قلب خاشع متواضع. هذا لا يرذله الله. القلب الخاشع المتواضع يتعلّم الله ولغة الله والصلاةَ إلى الله. “وأبوك الذي يرى في الخفية”، أنت لا يمكنك أن تكذب على الله. الله يرى في الخفية. المهم أن يتحرَّر كل واحد من كذبه. الله الآب السماوي الذي يرى في الخفية هو يجازينا علانية. نحن نجعل أنفسنا في الخفية، وهو الذي يُحدِّث بالروح عنا. “ومتى صلَّيتم لا تُكثروا الكلام كالوثنيّين”. الموضوع ليس موضوع كلام. عند الرسول، خيرٌ لي أن أقول بذهني خمسَ كلمات من أن أقول بلساني عشرة آلاف كلمة. الله لا يحتاج إلى كلام كثير، بل إلى قلب نقي. المصلّي أمام الله طفلٌ لا يعرف يمينه من يساره. الله هو الذي يأخذه بيده إلى حيث يشاء هو.

إذاً، الموضوع ليس موضوع كلام ولا كثرة كلام ولا قلّة كلام. الموضوع أن تجعل نفسك في تيار الله. وهو، بعد ذلك، يتكفّل بكل شيء. أنت لا تعرف كيف، ولا تعرف أحياناً ما تقول وما لا تقول. أحياناً يأخذك ربّك فوق الصلاة فلا تعود صلاتك كلاميّة، تصبح صلاتك دَهَشاً أمام الحضرة الإلهية. أبوكم عالِمٌ بما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه. هو عالِمٌ بكل شيء. هو عارف بكل شيء، وليس بحاجة إلى شيء، وليس شيءٌ مخفِيّاً عنه. صلّوا هكذا: أبانا الذي في السموات… هذه هي الصلاة بامتياز. نخاطبه كأبينا. أبانا الذي في السموات. ليتقدّس اسمك. ليتقدّس اسمك فيّ. ليتقدّس اسمك في كل العالم. أي لتَمْلأ بحضورك كلَّ القلوب وكل الناس وكل العالم. هكذا يتقدّس اسمُه في الخليقة. ليأتِ ملكوتك، متى صار هو موضوع الحضور، إذ ذاك يأتي ملكوتُه. متى جلس المَلِك على عرش القلب، إذ ذاك يأتي ملكوتُه. نحن نسأل في الصلاة الربّية أن تأتي الأيام الأخيرة التي يصير فيها الله الكلَّ في الكلّ ويُبْطَل فيها كلُّ سلطان في هذا الدهر. لتكن مشيئتك، بعد أن يكون الإنسان قد سلكَ في الخفية وتروَّض على إفراغ ذاته، إذ ذاك يصير بإمكانه أن يمتلئ من مشيئة الله. إذ ذاك يمكنه أن يُسايِر الملائكة. يصير شبْهَهم. كما في السماء كذلك على الأرض. ونحن لا نطلب من الله إلاّ الخبز الجوهري، أي نطلبه هو، نطلب جسده. لأنّه أعطى جسدَه خبزاً جوهرياً. نحن بعد أن نكون قد دخلنا إلى المُخدَع، لا نعود نطلب من الله شيئاً على الإطلاق. وجهك يا ربّ أنا ألتمس. لا ألتمس شيئاً آخَر على الإطلاق. واترك لنا ما علينا، كما نترك نحن لمَن لنا عليه. خطيئتي أمامي في كل حين. وأنا واقف أمام الله أذكر خطيئتي، لكي أبقى في الاتضاع. لأنّ الاتضاع وحده هو الذي يجعل الله يبقى أمامي متى وقفتُ أنا بإزائه. واترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمَن لنا عليه. أنا أعرف أنّ عليّ الكثير، رغم ذلك أستعين برحمتك. ولا تدخلنا في تجربة، أي لا تتخلَّ عنا. طالما نحن على هذه البسيطة، على هذه الأرض، فنحن بحاجة إلى نعمة الله كحاجة الرئتين إلى الهواء. لا يمكننا أن نحبس أنفاسنا لحظة واحدة، وإلاّ نموت. لا يمكن لأحد أن يصمد بإزاء التجربة إن لم يكن الله معيناً له. لكنْ نجِّنا من الشرّير. نحن نعرف انّ هناك مَن هو لنا بالمرصاد، لذلك نلوذ بالله دائماً لكي ننجو من الشرّير دائماً. وثقتُنا كاملة لأنّ لك المُلكَ والقدرة والمجد إلى الأبد. أنتَ الإله القدير “الشّداي” القادر على كل شيء. لذلك نلوذ بكَ، فلا تحرِمْنا من نور وجهك.

فمَن له أذنان للسمع فليسمع.

عظة في دير مار يوحنا – دوما، السبت من أسبوع مرفع الجبن، في 17 / 2 / 2007

Leave a comment